كيف انتقلت فرنسا من الدعوة إلى عالم متعدد القطبية، ومن رفض العولمة الأمريكية، إلى عالم آحادي القطبية وعولمة الولايات المتحدة. لماذا حصل التلاقي بين باريس وواشنطن من حول القرار 1559 الخاص بلبنان سنة 2004؟ وما القصة السرية لهذا القرار، وأسباب اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، والاتفاقات بين الرئيسين شيراك وبوش بصدد إسقاط النظام السوري، وموقف “إسرائيل” من ذلك؟ عن هذه الاسئلة يجيب الكتاب الصادر حديثاً في باريس، عن دار “سوي” للصحافي الفرنسي ريشار لابفيير الذي يترأس تحرير اذاعة فرنسا الدولية تحت عنوان: “الانقلاب الكبير: بغداد- بيروت”. يبدأ الكتاب بوقفة عند خطاب وزير الخارجية الفرنسية دومينيك دوفيلبان (رئيس الوزراء حاليا) في فبراير/شباط 2003 امام مجلس الامن الدولي، خلال الخلاف الأمريكي الفرنسي تجاه الأزمة العراقية. في ذلك الوقت قال الوزير الفرنسي أسباب الرفض الفرنسي لحرب جديدة ضد العراق. “لقد اعتقد الكثير من الفرنسيين انها يقظة، لكنها لم تكن اكثر من يقظة فجائية عابرة”. ويبرر ذلك انه لم يكن هناك سياسة محددة او مشروع مضاد. هل هو نقص حاد في ارادة القوة، هل فقدت فرنسا امكانية الدفاع عن مطالبها، هل اصبحت أقل تأثيرا مما كانت عليه في زمن الجنرال ديغول؟ ويدلل الكاتب على هذه الحالة بإقرار القرار 1559 في ايلول/سبتمبر ،2004 والذي يعني التلاقي مع السياسة الأمريكية، الذي يعبر عن نفسه في العراق وفلسطين وايران والحرب ضد الارهاب لاحقا، وشيئا فشيئا يتحول الانقلاب الكبير من ممارسة إلى عقيدة”. ويقول الكاتب في المقدمة ان هذا التلاقي السياسي، عّبر عن نفسه مع “بدء الهجوم “الإسرائيلي” على لبنان في الثاني عشر من تموز/يوليو الماضي، بعد هجوم حزب الله على الخط الاخضر. حتى الاول من آب /اغسطس تسببت غارات الطيران “الإسرائيلي” في سقوط 600 مدني لبناني، وتدمير البنية التحتية للبلد... وأدت إلى تهجير نحو 800 الف لبناني. ورغم هذه الحصيلة المروعة لم يتحرك أحد. لامؤتمر قمة الدول الثماني، الذي انعقد في سان بطرسبورغ، ولا الجامعة العربية، ولا مجلس الامن الذي كانت تترأسه فرنسا في يوليو”. وينتقل للحديث عن مؤتمر روما الذي انعقد في 26 يوليو، والذي انتهى إلى “العمل حالا من اجل التوصل بسرعة إلى وقف اطلاق للنار”. لقد تبين ان المجتمع الدولي ومعه فرنسا اكتفى بالتفرج على “إسرائيل”، وهي تدمر لبنان بمباركة من واشنطن. ويشرح الكاتب كيفية وصوله إلى كتابة هذا الكتاب. ويقول “من اجل استيعاب هذا الانقلاب الفرنسي التقيت بكثير من الدبلوماسيين من اداريين وعسكريين فرنسيين واجانب، تحت الخدمة او في التقاعد. ولأسباب خاصة بهم رفضوا الاشارة اليهم صراحة، وبفضل هؤلاء يأتي الكتاب ليس كمحاولة او رواية، وانما كتحقيق”. ويشير الكاتب إلى شخصيات عربية قدمت له المساعدة على انجاز هذا الكتاب منها الشيخ “ددت” في حضرموت ووليد شرارة وميشال سماحة في لبنان. اجتماع سري بين نصرالله والسفير الفرنسي في بيروت يبدأ الكاتب هذا الفصل المثير الذي عنونه ب”احزر من سيكون على العشاء؟” بالتقدم الذي طرأ على العلاقات الفرنسية - الأمريكية بعد أزمة الحرب على العراق، ويروي انه كل خمسة او ستة اشهر، يستقل مستشار الرئيس الفرنسي موريس غوردو مونتانيو الطائرة باتجاه واشنطن، ليلتقي مع نظيره الأمريكي مسؤول شؤون الامن القومي ستيفن هادلي. وفي كل اجتماع يمضي الرجلان عدة ساعات معا لتنسيق استراتيجياتهما في ما يخص لبنان وسوريا وايران والمناطق الاخرى الساخنة. وبعد ذلك يعود المستشار الفرنسي ادراجه. وما بين كل زيارتين لاتنقطع الصلات بين المستشارين فهما يتهاتفان دائما، وعادة ما يحصل ذلك مرتين في كل اسبوع يومي الثلاثاء والخميس. وحسب افتتاحية الواشنطن بوست اصبح الاليزيه بفضل هذه الدبلوماسية الخاصة، احد اكثر الحلفاء اهمية وفعالية بالنسبة للبيت الابيض. ولفهم اهمية هذا العمل يتوجب العودة إلى كانون الثاني/ يناير من سنة ،2005 مع الاخذ في الاعتبار ان القرار 1559 تم اقراره في 2 سبتمبر/أيلول ،2004 وشكل “قاعدة المصالحة الفرنسية الأمريكية”. ويواصل الكاتب السرد، ان جورج بوش الذي انتخب بصعوبة في الولاية الاولى، اقنعه مستشاروه في بداية الولاية الثانية انه بحاجة إلى حلفائه الاوروبيين ليساعدوه على المستويين السياسي والعسكري، وفي تحمل اعباء فاتورة العملية التي بدأت تكلف دافعي الضرائب الأمريكين على نحو غال جدا. ولايعني ذلك انه يتوجب عليه ان يقوم بتغيير سياسي بل ان يتبع طريقة جديدة سماها خبراء العلوم السياسية “تعدد الأحادية”. اي ان نقوم بنفس السياسة الاحادية، ولكن شريطة ان نقوم باعلام الحلفاء والشركاء. وفي العشرين من يناير يسمي بوش في خطابه للولاية الثانية دول “محور الشر”، مركزا على “الحرية الانسانية” كمحرك للتاريخ، وبذلك تعلن الولايات المتحدة تبني سياسة دعم وتطوير الحركات والهيئات الديمقراطية في داخل كل امة وثقافة، من اجل وضع حد للشمولية. وقد اعاد التأكيد على الأمر نفسه في خطابه عن حال الاتحاد في 2 فبراير. وحدد الشرق الاوسط كهدف للسياسة الجديدة. من اجل وضع هذه السياسة قيد العمل، اختار لها سيدة هي مستشارته الخاصة لشؤون الامن القومي كوندوليزا رايس التي خلفت كولن باول، وفي 18 يناير في حديثها امام مجلس الشيوخ من اجل المصادقة على تعيينها، لم تستشهد رايس الا بالوزير “الإسرائيلي” ناتان شارانسكي المنشق السوفييتي السابق الذي اصبح وزيرا في الحكومة “الإسرائيلية” كممثل عن اليمين المتطرف، وصار كتابه(قضية الديمقراطية) مرجعية لبوش. وحددت بأن مهمتها الاولى في الولاية الثانية هي القيام برحلة إلى اروربا، من اجل دعم “الحرية على مستوى عالمي”، وخصوصا في البلدان التي عارضت الحرب على العراق، أي فرنسا والمانيا. لقد قادتها جولتها على التوالي إلى لندن، برلين، فرصوفيا، انقرة، “إسرائيل”، الضفة الغربية، روما، باريس، بروكسل، اللكسمبورغ. وفي باريس التي وصلتها من روما ألقت الوزيرة الأمريكية خطابا في الثامن من فبراير في معهد العلوم السياسية، اعتبره محيطها “خطابا مرجعيا كبيرا”. قفزت فيه على طروحاتها السابقة التي اطلقتها في سنة 2003 في “العفو عن روسيا، وتجاهل المانيا، ومعاقبة فرنسا”. وبعد ذلك التقت نظيرها الفرنسي ميشيل بارنيه، الذي بدا اقل بريقا من سلفه دوفيلبان، وكان اللقاء حميما، ثم التقت مع شيراك وجرى الحديث عن المرحلة الجديدة والتحضير لاجتماع الاطلسي والقمة الاوروبية الأمريكية المشتركة، التي انعقدت في نفس الشهر في بروكسل. وفي هذا الوقت في 22 فبراير استدعى بوش شيراك للعشاء في منزل السفير الأمريكي في بروكسل. وقد سبق العشاء اجتماع بين الرئيسين تركز على بحث الملف اللبناني السوري، وقد كان الحريري قد اغتيل قبل ثمانية أيام. لقد كان شيراك بحاجة إلى الدعم الأمريكي من أجل تطبيق القرار 1559 وكان شيراك محددا في حديث خلال الاجتماع: “ان من يعرف كيف يعمل النظام في السلطة في دمشق، يعلم من دون شك ان قرار قتل الحريري تم اتخاذه من قبل الرئيس بشار الاسد، وأي افتراض آخر لامعنى له”. وقال شيراك “لا يمكن ان نقول اننا مع الديمقراطية ونتركهم يخنقون الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة (لبنان)، ولكن يجب ان نتصرف بنعومة، وألا نهاجم سوريا مباشرة، لانها سوف تدعو بنجاح إلى التضامن العربي معها. لذا يجب ان يكون هدفنا هو حرية لبنان من السيطرة السورية، فسوريا تعتمد في جزء من حياتها على استغلال ثروة لبنان من خلال نظام فساد منظم من قبل الاوليغاركية في البلدين. ان النظام السوري يشكل آخر نموذج للانظمة الستالينية، ولبنان هو بمثابة كعب أخيل لها”. تنسيق أمريكي فرنسي أعجب بوش بدرس نظيره الفرنسي، وروى عليه ان زوجته لورا لفتت انتباهه إلى ضرورة “مهاجمة سوريا عن طريق لبنان، ولكن كيف بوسعنا ان نحقق هدفنا؟”. ويجيب شيراك محددا قبل كل شيء “أهمية لجنة التحقيق الدولية بصدد اغتيال الحريري” يجب ان تكون قوية ومدعومة من المجتمع الدولي. واصر على وجوب “مساعدة المعارضة اللبنانية، حيث هناك في لبنان اليوم حركة شعبية كبيرة معارضة لسوريا لكن زعماءها يخشون ان يتعرضوا للاغتيال، وبعضهم سوف يتعرض لذلك من دون شك”. وطوّر شيراك بعد ذلك توصية ثانية: يجب عدم خلط المرحلتين السورية اللبنانية، مع عملية السلام في الشرق الاوسط، وإلا سوف نفقد الشيعة الذين سوف ينضمون إلى سوريا. “ان سوريا سوف تظل تتخذ من عملية السلام ذريعة من اجل رفض كل تغيير في لبنان”. وهنا التزم بوش بأن يمرر هذه الرسالة إلى المسؤولين “الإسرائيليين”، وطلب من نظيره الفرنسي ألا يقلق في حال تجددت الحرب الاهلية في لبنان بمجرد مغادرة السوريين للبنان.. لكن شيراك شرح له ان ظروف اليوم مختلفة عن تلك التي سادت في سنة ،1975 وان اجهزة المخابرات السورية اكثر خطرا من الجيش “لكن من الممكن مراقبة انسحابهم، لانهم مكشوفون للشارع، ومعرضون للعواقب”. واصر شيراك على تطبيق فوري للقرار ،1559 واعاد ما سبق ان ذكره لبوش عدة مرات “ان تطبيق القرار 1559 سيكون مميتا بالنسبة للنظام السوري”. وفي حال عدم تطبيق القرار نستطيع ان نظل نقول ان الانتخابات في لبنان لايمكن ان تكون حرة ولا ديمقراطية... وسيكون هناك الوقت الكافي للعودة إلى مجلس الامن من اجل فرض عقوبات. يجب دراسة العقوبات الاقتصادية، المباشرة وغير المباشرة، لأن النظام السوري قائم على نهب منظم للبنان من طرف أعلى هرم السلطة في سوريا”. وكانت الخلاصة في هذا الاجتماع من نصيب بوش الذي بدا مرتاحا جدا للنقاش، فقال “أرى الطريق الذي يجب ان نتبعه بوضوح، انه مشروع شديد الاهمية، انها لحظة عظيمة”. واقترح ان يظل وزيرا الخارجية وفريق المستشارين على اتصال دائم. وباقتراح من رايس تم الاتفاق على ضرورة اعلام ممثل الامم المتحدة الخاص بتطبيق القرار 1559 تيري رود لارسون، لكي يتعاون في وضع هذه الاستراتيجية من دون ان يتدخل في عمل لجنة التحقيق الدولية باغتيال الحريري، التي يجب ان تظل تعمل بطريقة مستقلة ذاتيا. وقد اختتم الاجتماع بإصدار بيان مشترك يطلب “الانسحاب الفوري لسوريا من لبنان، والتنفيذالكامل والفوري للقرار 1559 بكافة عناصره بما يضمن السيادة والاستقلال” وبعد نهاية اللقاء، وقبل تناول العشاء، أطل الرئيسان على الصحافيين والمصورين وكان يبدو عليهما الانشراح، وبادر بوش الصحافيين بالقول، هذا اول عشاء لي في اوروبا بعد اعادة انتخابي، وهو مع شيراك. وهذ تعبير عن الاهمية التي نوليها لعلاقاتنا المشتركة. تناول البحث على العشاء الشأن الايراني، وطلب شيراك من بوش دعم الجهود الاوروبية، حيث تقوم فرنسا والمانيا وبريطانيا منذ عدة أشهر بمساع مشتركة، بهدف الوصول إلى اتفاق لتعليق ايران نشاطاتها النووية. وقد وافق بوش على ذلك، من غير ان يستبعد أي خيار في حال فشل المفاوضات، وعدم توصلها إلى نتائج ملموسة. في هذا الجو المتوتر طار المستشار مونتانيو في نهاية فبراير إلى طهران في مهمة مزدوجة: دفع الملف النووي، والحصول على ضمانات من الايرانيين، بأن يلتزم حزب الله التهدئة في ما يتعلق بتطبيق القرار 1559 الذي يطالب بنزع سلاحه. وفي صورة موازية في بيروت تحرك السفير الفرنسي برنارد ايميه، الذي لعب دورا اساسيا في التقارب الأمريكي الفرنسي والتوصل إلى القرار ،1559 ولكونه من اكثر العارفين لطبيعة التوازنات اللبنانية، أراد أن يستبق كل سوء فهم، وطلب من مساعديه “اقامة صلة مع السلطات الشيعية”، من اجل ايصال “الرسالة المفيدة” المترتبة على القرار ،1559 ويتحدث الكاتب هنا عن الثقل السكاني الذي تمثله الطائفة الشيعية، وعن بعض رموزها البارزة مثل المرجع الشيخ محمد حسين فضل الله. ويقول انه جرى تحديد موعد مع نبيه بري رئيس البرلمان وحركة أمل، اما ايصال الرسالة فيتم عن طريق نواف الموسوي مسؤول العلاقات الخارجية في حزب الله. وهي تتضمن النقاط الاربع التالية: * اولا: لا يرمي القرار 1559 إلى غير هدف واحد هو استعادة السيادة اللبنانية كاملة، وهذا القرار غير موجه ضد احد، وصدر كإجابة على التدخل السوري في الانتخابات الرئاسية اللبنانية. * ثانيا: يجب ان يطبق هذا القرار بالكامل من اجل ضمانة عدالة وشرعية الانتخابات التشريعية، التي سوف تجرى في يونيو ،2005 وفي ما يخص نزع سلاح حزب الله فإن حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ليس جديدا، وهو متضمن في اتفاق الطائف الذي تم الاتفاق عليه بين اللبنانيين انفسهم. * ثالثا: تعارض فرنسا على الدوام وضع حزب الله على لائحة المنظمات الارهابية، رغم الضغوطات البريطانية والايطالية، لانها تعتبر ان لهذه المنظمة بعدا سياسيا فعليا من خلال نوابها الذين يشاركون في الحياة السياسية البرلمانية للبلاد. وسيكون من المهم ألا يقدم الحزب ذلك على طبق من ذهب للذين يرغبون بإقصائه عن المشهد السياسي. * رابعا: من المهم احترام الشرعية الدولية، والخط الازرق الذي تم اعتماده من طرف المجتمع الدولي. هذا خط الهدنة بين لبنان و”إسرائيل”- بما في ذلك مزارع شبعا- يبقى المرجع المعتمد من طرف الامم المتحدة. ويواصل الكاتب سرد هذه الوقائع التي تتناول جوانب مجهولة من علاقات فرنسا مع حزب الله، ويكشف عن اللقاء الذي حصل بين الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والسفير الفرنسي في بيروت برنار ايميه. ويقول ان السيد نصرالله طلب في منتصف نيسان/ ابريل موعدا للقاء سري مع السفير الفرنسي. ارسل ايميه الطلب إلى باريس، موضحا قلق حزب الله الذي يعتبر ان القرار 1559 استخدم من طرف واشنطن وتل ابيب، والاستفسار الاساسي يختص بالشق الثاني من القرار الذي يتحدث عن “نزع سلاح المقاومة”. ويقول الكاتب ان السفير “خان” سرية اللقاء واخبر الأمريكيين في صورة مسبقة، لكي لاينظروا إلى الأمر من زاوية سلبية. ومن أجل أن يهدئوا “الإسرائيليين” الذي يعارضون في صورة دائمة كل خطوة من هذا القبيل”. أعطى “الكي دورسيه” الضوء الاخضر للقاء، محددا انه عدا الرسائل الاربع، لابد من استغلال المناسبة لتوضيح الشروط لمراقبة الاجواء “الإسرائيلية” من قبل طائرة من دون طيار ارسلها حزب الله في 11 ابريل سنة ،2005 “ان هذا التحليق من شأنه ان يرفع مستوى التوتر على طول الخط الازرق”. ويوضح مسؤول كبير في وزارة الخارجية الفرنسية ان التحليق “يعطي ذريعة لاولئك الذين يطالبون بوضع الحزب على اللائحة الاوروبية للمنظمات الارهابية”. في هذا الوقت وجه السيد نصرالله رسالة طويلة إلى فرنسا عبر جريدة “السفير”، وتناولتها صحيفة “الفيغارو” الفرنسية تحت عنوان “رسالة إلى صديق فرنسي”، يذكّر فيها بمواقف حزبه التقليدية، مبتدئا بالحديث عن “عقيدة المقاومة”، واعتبرها انها عنصر “ردع وحماية” في وجه “إسرائيل”، أي ان فعلها محصور في الدفاع وما تقوم به هو بالتشاور مع الجيش اللبناني، وهو يحسب في اطار استراتيجية الدولة اللبنانية. ثم ان القرار 1559 يعتبر “تسوية فرنسية أمريكية تسببت بالحاق الاذى بلبنان، لانها كانت ذات مفعول هز الاستقرار على المستوى السياسي الداخلي”. وذكّر نصرالله بصلة الصداقة الشخصية التي تجمعه بالحريري، واتفاقهما في وجهات النظر، مؤكدا الاتفاق من حول المقاومة، وفي نفس الوقت على مشروع سياسي “حديث ومحدد بالنسبة للبنان الغد”. كان الهدف من توجيه الرسالة التي تعتبر تصرفا سياسيا قويا غير معتاد، هو تمهيد اللقاء السري بين نصرالله والسفير الفرنسي، الذي كان يفترض فيه انه سوف يوسع الآفاق. حصل اللقاء في 16 ابريل 2005 في مكتب السيد نصرالله في الضاحية الجنوبية في حارة حريك، ودام ساعتين ونصف الساعة. وقد استمع نصرالله بانتباه شديد إلى الرسائل الفرنسية، قبل أن يجيب نقطة بنقطة “بصراحة شديدة” حسب تعليق السفير ايميه. استهل نصرالله الحديث بالتأكيد على اهمية اختلاف فرنسا عن الولايات المتحدة، موضحا انه يحترم لفرنسا هذا الموقف، وان “حضور الرئيس شيراك في جنازة الحريري موقف تم تثمينه من طرف اللبنانيين”. واضاف “ان اللبنانيين ينتظرون من فرنسا اليوم ان تساعدهم على المستوى الداخلي، لكي يستيطعوا مواجهة التحديات الخارجية، وحزب الله يعلم ان فرنسا تريد للبنان الامن والاستقرار، لكن ليس من حق أحد فرض ارادته على اللبنانيين”. على المستوى الداخلي، اعتبر ايميه ان هناك مرحلة جديدة قيد البدء في لبنان الذي “يجب ان يأخذ مصيره من الآن بيديه”، وان فرنسا تراهن على حس المسؤولية لدى جميع اللبنانيين، وخصوصا من طرف حزب الله من أجل “انجاح العملية الديمقراطية من خلال المشاركة في الحوار الداخلي”. وتابع السفير يقول “يتوافر اليوم توافق لبناني داخلي من أجل تسوية تدريجية وجدية لقضية المقاومة، وقد حانت لحظة نزع سلاحها، كما ان فرنسا تأمل تطبيقا كاملا للقرار 1559”. وقد رد نصرالله على ذلك بقوله: ان حزب الله يريد هو الآخر لبنانا ديمقراطيا، وسيكون من اول المساهمين فيه كونه يعبر عن الحركة الاكثر شعبية، ويمثل اكبر طائفة في البلد. واضاف ان اقامة “جمهورية اسلامية” في لبنان مسألة غير واردة، وغير ممكنة التحقق نظرا للتعدد الطائفي. وذكّر ان حزب الله كان من اكثر انصار الحريري، وهو يشعر بالسعادة لأن نجله سعد يسير على نفس الطريق. كما ان الحزب يساند العملية الجارية وحكومة ميقاتي الانتقالية، والتوصل إلى قانون انتخابي جديد واجراء الانتخابات في أقرب أجل ممكن، من أجل تفعيل العملية الديمقراطية، وانه جاهز لالتقاء كل القادة السياسيين وممثلي الطوائف وعلى رأسهم البطريرك صفير. كما ان الحزب يريد تعاونا مع لجنة التحقيق الدولية حول اغتيال الحريري، ولكنه يتمنى في نفس الوقت ألا تنحرف اللجنة عن هدفها في البحث عن الحقيقة وكشف المجرم الفعلي، وعليها ان ترفض استخدامها لاغراض سياسية. وفي ما يخص المقاومة الوطنية، ذكّر السفير بضرورة أن يتوقف حزب الله عن خروقاته ضد “إسرائيل” وخصوصا ارسال طائرة من دون طيار للمراقبة. ورد نصرالله مستعينا بالشروحات التي وردت في رسالته “الى صديق فرنسي”، بأن المقاومة الوطنية ليست اكثر من “حاجة دفاعية وردعية” في وجه الخروقات “الإسرائيلية” شبه اليومية للاجواء اللبنانية، من جانب الطيران “الإسرائيلي”. ثم ان ارسال طائرة من دون طيار هو رد متواضع وغير هجومي على الخروقات “الإسرائيلية”. واضاف ان حزب الله لايريد ان يقاتل من دون نهاية، بل هو جاهز للحوار حول مستقبل المقاومة، اذا ما توفر بديل اكثر فعالية لضمان الدفاع عن لبنان، وهو لايقدم اية ضمانة دولية على هذا الصعيد، وخصوصا ل”إسرائيل” التي تنتهك التزاماتها كل يوم. واعاد عدة مرات تكرار مسألة رفض تقديم ضمانات على المستوى الدولي، وقال انه لايقدم ضمانات الا على المستوى المحلي. وقد أبدى السفير القلق والانشغال من حول الدور الذي يلعبه حزب الله على صعيد الداخل الفلسطيني. لكن نصرالله رد على هذه النقطة بقوله: ان حزب الله حركة لبنانية صرفة، ونحن لانقوم بأي عمل عسكري إلى جانب الفلسطينيين، أو في مكانهم. ان المقاومة الوطنية لم تضع نفسها ابدا تحت تصرف أية نزاعات أخرى. وان تحرير فلسطين هو عملية من اختصاص الفلسطينيين وحدهم، ومن حيث المبدأ نحن نساند مبدأ الهدنة التي توصل اليها محمود عباس مع المجموعات الفلسطينية المسلحة”. وحول موضوع سوريا، تمنى نصرالله ان يتم اتباع جانب الحذر “فسوريا بلد مفتاح لمستقبل لبنان، وفي حال استمرار الحرب مع “إسرائيل”، فإنه من مصلحة لبنان واللبنانيين عدم القيام بشيء من شأنه اضعاف أمن سوريا واستقرارها”. وقال ان حزب الله يرفض أي تغيير للسطة في سوريا لانه اذا استهدفت سوريا، سوف تعم الفوضى في كل المنطقة”. اختتم الطرفان اللقاء برسالة نهائية، فمن جانب ايميه اكد على دور فرنسا في لبنان، وان هدفها هو ان تكون إلى جانب جميع اللبنانيين، ومع تنفيذ القرار ،1559 أما نصرالله فقد اعرب عن امله في مواصلة الحوار مباشرة، وفي صورة دائمة، لكنه يخشى كل شيء من جانب الولايات المتحدة. ويكشف الكاتب انه بعد ثلاثة ايام من اللقاء اي في 19 ابريل/نيسان، التقى السفير الفرنسي بنظيره الأمريكي جيفري فيلتمان، واطلعه على ما دار خلال اللقاء وخصوصا الانشغال الأمريكي “الإسرائيلي” من حضور حزب الله في الاراضي الفلسطينية، وارسال طائرات من دون طيار، واكد ايميه على ضرورة الطابع السري للقاء، وان المستشار مونتانيو سوف يحمل مضمونه إلى واشنطن. لكن السفير الأمريكي اجاب بأن اللقاء لقي صدى طيبا لدى وزارة الخارجية الأمريكية، مؤكدا ان واشنطن تتحاور مع حزب الله بطريقة غير مباشرة بواسطة اجهزته الامنية. وأبدى السفير الأمريكي سعادته للأولوية التي تعطيها واشنطن للتنسيق الأمريكي الفرنسي بشأن لبنان. ويشرح هذا التنسيق نفسه من خلال التأثير الذي خلفته محادثات ايميه مع نصرالله، على صعيد تحليق الطائرة من دون طيار. وقد وعد بأنه لن يتخذ اية مبادرة من دون استشارة صديقه ايميه. وقال ان الجزء الاكبر من التفاهم الفرنسي الأمريكي يتحقق على الارض. وواصل الكاتب سرد هذه الوقائع السرية، ويقول في عشاء جرى في واشنطن في 22 ابريل شاركت فيه الوزيرة رايس والمستشار هادلي، ومن الجانب الفرنسي مستشار شيراك والسفير الفرنسي في واشنطن جان ديفيد ليفيت، كانت سوريا ولبنان هما الموضوع الرئيسي للمفاوضات. وقد حيت رايس التعاون الاستثنائي الذي دشن في الخامس من يونيو من ،2004 حين جرى الاجتماع بين الرئيسين في الذكرى الستين لانزال النورماندي، وتوج بعشاء بروكسل في فبراير ،2005 وفي الوقت الذي اشارت إلى الطابع المثالي للقرار ،1559 اعتبرت انه يفتح آفاقا تذهب بعيدا. وقالت رغم هذه النجاحات يجب ان تستمر حالة اليقظة ومواصلة الضغط الدولي على سوريا ولبنان. والحت على ضرورة منع دمشق من التلاعب في عملية سحب جنودها من لبنان، وابدت سعادتها لأن عائلة الحريري اختارت الشاب سعد ليحمل الشعلة، وان الاستمرارية واضحة بالنسبة إلى جميع العالم. وقالت انه سيكون في عداد وفد الملك عبدالله بن عبد العزيز حين يزور واشنطن وسوف يستقبل على اعلى المستويات. وفي باريس كان شيراك قد استقبله، وهو اليوم الوجه الجديد ل”مستقبل لبنان الديمقراطي”، على حد تعبير مستشار شيراك. بدوره ابدى مونتانيو غبطته للتقدم الذي حصل و”التعاون التام” بين البلدين، واشار إلى انه سمح بالحصول على دعم روسيا والبلدان العربية والغالبية العظمى من المجتمع الدولي. ولكن مستشار شيراك تساءل : اين نحن اليوم، فلقد حصل الانسحاب السوري وحكومة ميقاتي مرضية، وبقي الحصول على القانون الانتخابي، وكذلك ضرورة ممارسة الضغط على حزب الله لكي يندمج بالدولة اللبنانية؟”. أما المشكلة الأخرى التي تم الوقوف امامها فهي تتعلق بالامن، حيث لا يفضل اللبنانيون اتفاق سلام منفصل مع “إسرائيل”، فهو يذكرهم بذلك الذي وقعه بشير الجميل في مايو ،1983 والذي كانت نتيجته استئناف الحرب. ويقول مونتانيو هنا “ان ما نأمله هو ان يكون لبنان من دون عداوة مع سوريا، وليس تابعا لها، ولهذا لابد من جيش قوي بحاجة إلى تجهيزات وتدريب تقدمها فرنسا واوروبا والولايات المتحدة. أبدت رايس موافقتها على جميع النقاط، لكنها اضافت إلى النقاش القلق “الإسرائيلي” من حزب الله بعد انسحاب الجيش السوري، فيما اعتبر مونتانيو ان استمرار تطور الموقف في لبنان يضعف النظام السوري، ويدفع حزب الله لترتيب مستقبله كقوة سياسية وليس عسكرية. وعرض مستشار شيراك تقريره عن اجتماع ايميه مع نصر الله والذي اقترحت رايس ان يترجم فورا إلى الانجليزية وترفع منه نسخة إلى بوش، واقترحت ان يتم ارسال مبعوث فرنسي إلى دمشق لينقل رسالة واضحة وصريحة تقول للمسؤولين هناك، “اننا نمسك باعناقكم، وبوسعنا خنقكم. توقفوا عن التدخل في لبنان، ولا تزال امامكم الفرصة سانحة لاختيار استراتيجي. طبقوا القرارات التي اتخذتموها في مؤتمر حزب البعث في يونيو بصدد الاصلاح السياسي والاقتصادي، وإلا فإنكم لن تستعيدوا الجولان ابدا”. لم يكن مستشار شيراك بعيداً عن هذا الرأي، وخصوصا في ما يتعلق باستمرار الضغوط على النظام السوري، ولكن بالنسبة إلى فرنسا “نستطيع ان نتحدث بصراحة مع المسؤولين السوريين، ولكن يجب ان يتم ذلك في السر. وفي العلن يجب ألا نعطي الانطباع بأننا نريد اسقاط النظام السوري. ولم يستبعد مونتانيو ان هذا النظام يمكن ان يسقط من خلال انقلاب عسكري من طرف زوج شقيقة بشار آصف شوكت الجاهز لكل شيء لازاحة العصابة العائلية. وتمتلك رايس معلومات في نفس الاتجاه، لذا على بشار ان يفهم بأن المجتمع الدولي وحده القادر على انقاذه، شريطة ان ينقل البارودة إلى الكتف الآخر، وطالبت بتحضير مشروعين أوليين مكتوبين حول هذا الامر، ووعد مستشار الرئيس الفرنسي ان يكلف من طرفه ديبلوماسيين للعمل على “اللاورقة”. _________________ مع أطيب تحيات محمود كعوش
د .محمد ناصر.
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
383,418
ساحة النقاش