اقرأوا هذا الكِتاب!

جواد البشيتي

بين يديِّ كِتاب (ضخم جديد) في منتهى الأهمية العلمية والمعرفية؛ وسيَثْبُت لكَ ذلك، ويتأكَّد، إذا ما تجَشَّمْتَ قراءته.

عنوان الكِتاب هو "حصاد القرن ـ المنجزات العلمية والإنسانية في القرن العشرين"؛ أمَّا "المجلَّد الثالث" من الكِتاب، وعنوانه "العلوم الأساسية والتكنولوجيا"، والذي لم أنْتَهِ من قراءته بَعْد، فقد شرح أهميته أ.د همام غصيب إذ قال فيه: "هو الثالث والأخير من هذا العمل الموسوعي التنويري، يسلِّط الضوء على أهم منجزات القرن العشرين في العلوم والتكنولوجيا.. فها هي الثورات العلمية التي زلزلت المعمورة في القرن الماضي، ومهَّدت لقرننا الحالي، تتبدَّى بكل رونقها، وبهائها، سطراً بعد سطر، وصفحة بعد صفحة، وفصلاً بعد فصل.. لقد عايشتُ هذا المشروع التربوي وعايشني سنوات طوالاً، حتى أصبح جزءاً من كياني. انطلقتُ من المادة المتميِّزة التي قدَّمها الكُتَّاب الأفاضل كي نخلص إلى مجلِّد رفيع المستوى، يمكن أنْ يشكِّل مرجعاً في مجاله للقارئ العام، والطالب الطموح، وحتى لأهل الاختصاص".

ولقد جاء هذا العمل الموسوعي (الذي تفتقر المكتبة العربية إلى أمثاله) يَحْمِل بصمات أ.د همام غصيب، الذي لرسوخِهِ في عِلْمَيِّ الفيزياء النظرية واللغة العربية عَرَفَت مادة الكِتاب التحرير العلميِّ المُتْقَن؛ فمهمَّة "التحرير والمراجعة والإشراف" التي تولَّاها الصديق همام غصيب أُنْجِزَت على خير وجه.

واستأثر باهتمامي "الفصل الثاني"، وعنوانه "العلوم الفيزيائية"؛ فلقد أجاد كاتبه أ.د محمد باسل الطائي في شرح وبسط أهم النظريات الفيزيائية للقرن المنصرم، ومنها على وجه الخصوص نظريتيِّ "النسبية الخاصة" و"النسبية العامة" لآينشتاين، على ما يكتنف فهمهما وتمثُّل معانيهما من صعوبة؛ وفي هذه المقالة، سأكتفي بمناقشة وجيزة لبعضٍ ممَّا تضمَّنه هذا البحث القيِّم.

الباحث عَرَضَ لمشكلة "الأثير"، وكيف حلَّها آينشتاين نهائياً بنظرية "النسبية الخاصة"، التي نشرها سنة 1905.

لقد نشأت هذه المشكلة إذ فُهِم "الفضاء (الكوني) الفارِغ (الخالي)" Empty space على أنَّه شيء لا يمتُّ بصلة إلى "الوسط المادي"، أو إلى "المادة" على وجه العموم، وكأنَّه "النقيض (بمعناه الميتافيزيقي)" لـ "عالَم المادة"، أو لـ "العالَم المادي".

وأحسبُ أنَّ الفيزياء في القرن الحادي والعشرين مَدْعوَّة إلى أنْ تكون أكثر وضوحاً في فهم "الفضاء الفارغ" على أنَّه "نوع مخصوص" من "الوسط المادي"؛ فمن حيث المبدأ والجوهر والأساس لا فَرْق بين هذا الوسط (الفضاء الفارغ) وبين "وسط الهواء" مثلاً؛ وإلاَّ ما معنى "انحناء (وتقوُّس) الفضاء (الفارغ)"، وامتلائه بهذا النوع المخصوص من "الطاقة"، والمسمَّى "الطاقة الداكنة"، التي إليها يُعْزى تمدُّد الفضاء (بين مجموعات المجرَّات) وتسارُع هذا التمدُّد (الآن)؟!

في حديثه عن مبدأيِّ "النسبية الخاصة"، أوْرَد الباحث "المبدأ الثاني" على النحو الآتي: "إنَّ سرعة الضوء في الفراغ هي ثابت كوني، لا يعتمد على الحالة الحركية للمراقب".

وكان ينبغي له (دَرْءاً للالتباس وسوء الفهم) أنْ يوضِّح "الشروط"؛ فهذا المبدأ صحيح في "عالَم النسبية الخاصة"، أيْ في فضاءٍ يخلو تماماً من "القوى (الخارجية)" و"الجاذبية"؛ وإنَّ سرعة الضوء هي "ثابت كوني"، أيْ لا تزيد، ولا تقل، عن 300 ألف كم/ث، تقريباً، إذا ما كان الضوء يسير في "الفضاء الفارغ"، وإذا ما كان المراقب الذي يقيس سرعة هذا الضوء، موجوداً هو أيضاً في "الفضاء الفارغ"، ويسير بسرعة ثابتة، وفي مسارٍ مستقيم (أيْ إذا ما كان هذا المراقب "مراقباً قصورياً (غير متسارِع)".

ونحن يكفي أنْ نَذْكُر ونتذكَّر هذه "الشروط" حتى نكتشف الخطأ في إطلاق قول ".. هي ثابت كوني، لا يعتمد على الحالة الحركية للمراقب"؛ فالمراقب يكفي أنْ يتسارَع (بمعنى ما من معاني التسارُع) حتى يتغيَّر هذا "الثابت الكوني". لو شرعت سرعة هذا المراقب تزداد كل ثانية لتباطأ الزمن لديه، ولوَجَدَ أنَّ سرعة الضوء في "الفضاء الفارغ" تَفُوق 300 ألف كم/ث.

الباحث، في شرحه لـ "تباطؤ (أو تمدُّد) الزمن" Time dilation، قال: "لو أنَّ شخصاً كان جالساً في غرفة يراقب حادثة تكرارية ذات معدَّل زمني ثابت، فإنَّ شخصاً آخر يركب قاطرة يمرُّ قرب شُبَّاك الغرفة لن يَجِد المعدَّل الزمني الثابت نفسه؛ بل سيجده أطول ممَّا يخبره به المراقب الساكن".

هذا المثال لم يكن واضحاً بما يكفي لشرح وبَسْط مفهوم "تباطؤ (أو تمدُّد) الزمن"؛ فهل "الشخص الآخر"، أيْ الذي يركب القاطرة، يسير بسرعة ثابتة، وفي خطٍّ مستقيم، أم يسير سيراً متسارِعاً؟!

وما معنى كلمة "أطول"؟!

وجلاءً للغموض والإبهام عن هذا المثال، أقول إنَّ "الشخص الآخر" يجب أنْ يكون "متسارِعاً"؛ لأنَّ الزمن لديه لن يبطؤ، أيْ لن يتمدَّد، إلاَّ إذا تسارَع؛ وأقول أيضاً، وعلى سبيل الافتراض، إنَّ "الشخص الساكن"، أيْ الجالس في غرفته، كان يحسب عدد ضربات قلبه في الدقيقة الواحدة (الحادثة التكرارية). ولقد أخبر "الشخص الآخر" إذ حسبها، أنَّ عددها 72 ضربة في الدقيقة الواحدة (بحسب ساعته هو، أيْ بحسب ساعة الشخص الجالس في غرفته).

إنَّ "الشخص الآخر" لن يُصدِّق هذا القول؛ لأنَّه وَجَد أنَّ عدد ضربات قلب الشخص الساكن (الجالس في غرفته) كان 72 ضربة في كل نصف دقيقة (بحسب ساعته هو، أيْ بحسب ساعة الشخص الذي يركب القاطرة) وليس في كل دقيقة.

الزمن يتباطأ (يتمدَّد) لدى الشخص الذي يركب القاطرة؛ وإنَّه يتباطأ من وجهة نظر الشخص الساكن، الجالس في غرفته؛ أمَّا الزمن لدى الشخص الساكن فيتسارع (يتقلَّص). وإنَّه يتسارع من وجهة نظر الشخص الذي يركب القاطرة (أيْ الذي يسير في تسارُع). وهذا إنَّما يعني أنَّ الحادثة (نفسها) تِسْتَغْرِق زمناً أقصر (لا أطول) عند حدوثها في غرفة المراقب الساكن، إذا ما راقبها الشخص المتسارِع.

ومن هذا المثال، انتقل الباحث إلى بسط وشرح "مفارقة التوأمين" Twin paradox، قائلاً: "قيل (في أمْر هذه المفارقة) إذا كان تباطؤ الزمن صحيحاً، فإنَّ توأمين يفترقان، فيبقى أحدهما على الأرض، ويسافر الآخر على متن مركبة فضائية تسير بسرعة عالية جداً، سيجدان نفسيهما قد اختلفا كثيراً في العمر حين يلتقيان مرَّة ثانية بعد انتهاء جولة التوأم الثاني. وسبب الاختلاف المتصوَّر في العمر هو أنَّ التوأم الثاني قد خضع لحركة بسرعة علية جعلت زمانه يتباطأ مقارنةً بالتوأم الذي بقي على الأرض. لكنَّ هذه المفارقة غير واردة في أصلها؛ لأنَّ الحركة نفسها نسبية؛ ففي الوقت الذي يرى التوأم الأوَّل أخاه يركب الفضاء متحرِّكاً بسرعة عالية، فإنَّ التوأم الثاني يرى أخاه الذي على الأرض متحرِّكاً (بالأرض وما عليها) بسرعة عالية أيضاً. لذلك، فلا صحة للقول بوجود مفارقة التوأمين في نظرية النسبية الخاصة. أمَّا إذا تحدَّثنا عن تأثيرات تغيُّرات السرعة بالتباطؤ أو التسارع (بما في ذلك تغيير اتِّجاه الحركة) بحسب ما تقرِّره نظرية النسبية العامة فهذا شيء آخر".

"
المحرِّر" علَّق على عبارة ".. فلا صحة للقول بوجود مفارقة التوأمين في نظرية النسبية الخاصة"، قائلاً: معظم الفيزيائيين يرى أنَّ هذه المفارقة "حقيقية"؛ وتفسيرها يكمن في عدم تماثل وضع التوأمين؛ إذ أنَّ التوأم المسافر لا بدَّ أنْ يغيِّر إطاره المرجعي حين يغيِّر اتجاهه للعودة إلى الأرض".

إنَّني أرى أنَّ "مفارقة التوأمين" تَخُصُّ "النسبية العامة"، ولا تَخُصُّ "النسبية الخاصة"؛ فالتوأم المسافِر يتباطأ الزمن لديه ليس لكونه (مع مركبته الفضائية) يسير بـ "سرعة عالية جداً"؛ وإنَّما لكونه في حالة "تسارُع".

هذا المسافِر لا بدَّ لسرعته من أنْ تزداد في استمرار، بعد انطلاقة من الأرض؛ ولا بدَّ لها من أنْ تتناقص قبل، ومن أجل، العودة إلى الأرض؛ ولا بدَّ لاتِّجاه حركته من أنْ يتغيَّر إذا ما أراد العودة إلى الأرض (ينبغي له أنْ يستدير عائداً). وفي أثناء العودة، لا بدَّ لسرعته من أنْ تتزايد؛ ولا بدَّ لها من أنْ تشرع تتناقص قبل، ومن أجل، الهبوط على سطح الأرض.

إنَّ هذا "التسارُع"، وبكل معانيه التي شرحناها، هو (لا السير بـ "سرعة عالية جداً") الذي يكمن فيه سبب تباطؤ الزمن لديه.

وهذا المسافِر لن يتأكَّد أنَّ توأمه (على الأرض) قد شاخ، وأصبح يَكْبُره سِنَّاً إلاَّ عند عودته إلى الأرض.

أُوافِق الباحث قوله "لا صحة للقول بوجود مفارقة التوأمين في نظرية النسبية الخاصة"؛ لكنْ، هل يبقى هذا المثال جزءاً من عالَم "النسبية الخاصة" إذا ما تغيَّرت (زيادةً ونقصاناً) سرعة المسافِر، وإذا ما تغيَّر "اتِّجاه" سيره؟!

وأخالِف "المحرِّر" في قوله "معظم الفيزيائيين يرى أنَّ هذه المفارقة حقيقية (في عالَم النسبية الخاصة). وتفسيرها يكمن في عدم تماثُل وضع التوأمين.."؛ فـ "المحرِّر" يكفي أنْ يفسِّر ويعلِّل هذه "المفارقة" كما فسَّرها وعلَّلها (تغيير الإطار المرجعي للمسافر بسبب تغيير اتِّجاه حركته لدى عودته إلى الأرض) حتى تُدْرَج "المفارقة" في سياق "النسبية العامة" لا "النسبية الخاصة".

وتحدَّث الباحث عن "انكماش الأطوال" Length contraction، فقال: "يرى الراصد (المراقب) المتحرِّك بسرعة عالية الأشياء الساكنة وقد انكمش طولها الذي في اتِّجاه حركته".

وتوضيحاً، أقول إنَّ الجسم الذي في حركة نسبية، أيْ الذي يتحرَّك من وجهة نظر هذا المراقب، هو الذي ينكمش طوله، ويتقلَّص. إنَّ طول هذا الجسم ينكمش في الاتِّجاه الذي يتحرَّك فيه (الجسم). وإنَّه ينكمش من وجهة نظر ذاك المراقب، الذي يرى نفسه "ساكناً"، مع أنَّه يسير بسرعة ثابتة، وفي الاتِّجاه نفسه.

ولو كان هذا "الجسم" مراقباً (ساكناً) لرأى أنَّ ذلك "الراصد"، الذي يسير بسرعة عالية، هو الذي ينكمش طوله في الاتِّجاه الذي يتحرَّك فيه.

الباحث، ومن وجهة نظري الشخصية، لم يكن موفَّقاً في ترجمته "Geodesics" بـ "المعارِج"؛ لأنَّ "معراج" تفيد كثيراً المؤوِّلين (من أمثال الدكتور زغلول النجار) الذين يتوفَّرون على اكتشاف "إشارات قرآنية إلى نظريات فيزيائية وكوزمولوجية".

لقد سبق للدكتور النجار أنْ عاث فسادا لغويا في كلمة "يَعْرُج"، التي معناها الحقيقي "يَصْعَد"، في الآيتين "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ"، و"تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ".

لقد أقحم في الكلمة "يَعْرج (أو تَعْرج)" معنى "السير في الفضاء في خط منحنٍ"، فآينشتاين في نظريته "النسبية العامة" قال بـ "انحناء الفضاء"، وبأنَّ الأجسام، من ثمَّ، لا بد لها من السير في خطوط منحنية، فالسير في الفضاء في "خط مستقيم" إنما يشبه السير في محاذاة خط الاستواء، فأنتَ تعتقد، أو تتوهم، أنكَ تسير في "خط مستقيم" في محاذاة خط الاستواء الذي هو دائري. والسير في خطوط منحنية في الفضاء يجب أن تشذ عنه "الملائكة" و"الروح"، فلا هذه، ولا تلك، بأجسام "مادية" حتى يتأثر سيرها بـ "انحناء الفضاء". 

النجار عاث فسادا لغويا في كلمة "يَعْرُج"، ثم أفسد المعنى الديني لـ "الملائكة" و"الروح" إذ جعل هذه وتلك كمثل أجسام "مادية" تتأثر بـ "انحناء الفضاء (أو المكان)"، فبئس ما "أبدع" لغويا ودينيا!

"
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ". الدكتور زغلول، وعلى جاري عادته، يُقْحِم في الآيات القرآنية معانٍ غريبة لا تمتُّ بأدنى صلة إلى معانيها الحقيقية. في هذه الآية، اكتشف إشارة قرآنية إلى "انحناء الفضاء"، الذي جاءت به نظرية "النسبية العامة" لآينشتاين.

كلمة "يعرجون" زعم أنَّ معناها اللغوي هو "سير الجسم في خط منحنٍ". زعم ذلك مع أنَّ كل معاجم اللغة العربية تُجْمِع على أنَّ "يَصْعَدون" هو معنى هذه الكلمة.

يقول الباحث إنَّ العلم أثبت أنَّ حركة الأجسام في الفضاء لا يمكن أنْ تكون في خطوط مستقيمة، فوجود المادة والطاقة في الفضاء يُرْغِم أي جسم على السير في خط منحنٍ.

الآية كانت تتحدَّث عن قوَّة كفر المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق، فلو فتحنا على هؤلاء بابا مِنَ السماء فظلَّت الملائكة تعرج (تصعد) فيه وهم يرونهم عياناً لقالوا إنَّما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون. هؤلاء لو صعدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لأصرُّوا على الكفر.

هل يريد النجار أنْ يقنعنا بأنَّ "الملائكة" تتأثَّر هي أيضاً بحقول الجاذبية في الفضاء، فتضطر إلى السير في خطوط منحنية؟!

إذا كان معنى كلمة "يعرجون" هو السير في خط منحنٍ، وإذا كانت الملائكة تعرج في هذا الباب، فهذا يعني أنَّ الملائكة تتأثَّر بحقول الجاذبية، وتضطر، من ثمَّ، إلى السير في خطوط منحنية، وكأنَّها تخضع لقانون فيزيائي!

إنَّ الخط "الجيوديسي" هو "المستقيم في فضاءٍ مُنْحَنٍ (أو على سطح جسم كروي)". وهذا الخط هو "مستقيمٌ"، ولو انحنى بانحناء الفضاء نفسه؛ لأنَّه يمثِّل "المسافة الأقصر (دائماً) بين نقطتين"؛ فـ "المستقيم"، الذي هو تعريفاً "المسافة الأقصر بين نقطتين"، إمَّا أنْ يستقيم باستقامة السطح (أو الفضاء) وإمَّا أنْ ينحني بانحنائه؛ فَلْنَنْبُذ "معارِج"، وَلْنأخُذ بـ "المستقيمات المنحنية".

وستتأكَّد لنا أهمية وضرورة أنْ تأتي الترجمة (أي ترجمة المفاهيم الفيزيائية بالعربية) خالصة نقية ممَّا يَخْدُم مآرب "المؤوِّلين" إذا ما عُدْنا إلى "المهزلة" في مثال ترجمة "Atom" بـ "الذَّرة".

"
الذرَّة"، لغةً، هي "الهباء المنتشر في الهواء"، و"القدر الضئيل مِنَ التراب أو غيره". والقرآن في تعبيره عن "أقل شيء"، أو عن "ما لا قيمة له"، يَسْتَخْدِم عبارتي "مثقال ذرَّة"، و"مثقال حبَّةٍ مِنْ خردل". و"الذرَّة"، في تفسيري الجلالين والقرطبي، هي "أصغر نَمْلة".

إنَّ "الذرَّة القرآنية" ليست هي ذاتها "الذرَّة" Atom في الفيزياء والكيمياء. وعندما اكْتُشِفَت "الذرَّة" Atom حار اللغويون العرب في تعريب الكلمة إلى أنْ اتَّفقوا على اتِّخاذ لفظ "ذرَّة" تسميةً لـ " Atom". وكان ممكنا أنْ يتَّخِذوا لفظاً آخر تسميةً لها (لفظ "كِسْرَة" مثلاً).

"
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا". انْظُروا إلى عبارة "مثقال ذرَّة" مِنْ هذه الآية. لو أرَدْتُ أنْ أجِدَ في هذه العبارة إشارة إلى "الذَّرة" Atom لوجدتها عَبْرَ "تأويل مشابه". إنني أستطيع القول (أي كنْتُ أستطيع القول في وقت اعتقد الفيزيائيون أنَّ الذرَّة هي الجزء الأصغر مِنَ المادة وغير القابل للانقسام) إنَّ في عبارة "مثقال ذرَّة" إشارة قرآنية إلى أنَّ المادة يمكن أنْ تنقسم، وتستمر في الانقسام، حتى تبلغ منتهاها في الصِغَر والضآلة، وهو "الذرَّة"!

"
لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ ولا فِي الأرْضِ ولا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ ولا أَكْبَرُ". في هذه الآية مِنْ "سورة سبأ" اكتشف مصطفى محمود إشارة قرآنية إلى "الجسيمات دون الذرية" كـ "الإلكترون" و"البروتون" و"النيوترون" و"الكوارك" و"النيوترينو"..! 

قال: "قديماً، كانوا ينظرون إلى مثقال الذرَّة على أنَّه أصغر مثقال. وكانوا ينظرون إلى الذرَّة على أنَّها مادة غير قابلة للانقسام، أي أنَّها لا تتألَّف مِنْ جسيمات أصغر. وها نحن نرى في هذه الآية إشارة قرآنية إلى ما هو أصغر مِنَ الذرَّة".

أوَّلاً، لا أعْرِف لماذا تجاهل مصطفى محمود الآية "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ"؟! لماذا اهتمَّ بـ "مثقال ذرَّة" وأهمل "مثقال حبَّةٍ مِنْ خرْدلٍ"؟!

تخيَّلوا أنَّ اللغويين العرب اتَّخذوا لفظ "الطارق" تسميةً لـ "النجم النيوتروني". لو فعلوا ذلك لجاءنا مصطفى محمود مكتشفاً "إشارة قرآنية" إلى هذا النجم!

أمَّا "الأصغر مِنْ مثقال ذرَّة" والذي تضمَّنَتْهُ العبارة القرآنية "ولا أصغر مِنْ ذلك" فهو شيء أكبر مِنْ "جزيء الماء" بآلاف أو ملايين المرَّات، فأصغر "نَمْلة" تتألَّف مِنْ ملايين الجزيئات. ومع ذلك جَرؤ مصطفى محمود على الادِّعاء بأنَّ "الأصغر مِنْ مثقال ذرَّة" هو "الجسيم دون النووي" كـ "الإلكترون" أو "البروتون" أو "الكوارك"..؟!

إنَّ على "الفيزياء" أنْ تظل محترسة، حَذِرة، من "الميتافيزياء"؛ وهذا إنَّما يُرتِّب على المترجمين العرب مسؤولية أنْ يُتَرْجِموا المفاهيم الفيزيائية (من لغاتها الأصلية) بما يقيها شرور "التأويل" و"المؤوِّلين".

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 279 مشاهدة
نشرت فى 19 ديسمبر 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

383,549