د/محمد ناصر الخوالده   

يعتبر الإعلام متعدد الوسائط       Edia                  Multim      هو عنوان الثورة   الإعلامية التي نشهدها في العصر الحالي، إذ يمزج بين مختلف أنواع الإعلام والتكنولوجيا، فنجد الصوت والصورة والرسم والعمارة والنص الأدبي والمهارة اللغوية والتقنيات التكنولوجية، والبث الرقمي، واستخدام الكومبيوتر والإنترنت، كل ذلك يتحالف معاً لانتاج إعلام بالغ التعقيد والكثافة والإبهار. وهذا المزج لوسائط إعلامية كانت في ما مضى مفصلة عن بعضها البعض، أو يشتغل عدد محدود منها معاً في أحسن الحالات، هو الذي يمثل المعلم الأبرز لتلك «الثورة». وإذا كان عديدون منا يتابعون إلى هذا الحد هذا الجانب أو ذاك من ثورة تكنولوجيا الإعلام غير المسبوقة، فان قليلين منا هم أولئك الذين هضموا واستوعبوا الصيرورة التاريخية لقيام هذه الثورة ولاحقوا تطوراتها المدهشة حقبة اثر حقبة. ويأتي هذا الكتاب الثري ليكون بمثابة الوجبة الدسمة التي لا غنى عنها لمن يريد أن يربط حاضر ثورة الإنترنت والميديا متعددة الوسائط ببداياتها الأولى وتوقعات كبار منظريها منذ منتصف القرن التاسع عشر. وفكرة الكتاب ذكية وممتعة في آن معاً، إذ تقوم على إعادة نشر أهم ما نشر في حقل الإعلام متعدد الوسائط خلال القرنين السابقين، ابتداء من الإرهاصات الأولى وانتهاء بتعقيدات الإعلام الرقمي الفضائي والإنترنت. وتشير المقالات المتضمنة فيه كيف كان العلماء ينظرون إلى المحطات الانعطافية التي كانوا يعتقدون بأنها شكلت مرحلة انقضاء إحدى الوسائط الإعلامية وانقراضها، كالكتب على سبيل المثال. لكن يبقى القاسم المشترك للمقالات «التنبئية» التي أبدعها أساطين الفن والإعلام والصورة والصوت هو كونها حامت حول «المستقبل» الذي آلت إليه فروع الفن الإعلامي المختلفة، ألا وهو حاضر الإعلام متعدد الوسائط multimedia الذي نعيشه حالياً.فمثلاً نرى في الدراسة الأولى التي كتبها أصلاً الموسيقار والفنان الألماني الشهير ريتشارد فاغنر سنة 1849 بعنوان «العمل الفني المستقبلي» استشرافاً مثيراً لما ستؤول إليه حال مزج وسائط الإعلام المتعدد من خلال طبيعة العمل الفني الذي دعا إليه وطبقه. ففاغنر الذي كان مؤمناً بعبقرية موسيقى الأوبرا التي تؤدى أمام الجمهور على المسارح كان يرى أن إدخال الصوت والصورة والإضاءة والديكور المعماري والرسوم الخلفية كمكونات عضوية في الأداء الأوبرا لي يمثل طفرة جذرية في العمل الفني لم يشهدها العالم منذ زمن الإغريق.وفي عام 1916 أصدرت مجموعة من «المستقبليين الإيطاليين» مانيفستو حول مستقبل السينما هاجموا فيه «بلادة وجمود الكتاب» مقابل «مرونة وحيوية السينما». وتوقعوا في «بيانهم» أن سنوات الكتاب باتت معدودة أمام النجاح المطرد والمتصاعد للسينما، التي اعتبروها أكثر تعبيراً عن مشاعر الإنسان وقدرة على تركيب صورة متكاملة وعضوية عن معاناته وفرحه وأحلامه. وسبب هذا «التعصب» للسينما كان يعود إلى ما رأوه فيها من تجمع لكل الفنون البصرية والسمعية والكتابية التقليدية، أو بكلمة أخرى صورة أولية من «الإعلام متعدد الوسائط» الذي نشهده حالياً. على أن ما تخيله فاغنر ثم أنصار سينما المستقبل الإيطاليون لم يتجاوز مرحلة «التكامل integration بين عناصر «العمل الفني والإعلامي» لكن كوحدة منفصلة ومكتفية بذاتها تتعامل مع جمهور المتلقين من دون أن يتواصلوا معها. لكن الانتقال، ولو النظري في المرحلة الأولى، إلى بدايات الطفرة الجذرية الثانية كان على يد نور برت فاينر، الهنغاري الأصل، في كتابه الشهير Cybernetics عام 1948 الذي أسس لمرحلة «التواصل الحي interactivity، والتي تشكل الآن الجوهر المثير والجذاب في وسائط الكومبيوتر والإنترنت والفيديو. ففاينر كتب ببصيرة ثاقبة في تلك السنوات أنه لا يمكن فهم المجتمع إلا من خلال وسائل الرسائل والاتصال التي تنتمي إليه وتقوم بين مكوناته. وأشار إلى أن التطورات في المستقبل في مجال هذه الرسائل وأنماط الاتصال سوف تحمل أشكال اتصال بين الإنسان والآلة، وبين الآلة والآلة وبين الإنسان والإنسان عبر الآلة مباشرة، وسوف تتضاعف أهميتها بشكل مطرد.وعلى هذا المنوال يتواصل الكتاب مستضيفاً العالم تلو العالم من اولئك الذي أسسوا المبادئ الرئيسية لعلم الإعلام متعدد الوسائط، إلى أن يصل إلى عقد التسعينات من القرن الماضي الذي شهد مع نهاية القرن نهاية الأحلام البسيطة للعلماء السابقين والانطلاق إلى فضاء الإنترنت وألعاب الكومبيوتر المتخصصة بالحقيقة الافتراضية وحيث يشارك في هذه الألعاب أكثر من متبار ويتبادلون الاتصال والتنافس على مسرح اللعبة وكأنهم في أرض الواقع. ويرصد الكتاب هنا دراسة الأميركي بافال كيرتس عن «الحقيقة الافتراضية المعتمدة على النص وأبعادها الاجتماعية» سنة 1992 كنقطة تحول كبرى في عالم «الحقيقة الافتراضية» خاصة لأنها ليست تقنية الأبعاد فحسب بل تقدما منظوراً اجتماعيا وسيكولوجياً لهذا التطور العلمي. ولعل اختتام الكتاب بدراسة الفيلسوف ومنظر الإعلام الفرنسي بيير ليفي كان أمراً حالفه التوفيق، إذ نقرأ في دراسته المعمقة تصوراً «عولمياً» عن «الفضاء السيبري cyberspace وكيف أن هذا الفضاء بات عالماً جديداً له قوانينه وتأثيراته واندفاعاته وضغوطاته على الهياكل الاجتماعية التقليدية المعروفة. وأهم ما يرصده ليفي في هذا «الفضاء الجديد» هو تكاملية وتواصلية المبدع مع المتلقي وانتقال عملية الإبداع برمتها من صفتها الفردية البحتة إلى مرحلة أن تصبح إبداعيا يساهم فيه الجميع بدينامية لا تنقطع، عبر التواصل الحي والتغذية الراجعة والمساهمة المباشرة في تأسيس وتصميم العمل الإبداعي، إعلاميا، كان أم اتصالياً أم فنياً. وبسبب استحواذ فكرة «الإبداع الجماعي» كمميز للفضاء السيبيري الجديد فان ليفي نحت مصلحه الشهير، «الذكاء الجماعي»" الذي وضعه عنواناً لأحد أهم كتبه عن «الفضاء السيبيري» عام .1994 لا تغني مراجعة هذا الكتاب عن قراءته خاصة بالنسبة للمتابعين والمهتمين بمستقبل الإعلام متعدد الوسائط واحتمالات تطوراته وعلاقتها العضوية بالمسارات التي سار فيها. والملاحظ في معالجات الكتاب، خاصة في المقدمة التي كتبها المحرران، وفي تقديم الفصول وفي انتقاء الدراسات نفسها أن المحررين ابتعداً عن إقحام السياسة والتوظيف السياسي وتحليل تطور هذا الحقل من الإعلام بالسياسة. وإذا كان البعض قد يرى في هذا الأمر تجاهلاً لعامل مهم في رسم مسارات تطور الإعلام المعولم، فان نفس هذا الأمر قد يرى كإيجابية للكتاب أبعدته عن سجالات السياسة وأبقته في دائرة ما هو ممتع.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 2241 مشاهدة
نشرت فى 17 ديسمبر 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

364,259