د . محمد ناصر الخوالده
في: 4/20/2005
إن الفساد داخل الكونغرس منتشر لدرجة دعت أحد الباحثين إلى القول : إن الفساد منتشر في الحكومة كانتشار الجريمة في الشوارع ، ولكن العلاقة هو أنه لا يوجد من يصوت للمجرمين في الشوارع ، ولكن الشعب مازال يصوت للحكومة .
كما أن الكونغرس يقوم من خلال الإفساد والأعمال السيئة بتضليل الجمهور . ومن الانتقادات الهامة " أن الكونغرس تسوده البلوترقراطية "(98) .
إن السلطة في الكونغرس تبقى بين أيدي الأعضاء الكبار الهامين ، الذين يضعونها في خدمة مصالح رجال الأعمال ، ولاحظ رالف نادفان " السلطة تبقي في أيدي أولئك المشرعين الكبار ، الذين يخدمون أصحاب المصالح الكبرى "(99) .
فالقوانين التي تمر في الكونغرس لاتصدر من داخل مؤسساتها ، فالمبادرة إلى صنع القرار تكون بالكامل في أيدي الحكومات والأجهزة التنفيذية التابعة للاحتكارات .
ويشير أحد الكتاب عن الإدارة الأمريكية أن " من الناحية الشكلية لابد أن يتقدم أحد الشيوخ أو النواب بمشروع القانون ، ولكن من الناحية العملية فإن معظم المشاريع تقوم أولا بصياغتها الأجهزة التنفيذية ، أو جماعات المصالح . ثم تسلم بعد ذلك للنائب ، أو عضو مجلس الشيوخ ، وينفق مجلس الشيوخ معظم وقته وجهده في النظر في مشاريع القوانين المقدمة من الإدارة الحكومية(100) .
ويشير الكتاب الأخضر لما تقدم به السياسيون والمحللون بأن هذه الديمقراطية في الولايات المتحدة بما يكفله دستورها ، ولكن في الواقع الأقوياء دائما يحكمون " هذه هي الديمقراطية من الناحية النظرية وأما من الناحية الواقعية الأقوياء دائما يحكمون "(101) .
رابعا : السلطة القضائية " المحكمة العليا " :
تمارس السلطة القضائية في الحكومة الاتحادية بموجب الدستور(*) المحكمة العليا، والمحاكم الفدرالية الأدنى ، التي يعينها الكونغرس ، وتتألف المحكمة العليا من رئيس وثماني قضاة آخرين ، يعينهم رئيس الولايات المتحدة ، بعد موافقة مجلس الشيوخ .
ويشير فرحات زيادة أنه " يتوخى على رئيس الجمهورية في اختيار القضاة لهذه المحكمة أن يمثل أعضاؤها جميع أقاليم البلاد ومذاهبها الذاتية قدر الإمكان "(102) ويعين هؤلاء لمدى الحياة ، مقابل مرتبات ضخمة ، وتنظر هذه المحكمة في النزاعات الناشئة بين الولايات الأمريكية ، وعلى الدعاوى المقامة على الحكومة الاتحادية من قبل الولايات ، أو الأفراد، وبصورة عامة تنظر في جميع الدعاوى التي تطبق عليها القوانين الاتحادية(103) .
ولا يستطيع الكونغرس أن يعدل نظام المحكمة العليا الاتحادية ، إلا بعد اتباع الطريقة الخاصة بتعديل الدستور .
المحكمة العليا :
تتمتع السلطة القضائية في الولايات المتحدة باستقلال تام بالنسبة للسلطات الأخرى ، فحيث يوجد حكم القانون أو حكومة القوانين ، تتولى المحاكم حماية الحقوق الشخصية ، أضف إلى هذه المهمة مراقبة دستورية القوانين الصادرة من المجالس التشريعية ، ومنع السلطة التعدي على اختصاصات السلطة الأخرى ، هذا الدور تقوم به المحاكم في الولايات المتحدة ، يحول القضايا السياسية إلى قضايا قانونية تناقش أحكام المحاكم(104) .
ويؤكد أحمد كمال على الأهمية الخاصة للمحكمة العليا نظرا لتركيبتها واختصاصاتها، فهي تتمتع بصلاحيات واسعة إذ أنها لا تكتفي بدراسة المشاكل القانونية في القضايا المرفوعة إليها ، إنما لها حق النظر في الوقائع المادية ، خلافا لما هو معمول به في البلاد ، والتي يوجد فيها محكمة تميز يعود لها فقط حق النظر في الوقائع القانونية "(105) .
فالمحكمة العليا تنظر في جميع القضايا الخاصة والعامة وحتى الإدارية .
1- تكوين المحكمة العليا :
تتكون المحكمة من رئيس المحكمة ، ، الذي يعتبر الشخصية الثانية بعد رئيس الدولة ، وثمانية أعضاء يعينهم الرئيس بموافقة مجلس الشيوخ(106) ، وقد يرفض مجلس الشيوخ بعض التعيينات ، وخاصة إذا كانت الأكثرية تنتمي إلى الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس ويشير دافيد فالمان إلى أن الكونغرس رفض تعيين الرئيس جونسون ، للقاضي Abe for tas كرئيس للمحكمة العليا ، وقد أعيد اختياره كرئيس لها في السنة الثانية(107) . يرى جان ماري جوثير أن قاضي المحكمة العليا لا يتم اختياره على أساس الأخلاقيات، ومبادئ القانون ، بل يتم اختياره باعتباره شارة يحلم بها المجتمع "(108) .
ففي النقاش الذي جرى حول تثبيت وتعيين القاضي توماس في منصبه في المحكمة العليا ، وأمام شاشات التلفزيون تمت المواجهة على أساس الصورة المعبرة وذات العبرة للطفل الزنجي ، الذي نجح في تسلق السلم الاجتماعي ، وبين صورة المرشح الذي قدم للجمهور على اعتبار أنه زير نساء ، حاول استغلال وإغواء مساعدته.
إلا أن العرض الشفاف حتى وإن كان مسرحيا ، يشكل بذاته عقبة أمام تفاقم السلطة ، ولا أحد يمكنه الاعتراض على أن مضاعفة الإجراءات والقواعد هي عملية كبح قوى للتعسف ، ولكن يتضح عبر تطور المحكمة العليا أن تكاثر القواعد في اللحظة نفسها التي تختصر فيها المبادئ ، إنما تعبر عن الحاجة إلى طقوس اجتماعية ، مثلما تعبر عن الاهتمام بالحرية وحمايتها .
وقد يحصل أن يقدم بعض القضاة استقالتهم عن عمر يناهز السبعين عاما لكن نادرا ما يستقيل هؤلاء القضاة .
وقد علق أحد الصحفيين في مجلة Life الأمريكية ، بأن قضاة المحكمة العليا " يشكلون جزءا من أولئك الرجال الذين يموتون ولا يستقيلون أبدا "(109) ، وقضاة المحكمة غير قابلين للعزل ، إلا إذا حوكموا بإجراءات الامبتشمنت ، بأغلبية ثلثي مجلس الشيوخ وإنهائهم بثلثي مجلس النواب .
2- اختصاصات المحكمة العليا :
الدور الرئيسي للمحكمة هو مراقبة الاتحاد ، ومراقبة دستورية القوانين ، فإعادة النظر في القانونية بأعمال الكونغرس التي تقوم بها المحاكم تشير إلى سلطة المحكمة بتقدير قانونية القوانين الصادرة من الكونغرس .
وقدرة السلطة القضائية بمراقبة السلطة التشريعية ، أشار إليها القاضي Holmes إذ قال: " لا أعتقد بأن الولايات المتحدة تتشرف على النهاية ، إذا فقدنا قدرتنا على إعلان بطلان عمل الكونغرس "(110) .
هذه القدرة قد تقلص في المسائل السياسية ، فقد أعلنت المحاكم أن لا سلطة لها في معالجتها ، غير أنه في أغلب الأحيان تلجأ المحاكم إلى اتباع التفسير الواسع لسلطاتها، مما يخولها حق تقدير المسائل السياسية ، وفيما يلي مجمل لاختصاصات المحكمة .
أ- مراقبة الاتحاد :
المقصود بذلك هو احترام توزيع الاختصاصات التي نص عليها الدستور بين الدولة الاتحادية ، والولايات الأعضاء أو بصورة واضحة احترام المجالس التشريعية للولايات الأعضاء لهذا التوزيع ، ومراقبة الاتحاد . ومراقبة دستورية القوانين لم يكن منصوصا عليه في الدستور ، حيث انطلقت هذه الرقابة بمبادرة من قبل رئيس المحكمة مارشال ، الذي أطلق عليه لقب المؤسس الثاني للدستور سنة 1803 (111).
وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، اتبعت المحكمة نهجا جديدا بمراقبتها دستورية للقوانين المتعلقة بالسياسة الاقتصادية الفردية ، داعية إلى الحفاظ على المبادئ العامة للاقتصاد الحر(112)، هذا الموقف دفع بالفقه إلى إطلاق صفة حكومة القضاء ، على المحكمة العليا ومراقبة الاتحاد ، تتم بمراقبة الأحكام الصادرة عن محاكم الدولة أي التحقق ، ما إذا كانت محاكم الدولة قد أخذت على عاتقها مراقبة القوانين التي تتعارض والدستور الاتحادي .
ب- الرقابة القضائية على دستورية القوانين :
إن الغاية من هذه الرقابة كما يشير هنري . ج . إبراهام هي التحقق ما إذا كانت القوانين العادية لا تناقض نصوص الدستور ، خلافا لتلك التي تتعلق بالاتحاد ، وبالأخص التعديلات العشرة الأولى للدستور ، والتي تعرف بإعلان الحقوق(113) .
فمطابقة القانون العادي للقانون الدستوري ، يمكن أن تثار على صعيد الولاية ، العضو بالنسبة لدستورها الخاص بها وعلى صعيد الاتحاد ، وكل نزاع يعرض على القضاء للنظر بدستورية ، يقصد به مراقبة السلطة التشريعية ، ومعرفة ما إذا كان يعود للقاضي أن يأخذ التدابير التي يرتئيها .
ج- الإجراءات التي يستعملها القاضي لمراقبة دستورية القوانين :
إن هناك إجراءات محددة للقاضي حتى يقر بمدى دستورية القانون من عدمه وهي كالتالي :
* تفسير البناء للقانون : وتقضي هذه الطريقة بتفسير القوانين الصادرة عن المجالس التشريعية المحلية أو الكونغرس ، بحيث يلتزم المشرع بالانصياع لتفاسير القاضي ، ولحصر صلاحية ضمن حدود ومبادئ الدستور ، هذا التفسير لا يأخذ بعين الاعتبار إرادة المشرع ولا شكل القانون .
* إعلان عدم دستورية القانون .
* الآراء الاستشارية .
* الوسائل المتبعة لمراقبة القوانين(114) .
3- الدور السياسي للمحكمة العليا :
يبين لنا إسماعيل الغزال أن المحكمة العليا لعبت دورا على المسرح السياسي ومازالت تلعب رغم بعض النفي لهذا الدور ، فقد عبر عن ذلك لحاكم مدينة نيويورك Hughes، الذي أصبح فيما بعد قاضيا أعلى للمحكمة ، إذ قال : " يقودنا دستورنا ، لكن هل هذا الدستور هو ما يقوله القضاة ؟ "(115) ، كذلك أعلن القاضي هولمن 1917 " إنني أقر دون تردد بأن القضاة يشرعون ، ويتوجب عليهم التشريع "(116) ، كذلك القاضي جاكسون سنة 1941 " حيث شبه المحكمة العليا بمؤتمر دستوري دائما بإمكانه تعديل القانون الأساسي دون خضوع اقتراحاته لأي تعديل "(117) . هذا الدور السياسي الذي مارسته المحكمة العليا، قد اتخذ في بعض المراحل طابعا تقدميا ، وفي مراحل أخرى طابعا محافظا، وبذلك يقسم د. أحمد كمال مراحل الدور السياسي للمحكمة العليا إلى ثلاث مراحل(118) :
أ- الفترة من 1801-1853 :
تتميز هذه الفترة بمراقبة الاتحاد ، ودستورية القوانين ، وبنزعة قومية ، فقد برهنت المحكمة عن وجودها كسلطة من سلطات الدولة العامة ، وكمنظم للحياة الدستورية ، والفضل في ذلك يعود للقاضي الأعلى مارشال ، مدعوما من الجهاز القضائي بأكمله .
ب- الفترة من نهاية القرن التاسع عشر - 1937 :
تتميز هذه الفترة بالدور المحافظ لنشاط المحكمة الخاص ، فيما يتعلق بالتشريع العالمي، وقد تدخلة الدولة في عقود العمل داعية إلى حماية مبدأ حرية العقود ، وفي هذه الفترة لم تناد بالرقابة الدستورية فقط عن القوانين الصادرة من الكونغرس والمجالس ، بل تمتد إلى مراقبة التعديلات الدستورية ، وبذلك بدأ القاضي ، وكأنه فوق القوانين الدستورية ، لأنه يوجد فوق الجميع القانون الطبيعي ، هذه الأسباب أدت إلى وصف المحكمة بحكومة القضاة .
ج- الفترة الثالثة :
تتسم هذه الفترة بالتقدمية خاصة بعد تنصيب Earlworren 1953 قاضيا أعلى ، ونقطة الانطلاق كانت حكم براون الصادر في 17 مايو 1954 ، والمتعلقة بالمساواة بين الأجناس ، هذا الحكـم قضى على الفكرة القائمة منذ بداية القرن العشرين ، والتي تقول " منفصلون لكننـا متساوون !! فمنذ هذا القرار تعهدت المحكمة بإقامة المساواة قدر الإمكان ، في العلاقات الاجتماعية ، وبناء عليه قضت المحكمة بدستورية قانون الحقوق المدنية الصادر في 1964، وقانون حقوق التصويت 1965 ، ملغية بذلك التمييز العنصري ، كما أن المحكمة تعهدت بحماية الحريات العامة ، وذلك بالحد من سلطة الأكثرية لصالح الأفراد والأقليات عملا بمبدأ " لكل رجل صوت " هذا مبدأ فصل السلطات ، كما ينادي به في النظام الرئاسي الأمريكي ، غير أن الملاحظة الواجب علينا أن نسوقها هي أن مبدأ الفصل غير واضح تماما ، إننا نلاحظ أن المحكمة العليا تحولت في بعض الأحيان إلى مجلس سياسي ثالث ، حيث أصبح هذا الفصل غير مطلق ، نتيجة التعاون بين السلطات بشكل يخالف هذا المبدأ ، فالرئيس الأمريكي وحكومته يشترك في التشريع ، ومجلس النواب يتدخل في كثير من المسائل والشؤون التنفيذية ، والسلطة القضائية تتولى مراقبة التشريع للتأكد من مدى دستوريته كذلك فإن السلطتين التشريعية والتنفيذية متضافران وتتحدان على وقف السلطة القضائية عند حدها ، خصوصا بعد أن سرقت رقابتها لمبدأ دستورية القوانين ، بدرجة أصبحت توصف "بأنها مجلس سياسي ثالث "(119) .
ومن هنا يتضح الفرق بين النظام الأمريكي المقر في الدستور ، وبين الواقع العملي حيث يؤكد الدستور الأمريكي على مبدأ الفصل بين السلطات ، ويؤكد التطبيق العملي على تعاون بين سلطات ، وقبل أن نختم الحديث عن التركيبة السياسية ، نجد أنفسنا ملزمين بالتطرق إلى الأحزاب التي تشكل عصب الحياة السياسية الأمريكية ، فمنها ينطلق ترشيح الرئاسة، ومرشحي مجلس النواب ، والكونغرس ، فما هي التركيبة الحزبية في الولايات المتحدة ؟ هل هي تعددية أم ثنائية ؟ وما هي آلية الأحزاب وهيكليتها ؟ .
خامسا : الأحزاب الأمريكية :
تضاربت آراء الفقهاء السياسية حول جدوى النظام الحزبي ، إذا رأى فريق أنه لا بديل عن الدور المحدود الذي تقوم به الأحزاب في الحياة السياسية ، والفريق الأخر لاحظ التدهور التدريجي في أهمية الأحزاب ، أما الفريق الثالث فيرى من الضرورة إيجاد أحزاب مسؤولة تعالج النظام الحزبي الأمريكي على أنه : " نظام حزبي رباعي يلزم الحكومة بالاتفاق والتحالف، بدلا من أن يكون نظاما حزبيا ثنائيا تخول للحزب المنتصر ، أن يحكم والخاسر أن يعارض "(120)
ففكرة إيجاد أحزاب مسؤولة لاقت اعتراضا من قبل السياسيين الذين أكدوا على أن الأحزاب هي نتاج مناخ أمريكي خاص ، وأن الخصائص الحزبية مهما كانت الصعوبات التي تثيرها في وجه الحكومة هي من ضرورات " ثمن الاتحاد " المجتمع شديد التباين ، وقد كتب أحد المناهضين لفكرة إيجاد أحزاب مسؤولة قائلا : " أية محاولة لإصلاح الأحزاب لمنحها المسؤولية السياسية ستغير التاريخ ، والمؤسسات السياسية الحديثة "(121) . ويحاول بعض فلاسفة العلوم السياسية أن يكرسوا جمود الثنائية الحزبية في الولايات المتحدة ، بتقديم تبريرات تحمل في طياتها مغالطات جسيمة فيقول ل . ت . لو : " إن العلاقة المعقدة بين الإطار الدستوري للحكومة والتنظيم السياسي الحزبي وبين الأسس الأيديولوجية للسلوك السياسي ، هي الأساس في التكوين السياسي الأمريكي ، فالنظام الحزبي الأمريكي هو نظام ثنائي بشكل خاص ، وعليه لا يجب النظر إليه من معيارين فقط ، بل عدة معايير " ويوضح الكاتب هذه المعايير فيقول :" … فهو من جهة عبارة عن نظام حزبي رباعي يرتكز على الكونغرس والرئاسة ، هذه التعددية دفعت بالبعض إلى وصف النظام الحزبي على أنه يتألف من خمسين حزبا محليا ، تنافس فيما بينها كل أربع سنوات من أجل هدف رئيسي هو إيصال مرشح إلى سدة رئاسة الدولة"(122) . ولكن نود الإشارة إلى عدم المغالاة في استقلالية الأحزاب ، إذ أن تزايد قوة السلطة المركزية جعلها تؤثر على مجرى الحياة السياسية في الحكومات المحلية في الولايات ، رغم ما تملكه من الوظائف الهامة ، ومن هنا فإننا نخلص إلى أن أحد أهم الحقائق الصارخة في السياسة الأمريكية هي استمرار تلك القوة السياسية مؤثرة على السلطة الاتحادية الأمر الذي جعل توجيه السياسة الأمريكية ، يتم من قبل قوى نائبة ، لا تمثل القوى الحقيقية والفاعلة في الدولة ، ولا ترتبط بالمسائل الحيوية التي تتعلق بالمصلحة العامة .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل هناك أحزاب رئاسية وأخرى للكونغرس ؟
ويجيب على هذا التساؤل آلان دي بنوا " إن البناء الاتحادي هو أحد الأسباب الرئيسية لهذا التوزيع في القوى السياسية في الولايات المتحدة ، وأثناء تحديد سلطة الحكومة أمام المؤسسين خلقت نظاما صارما لجهة الفصل بين إدارة الرئيس وإدارة الكونغرس ، فنجد للرئيس قاعدة انتخابية ، وسلطات دستورية مميزة عن تلك العائدة للكونغرس ، ونتيجة للتوزيع الدستوري للسلطات الحكومية انقسم كل حزب سياسي إلى جناحين ، جناح الرئيس وجناح الكونغرس "(123) .
هذا التقسيم دفع بالبروفيسور بيرسون إلى وصف النظام الحزبي بالرباعية الحزبية : الحزب الجمهوري الرئاسي ، والحزب الجمهوري الكونغرس ، والحزب الديمقراطي الرئاسي، والحزب الديمقراطي الكونغرس ، مشيرا إلى أنها أحزاب منفصلة رغم تداخلها ، لكل حزب خصائصه الدستورية ، وعقيدته وأسلوبه السياسي "(124) ، ولكننا نرى أن البروفيسور يحاول دون أي تأسيس وصف النظام السياسي الأمريكي بالتعددية الحزبية ، لكن هذا الأمر غير ممكن إطلاقا وفق رؤيته ، الأمر يبقي صحيحا من ناحية واحدة فقط ، وهي أن الحزب الديمقراطي الرئيسي ، إذا صح التعبير ، يجد دعامة في التجمعات السكنية في المناطق الصناعية ، أما الأكثرية الديمقراطية في مجلس الشيوخ والنواب فيعتمدون على الأرياف والضواحي ، وهذا لا يعني إطلاقا وجود تعددية بالمعنى المطروح ، أحزاب تحمل رؤية وأيديولوجية ، وأفكار تطرحها وتدافع عنها .
وتجدر الإشارة ايضا إلى أن القوى المميزة لطبيعة النظام الحزبي الأمريكي ، تتركز على ثلاث قوى هي الدستور والنظام الانتخابي والنواحي الاجتماعية ، فالأحزاب الأمريكية تعاني من عدم وجود أيديولوجية ، رغم كونها دولة صناعية ، فلا وجود لحزب اشتراكي ، أو حزب عمال ، إن لا مركزية الأحزاب الأمريكية تنتج عنها عدم اعتبار الأحزاب الأمريكية أحزاب حكومة ، إن ما يقدمه الدستور لا تجمعه الأحزاب .
ويشير روبرت . أ . داهل إلى أن كلا الحزبين يؤمن بالرأسمالية ، ولنحصر الخلاف بينهما منذ الحرب العالمية الثانية في مدى تطبيق النظام الذي أسسه روزفلت في الأربعينات أي نظام دولة الرفاهية(125) .
إن محاولة ادعاء وجود تعددية حزبية في الولايات المتحدة ، يفندها التاريخ السياسي الأمريكي ، فجذور الثنائية الحزبية تمتد إلى بداية تكوين الدولة 1787 ، حيث انقسم أعضاء المؤتمر فريقين حول تحديد اختصاصات السلطة الاتحادية ، فريق تمحور حول هاملتون ، ينادي بالاتحادية وتقوية السلطة المركزية ، وفريق الآخر الديمقراطي الجمهوري المتمحور حول توماس جيفرسون يدعو منح الولايات مزيدا من السلطة والاستقلالية غير أن السبب الواقعي يعود إلى خلاف حول مركز الرئاسة بين أدارمز وجيفرسون 1796 ، وتعمق هذا الخلاف بين جاكسون وادارمز ، مما أدي إلى قسمة الديمقراطيين - الجمهوريين إلى جناحين يتنافسان على الرئاسة ، فقد اختار مجلس النواب أدارمز لرئاسة رغم التأييد الشعبي لجاكسون ، وفي سنة 1828 بعد انتخاب جاكسون رئيسا ، شكل الحزب الديمقراطي وفي سنة 1832 خاض المعركة الانتخابية ضد هنري كلاي كمرشح للحزب الوطني الجمهوري ، وفي سنة 1636 شكلت القوى المعادية لجاكسون حزب الويغ Whig الذي أوصل هاريسون إلى رئاسة الدولة 1846 ، برز الحزب الجمهوري على أنقاض حزب الويغ "(126) .
إن هذه المقدمة التاريخية التي قدمها إسماعيل الغزال ، جسيمة لدحض كل الادعاءات بوجود تعددية حزبية في أمريكا ، ولكن هذه التعددية توجد بينها خطوط تماس يحترمها كلا الحزبان حتى يتم أصول اللعبة السياسية .
ويشير عبد السلام المزوغي وحبيب وداعة إلى أن اصول اللعبة السياسية تفترض احترام " قانون الصمت " ففي الولايات المتحدة يحصل الحزبان الكبيران على تمويلهما من المنشآت الرأسمالية ، ولوحظ أنه خلال الحقبة 1910-1970 سادت حالة من الوفاق الضمني بين زعماء الحزب الديمقراطي والجمهوري ، فيما يتعلق بمصدر تمويل الحزبين اللذين تقاسما فيما بينهما هذه المصادر(127) .
ويشير الباحثون الأمريكيون إلى أنه من الواضح إذا حدد أحد الحزبين مصادر الحزب الآخر ، فإن التوازن يختل ، ولن يكون هناك محل لإعمال قانون الصمت ، بل إن الإفادات التي تفرضها الأحزاب السياسية لا تقتصر على المنشآت الرأسمالية فحسب .
وإنما تشمل المواطنين كذلك ، ففي ولاية انديانا الأمريكية يوجد ما يسمى بنادي الـ 2% الشهير ، ويقصد به أنه يتعين على كل موظف في المجالس المحلية بالولاية أن يسدد مبلغا من المال إلى حاكم في دائرة الوحدة المحلية ، أما بالنسبة لموظفي الولاية فمازال هذا التقليد مطبقا إلى الان(128) . إن الأحزاب الأمريكية التي تشكل دعامة من دعامات المؤسسات السياسية الأمريكيـة لم تخلو من الفضائح والمشاكل ، التي تعلق عليها وتهدر مستقبلها السياسي ، منهـا فضيحة ووتر - جيت للحزب الجمهوري ، كذلك تدخل جماعات المصالح في توجهات الأحزاب. ومنها تقوم فإن التركيبة السياسية الأمريكية نظريا هي خطوة على الطريق إلى الديمقراطية ولكنها من الناحية التطبيقية التي عملنا على ربطها بالإطار النظري أوضحت مدى الدكتاتورية والتي تمارسها هذه المؤسسات والمصلحية التي تعمل على أساسها .
المطلب الثاني : المؤسسات غير الرسمية في التركيبة السياسية الأمريكية :
يقوم بين هذه المؤسسات والأحزاب السياسية تشابه لجهة التنظيم الداخلي ، وغاياتها الاجتماعية تختلف عنها لجهة العنصر السياسي ، إذ أنها لا تستهدف أصلا كالأحزاب الاستيلاء على السلطة ، بل تحقيق غاياتها وأهدافها عن طريق الأحزاب ، ومن هذه المؤسسات جماعات الضغط ووسائل الإعلام والرأي العام .
أولا - جماعات الضغط :
هي كما تدل عليها تسميتها عبارة عن تنظيمات تمثل مصالح خاصة لبعض الناس، تمارس ضغطا على الحكام والكونغرس من أجل إصدار تشريعات ، تراعي المصالح المشتركة لها ، وقد عرفها البروفيسور جان ميثو بقوله " هي … العدد الذي لا يحصى من الجماعات والجمعيات والنقابات أو التحركات التي يدفعها عن المصالح المشتركة لأعضائها ، تجهد بكل ما أوتيت من وسائل مباشرة أو غير مباشرة للتأثير على التصرف الحكومي والتشريعي لتوجيه الرأي العام "(129) .
ويلاحظ جيمس لي راي " أن في نظام سياسي مفتوح وغير هيكلي مثل النظام الأمريكي فإن جماعات المصالح جيدة التنظيم ، تستطيع أن تعطي آراء الأقل وزنا أكثر من وزن الرأي العام واسع الانتشار"(130) .
فقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية تأثيرا سافرا للمال في الانتخابات التي تجري هناك ، سواء كانت انتخابات رئاسية أو انتخابات نيابية ، تشير الأرقام إلى الزيادة المطردة في المبالغ التي تتفق في المعارك الانتخابية .
ويذكر أنه في عام 1968 انفقت إحدى عشرة أسرة أمريكية الأكثر ثراء مبالغ وصلت 300 مليون دولار ، ووصلت تكلفة المعارك الانتخابية ذروتها ، فبلغت في أعوام 1962 ، 1968 ، 1972 مبلغ 200 مليون و 300 و 400 مليون دولار على التوالي(131) .
وحسبما أعلن جورج رولد الحائز على جائزة نوبل للسلام في المؤتمر الدولي الذي عقد في بروكسل بمقر الجماعة الأوروبية في عام 1984 لمحاكمة الرئيس ريغان وسياسته الخارجية، ذكر أن " الولايات المتحدة لا يحكمها نظام يقوم على حزبين ، كما يدعي البعض ، بل على حزب واحد فقط ، يدعي بصفة التعدد لتضليل الرأي العام ، والرئيس ريغان ليس صاحب القرار ولا يعدو أن يكون خادما لأصحاب الكلمة الفصل الحقيقيين ، وهؤلاء هم أصحاب الشركات المتعددة الجنسية ، التي تضم في هيئة مشهورة تعرف باسم اللجنة الثلاثية The trilecred commission ، وثلاثيتها هذه ترجع إلى توزيع حساباتها بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان "(132) .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه اللجنة تأسست عام 1973 ، ووقع على كاهلها اختيار كل من كارتر ، ومديزيل ، وفاتسي ، وبريجنسكي ، في انتخابات 1979 ، ثم قامت بالتخلي عنهم جميعا ، بعد ذلك كي تختار ريغان دون أن يكون منتميا إلى عضويتها(133) . وكان هذا الاختيار لريغان بدعوى(*) أنه كان أكثر تمثيلا للسياسات التي تريدها اللجنة الثلاثية في ظروف إجراء الانتخابات ، وتضم هذه اللجنة خمس عشر من أكبر ممثلي الشركات المتعددة الجنسيات الأمريكية ، وآخرون هم رجال سياسة يلعبون دورا بارزا في تسيير دفة الحكم .
ووقع اختيار اللجنة على ريغان لانتخابات الرئاسة 1984 لمرة الثانية أمام منافسة مونديل، الذي كان عضوا باللجنة ، ولكن دوره تحدد في تلك اللحظة بالذات في إجهاض معارضة الحزب الديمقراطي للرئيس ريغان ، وليس في تشكيل منافس قوي له (134 )، ويشير الكاتب الروسي ميتيشن إلى ما ورد في مجلة نيوزويك الأمريكية عن وصف للعلاقة بين النفوذ السياسية في أمريكا ، بأنها علاقة عضوية جدا " إن محاولة الإصلاح في هذا المجال هي أشبه ما تكون بأن تطالب من الطبيب أن يجري لنفسه عملية جراحة فتح قلب !! "(135) .
وقد أشرنا في الفصل الأول من المبحث الثالث إلى أحد أهم جماعات الضغط في الولايات المتحدة وهي جماعات اللوبي الصهيوني .
ثانيا - وسائل الإعلام :
هي وسيلة غير حكومية في الولايات المتحدة وتعمل في الدول التي تنادي "بالديمقراطية" كي تنقل هدف الشعب إلى الحكومة ، والعكس ، وهذا الوضع يجعلها محايدة في نقل الأخبار الداخلية والخارجية ، ويمكن أن تكون أداة الديمقراطية الفعالة في التوعية والمعرفة ، لاسيما فيما يتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية ، ولكن إذا أسيء استخدام تلك الوسائل في غير أغراضها، فسرعان ما يزول عنها هذا الدور ، والقوانين في الولايات المتحدة لا تعاقب من يسيء استخدام تلك الوسائل لأنها أداة شعبية يعبر فيها الشعب عن إراداته(136) .
إلا أن وسائل الإعلام في حقيقتها في الولايات المتحدة الأمريكية تخضع لسيطرة جماعات المصالح السياسية ، وغير السياسية ، التي توجهها نحو تحقيق مصالحها .
ومما يزيد خطورة الأمر ، فإن جماعات الضغط تستغل ضعف الثقافة لبعض المواطنين، وتوجههم بما يخدم مصالحهم ، ولا يخدم المصلحة العامة ، فبدلا من أن تكون الصحافة الرقيب على أعمال الحكومة في الميادين كافة ، تستغلها جماعات الضغط والمصالح لتعبر عن مصالحها ورغباتها ، وهناك بعض الصحف سقطت في فخ تلك الجماعات وبذلك " … يصبح صوت جماعات الضغط أعلى من صوت الشعب الأمريكي "(137) .
وهكذا نجد أن رسم سياسة الولايات المتحدة تتعاون فيها أكثر من جهة واحدة ، فهي عملية تدقيق موازنة من وجهة النظر الأمريكية ، ولكنها تخضع من الناحية الفعلية إلى ذوي النفوذ والتأثير على كلا السلطتين ، وكذلك التاثير الخارجي والظروف والمصالح التي يسمح بقياسها النظام في الولايات المتحدة الأمريكية ، وتتأثر السياسة الأمريكية بقوة الرئيس ، وهذا ما حصل بالفعل في قضية الصراع العربي - الصهيوني ، والرئيس ترومان الذي يؤيد المخطط الإسرائيلي.
ورغم تدني دور الصحافة في التأثير على السلطة السياسية ، إلا أن هناك بعض الصحف الأمريكية لاتزال رائدة في هذا المضمار ، منها صحيفة بوست التي كشفت فضيحة وتر غيت والتي أدت إلى استقالة الرئيس نيكسون .
ثالثا - الرأي العام :
يعتبر الرأي العام من أفضل وسائل تكوين السلوك الإنساني ولا يكفي المجال هنا للحديث عن دور الرأي العام في التأثير على التركيبة السياسية لأن ذلك يحتاج إلى دراسة منفصلة فالرأي ينقسم إلى رأي فردي وأخرى عام .
والرأي العام كما يعرفه دكتور جاب الله موسى حسن : " هو رأي سطحي يعكس الرأي الخاص الذي يتصف بالعمق والجدية "(138)، ويرى جبريل تراد بأن الرأي العام هو " عبارة عن علاقة آنية تقوم بين عدد من الناس من جراء حكمهم المشترك على عدد من القضايا ، في حين يعتبر أميل دور كايم الرأي العام عبارة عن جمع حقيقي ينشأ بفعل وحدة التضامن ووحدة الإحكام التي تطلقها المجموعة "(139) .
ويعتبر الرأي العام من أفضل الوسائل في ممارسة السلطة السياسية ، وتعتبر الحكومة الأمريكية من حكومات رأي ، " لأن الدولة الشرعية التي تتجسد بالجسم الانتخابي تخول للرأي العام أن يحكم بوساطة المؤسسات القائمة ، إذن على الرأي العام أن يحكم ، وأن يعطي التوجيهات الأساسية في جو من الحرية والمساواة ، فحرية تكوين الرأي تسمح بتعدد الآراء، والرأي الأقوى يتغلب على الأضعف دون توسل العنف "(140) .
إن المساواة في الرأي ، تسمح بالحوار أو بالأحرى النقاش ، واختيار الأفضل من بين مختلف الآراء ، حتى تتوصل إلى رأي عام صحي .
ويشير إسماعيل الغزال أنه من شروط حكومة الرأي أن يكون الجسم الانتخابي متوازيا في تكوينه مع الرأي العام نفسه ، كما أن البرلمان يجب أن يكون على اتصال دائم ومباشر معه، كذلك الحال بالنسبة للحكومة التي يجب أن تنبثق بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن الرأي العام، فهي تنبثق بصورة مباشرة عن الهيئة الناخبة في النظام الرئاسي الأمريكي(141) .
وفي مرحلة تكوين الرأي العام يلعب صانعوا الآراء دورا رئيسيا في وضع المعلومات في الجماهير بالطريقة التي تناسب أهدافهم ، وعدم اتسام صانعي الآراء بالموضوعية والنزاهة، فإن ذلك يشكل خطرا على الحرية من الطاغية ذاته .
لقد تحولت صناعة الآراء إلى حرفة تدر الملايين في الولايات المتحدة ، فهي تبتدأ من القمة ، ولا دخل للقاعدة الشعبية بها ، ويمثل أن تمارس الجماهير تأثيرها على القمة يكون قد جرى التأثير عليها قبل أن ترغب في شيء ، تكون قد أعدت لترغب ذلك الشيء ، وبالتالي ما يتم في أمريكا ليس إرادة شعبية أصلية ، بل مصنوعة ومجهزة .
إن الملاحظ هنا أن الديمقراطية تعترف للرأي العام بمكانة مهمة في ممارسة السلطة السياسية ، ولكن يجب أن نذكر أن الديمقراطية تعني "الحكم الشعبي وليست التعبير الشعبي"(142) .
لقد وقفنا بشكل واضح على آلية صناعة القرار السياسي في الولايات المتحدة وهيئاتها وبنيتها السياسية ، الأمر الذي نخلص فيه أن الديمقراطية الأمريكية هي ديمقراطية جماعات الضغط ، وأن الرئيس تحت سيطرة جماعات الضغط والمصالح والشركات المتعددة الجنسيات، وأن الكونغرس كذلك ، فهل هذه ديمقراطية حقيقية ؟ أم حكومة دكتاتورية يسيطر عليها الأغنياء .
|
2003 الحـقائق - المملكة المتحدة جميع الحقوق محفوظـة |
مراجع :
ساحة النقاش