د . محمد ناصر الخوالده
في: 4/20/2005

<!--<!--


التاريخ: 4/24/2005 9:54:51 AM


التركيبة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية

 

يعتبر الدستور الأمريكي الصادر في 1787 من أقدم الدساتير المكتوبة في العصر الحديث ، غير أن هذا الدستور لم يبق على ما كان عليه حين صدوره ، بل عدل مرارا وتكرارا حتى بلغ عدد التعديلات الداخلة عليه ستة وعشرين تعديلا .

ويمكن النظر إلى التركيبة السياسية في الولايات المتحدة على أنها من الدول الاتحادية المركبة – المركزية – ، التي تكون السلطة فيها في يد رئيس الدولة والحكومة الاتحادية .

" وقد نجح الدستور الأمريكي قدر المستطاع في تقليص وسائل عمل السلطات ، بحيث لا يتعارض وحريات الأفراد .

حيث يتم بموجب فصل السلطات التي نص عليها دستور الاتحاد ، حماية الولايات الأعضاء ، وذلك بتقسيم السلطة الاتحادية إلى فروع ثلاث ، بحيث يمكن منها مراقبة الأحزاب،  وكذلك تقسيم الكونغرس إلى مجلسين ، من شأنه أن يجنب الضغوط التي يمكن أن يمارسها المجلس الممثل للشعب على السلطات الأخرى ، أي محاولة إقامة توازن بين السلطات "(1) .

ويتميز النظام الرئاسي عن غيره من الأنظمة السياسية الأخرى بالأركان الآتية :

1- حصر السلطة التنفيذية في يد رئيس الدولة .
2- خضوع الوزراء خضوعا تاما لرئيس الدولة وحده ، مما جعل لهذا الخضوع مظاهر سلبية أبرزها حرية الرئيس في عزل وزرائه ، كما يشاء وحسب تقديره الشخصي .
3- فصل السلطات في الدولة إلى أقصى حد ممكن .

ولكن أندريه هوريو يلاحظ " أن هذا الفصل البعيد المدى في نصوص الدستور ، ينتهي من الناحية العملية إلى التعاون بين مختلف السلطات ، حتى يمكن أن ينظم سير العمل في الدولة بطريقة مرضية ، تحقق الصالح العام للشعب "(2) . وكما سيرد بالتفصيل فإن للولايات المتحدة مجلس نواب يتألف من 435 عضوا ، وقد بني هذا العدد بمقتضى قانون صدر هناك في 1929 بتقسيم الولايات بنسبة لعدد سكانها ، ومدة عضويته سنتان ، وهو غير قابل للحل ، وهناك مجلس الشيوخ يتألف من 100 عضو ، بواقع عضوين عن كل ولاية(3)، أي أن الولايات تمثل في هذا المجلس تمثيلا متساويا ، بصرف النظر عن عدد سكانها(4) .

ومما سبق نلاحظ أن الولايات المتحدة تجري انتخابات عامة كل سنتين ، لتجديد مجلس النواب تجديدا كاملا ، وتجديد ثلث أعضاء مجلس الشيوخ ، وهذا هو تشكيل السلطة التشريعية بالولايات المتحدة الأمريكية التي من مهامها سن القوانين .

ولا يملك النظام السياسي الأمريكي القدرة على دمج السياسات وسلسلتها الأولوية ، حتى ولو كانت موجودة . هذا الفراغ السياسي يعكس انهيار صنع القرار ، حتى أنه أرغم الرئيس جيمي كارتر على إدانة " الفشل والركود والانحراف " الذي تتصف به حكومته .

إن انهيار صنع القرار ليس صفة لحزب واحد أو رئيس واحد ، فقد كان يتعمق منذ أوائل الستينات يعكس مشاكل البني التحتية ، فلا يستطيع أي رئيس " جمهوري ، ديمقراطي " أن يعارضها ضمن إطار النظام السياسي الحالي ، وأدت هذه المشاكل السياسية إلى زعزعة الاستقرار في المؤسسات الرئيسية في المجتمع الأمريكي .

ويؤكد الفن توفلر على أن النظام السياسي الأمريكي تائه ، يعقد بصورة كبيرة عمل المؤسسات الرئيسية في المجتمع ، وتواجه ميكانيكية صنع القرار في الولايات المتحدة إجهاد وإرهاقا وحملا ثقيلا من المعطيات ، وأخطاء غير عادية ، وبالتالي يقف صانعوا السياسة الحكومية عاجزين أمام مسؤولية صنع القرارات ذات الأولوية المرتفعة ، " أو يضعونها بأسوأ ما يكون " حيث نراهم يتسابقون لصنع قرارات سطحية وقليلة القيمة(5) .

ويعلق مذيع تلفزيوني أمريكي عند أزمة السياسة وصنع القرار الأمريكي قائلا : " أشعر بأن الأمة( يقصد الأمريكية) ما هي إلا عربة أسفار ، تجرها جياد مسرعة ، قلما يحاول قائدها جذب العنان إليه ، لكن الخيل لا تستجيب له "(6) .

لقد شعر الأمريكيون بأن النظام السياسي الذي وجد ، ليكون موجها وعامل استقرار لهم في المجتمع متخبط ومتقلب ، هو نفسه قد تحطم وتشرذم ، وفقد اتزانه حيث قام فريق من العلماء السياسيين باستبيان في واشنطن لمعرفة من يدير هذا المكان ؟ وجاءهم الجواب بسيط وصاعق ، فقد نشر معهد المشاريع الأمريكي بقوله " سيكون الجواب المفترض : لا أحد ، لا يوجد أحد هنا يتولى المسؤولية "(7) ، فالولايات المتحدة تعاني من خواء وفراغ سلطوي سائد في المجتمع .

إن التركيبة السياسية الأمريكية كما سترى ، تعاني من لا ديمقراطية الحياة السياسية،  بدرجة أن فقدان هذه الصفة دمرت بصورة أبعد قدرة السياسيين على صنع القرار الحيوي ، ونظرا للتحولات العالمية السريعة ، فقد عجز الكونغرس الأمريكي على اللحاق بسرعة العصر،  واتخذ قرارات مؤجلة ، ولهذه القرارات المؤجلة تأثير سلبي أكثر من عملية عدم اتخاذ القرار على الإطلاق ، ويعلق النائب الديمقراطي الأمريكي ف.و. مينبث من كاليفورنيا " يجتمع الأشخاص في الكونغرس في كل جيئة ، وفي كل ذهاب ، وهذا لا يسمح أبدا بمسار متماسك للتفكير "(8) . إن المؤسسة الخاصة بصنع القرار تعكس بشكل مطرد الفوضى السائدة في المجتمع الأمريكي ، حيث يتحدث ستيورات ايزنتشات مستشار الرئيس كارتر عن تقسيم المجتمع إلى جماعات لها مصالحها الخاصة ، وبالتالي تقسيم السلطة التشريعية إلى جماعات قانونية،  وبهذا لا يستطيع أي رئيس فرض إرادته على الكونغرس ، بعد أن كان الرئيس بصورة تقليدية قادرا على الاتفاق مع الأكبر سنا من رؤساء اللجان من ذوي النفوذ ، ليقدموا له الأصوات اللازمة للموافقة على برنامجه التشريعي ، ولا يستطيع رؤساء اللجان التشريعية إلا أن يحصلوا على أصوات الأعضاء الأصغر سنا في الكونغرس ، كل هذا يجعل من غير الممكن للكونغرس أن يحصر الانتباه لأي قضية أو أن يستجيب بسرعة لحاجة الأمة الأمريكية ، وهو في هيكليته الحالية ومشيرا إلى جدول الأعمال المسعور(9)، ويشير في مقال له نشر في مجلة يو . أس . نيوز بفعل الأحداث المتلاحقة ، تحول الكونغرس الذي كان منتزه المداولات المتروية والحذرة إلى هيئة بلهاء ، فالولايات المتحدة ليست البلد الوحيد في العالم الذي يبدوا مضطربا وراكدا(10) .

ويقول العالم السياسي والتر دين برنهام من معهد ماساتسوتش للتكنولوجيا : " أنا لا أرى الولايات المتحدة أية قاعدة إيجابية للأغلبية تجمع على اثر ما مطلقا ، لأن شرعيتها تعتمد على ذلك ، فقد ادعت المؤسسات النخبوية دائما أنها لسان حال الأغلبية ، فكانت حكومة الولايات المتحدة من الشعب لكنها لا تعبر عنه "(11) . إن الرؤية التي يطرحها برنهام يقصد بها عجز النظام النيابي في تحقيق الديمقراطية بمعناها الحقيقي ، وهي حكم الشعب نفسه بنفسه ، إن اختيار مواطن أو مواطنين شخص ينوب عنهم في ممارسة حقه الطبيعي تحت أي تسمية أو إطار سياسي ، هي خدعة يضلل بها الإنسان ، غير أن هذا الإطار السياسي قد وصل إلى هذه القناعة بأنه النظام النيابي حكم غيابي ، وان انتخاب من ينوب عنك لا يعني أبدا ممارسة حقيقية للديمقراطية ، إن النواب يعملون لتحقيق مصالحهم ورغباتهم فقط ، وإنهم بذلك يشكلون حلقة منفصلة عن الجماهير النائبين عنهم ، وبذلك يصبحون زمرة للسلطة .

ويشير ريمدبوس إلى أن نظرية النظام السياسي الأمريكي ، تتكون على أن السيادة المطلقة هي للشعب ، التي تدار منه كل السلطات الشرعية ، ويشكل الشعب بصورة جماعة من خلال واسطة الدستور ، وهيئات حكومية يمنحها سلطات ، ويخضعها لتحديدات ، تؤدي حسب رأي الشعب إلى تعزيز الصالح العام(12) .

ويضيف لويس هيرتز إلى المظاهر البارزة في الثقافة السياسية الأمريكية ، فيؤكد على السيادة الشعبية ، ورأى أنها أنتجت في أمريكا نوعا من الامتثالية الخانقة الضاغطة ويقول :

" عندما تواجه الجماعة الليبرالية ضغطا عسكرية أو أيديولوجية فإن الوجود المؤذي يظهر متناميا في شكل أشخاص ، مثل مينشل بالمر ، والسناتور ماكارثي ، وهي شخصيات كما تعلموا تسلطية "(13) .

ومنذ تأسيس الجمهورية ظهرت فكرة الفردية والجماعية كفكرتين متعارضتين ، ويرى جون أدرمز أن الأغلبية عملت دائما وبدون استثناء واحد على اغتصاب حقوق الأقلية ، وكلا من الفقراء والأغنياء في نظره يتعرضون للاستغلال في نظام بسيط من الحكومة الديمقراطية،  فلقد اعتقد أدرمز " في كل مجتمع حيث توجد الملكية الفردية … يوجد صراع بين الفقراء والأغنياء ، وعندما يدمج الفقراء والأغنياء في جمعية واحدة متساوية أو أن نتوقع مثل تلك القوانين ، فهي إما أن تضع أي القوانين بالأغلبية لنهب الأقلية الغنية ، أو عن طريق النفوذ ، لكي تسلب الأغلبية الفقيرة "(14) .

ولو نظرنا لما يطرحه لويس هيرتز وجون أدارمز ، لوجدنا أن النتيجة الطبيعية لهذا هو أن التصويت على التشريعات التي تتعلق بمصالح الجمهور ، الواسع تجد صعوبات أكبر بكثير في الكونغرس مما تجده المصالح الخاصة ، حتى تحظى بالموافقة ، وغالبا ما نجد مصالح مجموعات الضغط الخاصة تهزم في أمريكا محاولات إيجاد حلول للمشكلات الجدية .

ويطرح روجز بيل مسألة ذات مغزى في هذا الإطار ، فيقول : " ما هو حظ وقدرة الفقير الجائع ، وهو محتمل لدى مجموعة الضغط القوية الذي لم يساهم في دعم الحملات الانتخابية ماديا ، ما هي قدرته على مقاومة مصالح المزارعين الكبار القوية ، ومصالح مصانع الأغذية الواسعة ، والسؤال ذاته يمكن إعادة طرحه فيما يتعلق بالمشكلات الاجتماعية "(15) .

ويناقش توركز غتز النظام السياسي الأمريكي فيقول : " إن المشكلة المركزية بل ربما أكبر وأولى المشاكل ، تعترض السياسة الأمريكية هي درجة التآكل التي بدأت تعاني منها الأسس الحقيقية للديمقراطية الأمريكية ، إن مشروعية الديمقراطية وصحية العملية الديمقراطية،  تتوقفان بشكل أساسي على مشاركة الناخبين مشاركة فعالة ، وحصولهم على كل المعلومات المتعلقة بذلك ، في حين أن مستوى المشاركة السياسية قد انخفض جدا الآن ، ويبدو أن الانحطاط هذا غير قابل للإصلاح(16)، ففي انتخابات عام 1980 الرئاسية لم يصوت لرونالد ريغان إلا نسبة مئوية صغيرة ، 49% من الناخبين الذين لديهم حق التصويت ، ويعتقد أن السبب في تغيب الناخبين عن التصويت يعكس ضعفا في النظام السياسي الأمريكي ، وهذا يعني فساد المؤسسات السياسية والاجتماعية ، وبشكل خاص فساد الحزب ، ويعني شعور المواطن المتزايد بالعجز تجاه المؤسسات الخاصة ، والمؤسسات الجماهيرية الواسعة ، وكذلك اتجاه المشاكل المعقدة المتزايدة ، والدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في خلق التشويش في أذهان البعض .

إن خير ما نختم به هذه الجزئية ، هو ما قاله المعلق التلفزيوني الأمريكي الشهير جون تشانسلور عن رأيه حول البنية السياسية الأمريكية وتأثيرها على المجتمع " القوة موجودة ولكنها مقوضة بشيء من الضعف ، فذلك جرح لا يمكننا شفاؤه ، لقد أضعفنا أنفسنا بنفس الطريقة التي نمارس بها السياسة ، وندير أعمالنا ، ونعلم أطفالنا ، ونعين فقراءنا ، ونعتني بكبارنا ، وندخر أموالنا ، ونحمي بيتنا ، وندير حكوماتنا "(17) .

وبعد هذا المدخل لتركيبة السياسية في الولايات المتحدة ، اتضح أمامنا أن لهذه التركيبة مؤسسات رسمية ، وأخرى غير رسمية ، تؤثر في هذه التركيبة ، وتشكلها ولكي نعطي الموضوع حقه في البحث سوف نتجه أولا لدراسة المؤسسات الرسمية ، وهي على النحو التالي: الدستور ، والرئيس ، والكونغرس ، والمحكمة العليا ، والمؤسسات غير الرسمية من جماعات ضغط ووسائل إعلام وتأثيرها على الرأي العام ، ولكن قبل كل ذلك ، ما هو مفهوم الديمقراطية؟ وما هي قصة الدولة الاتحادية الفيدرالية ؟ أسئلة نعمل على الإجابة عليها لاحقا .

أولا : مفهوم الديمقراطية :

ساهمت المدارس الفكرية في الولايات المتحدة في إرساء المفاهيم السياسية الليبرالية ، وقد قامت هذه المفاهيم بدورها على الدعوة لإطلاق حرية المبادرات الفردية بوصفها الضمان الأساسي لسعادة الأفراد في حياتهم ، وبذلك أسس الليبراليون مذهبهم على فكرة القانون الطبيعي،  حيث قصدت بالديمقراطية الليبرالية حماية حقوق الأفراد وحقهم في المساواة والحرية .

ومن هنا دعت الليبرالية إلى إشراك الفرد في حكم المجتمع السياسي ، إلى ضمان الذود عن حقوقه الطبيعية ، وبعد إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية في 4 يونيو 1776 أنه " من الحقائق الثابتة أن كل الرجال متساوون ، يحوزون من بلادهم حقوقا يمتنع سلبهم إياها ، مثل: الحق في الحياة ، والحق في أن يكونوا أحرارا ، وحقهم في التطلع صوب السعادة ، ولم تقم الحكومات ولن تستمر سلطانها من غير إرادة المحكومين إلا لضمان ممارسة هذه الحقوق"(18).

ويرى هارلد لاسكي في مؤلفه تأملات في ثورات العصر " أن الديمقراطية هي استقلال الإرادة الفردية ، ويقوم النظام الليبرالي على الحكم النيابي الذي يعترف للأفراد بحق المشاركة في سن تشريعات الدولة "(19) .

ومع ذلك فإن الليبراليين يرفضون مفهوم الديمقراطية ، كما يعرفها روسو ، بأنه حكم الشعب من الشعب ، أو مفهوم حكم الشعب ، وترى أنه لا يمكن أن تتوقع الحرية والسعادة من وجود الشعب في السلطة ، وإنما تتحقق الديمقراطية في مقاومة المواطنين للسلطة ، ولكفالة فعالية هذه المقاومة يتعين أن تكون منظمة ، وخير وسيلة للتنظيم ومن وجهة النظر الليبرالية هي الأخذ بفكرة التمثيل السياسي ، ومن هنا كانت الديمقراطية الليبرالية ديمقراطية نيابية ، وكان انتخاب النواب بحسب الأصل ليس لممارسة الحكم ، وإنما لتمثل آراء موكليهم ، والتعبير عن آرائهم في مواجهة السلطة ، أو كما قيل لتقسيم السلطة من تحكم الحرية(20) .

ويرى جان  بيار فيشو أن اهتمام الأمريكيين المعاصرين بالليبرالية والاستقلال والفردية إلى جانب مناداتهم بديمقراطية أكثرية ، يمكنها في نظره من أن تتحول بسهولة إلى حكم استبدادي طالما أن كل شيء والجميع خاضعون لقانون الأكثرية ، فالقضاة والصحافيون والسلطات المحلية رغم أنها بعيدة عن متناول الحكومة المركزية ، لكنها لا تجد مصدرا لسلطتها إلا في الأغلبية وحدها(21) .

ويشير مالك أبو شهيوة إلى أن الديمقراطية تقوم على أساس افتراضات نسبية لنموذج توازني بصور العملية الديمقراطية ، كنظام يعمل على المحافظة على التوازن بين العرض والطلب في العملية السياسية ويقوم على :

1- أن الديمقراطية ببساطة آلية " أداة " الاختيار وتحويل السلطة للحكومة ، فهي ليست نوعا من المجتمع ، ولا هي مجموعة من القيم الخلقية .

2- إنها آلية تتكون من مناقشة بين مجموعتين أو أكثر من السياسيين ( الصفوة ) ، التي اختارت نفسها لهذا الدور ، وهي منظمة في أحزاب سياسية ، ويسعون لحصول على الأصوات التي تؤهلهم للحكم حتى موعد الانتخابات القادمة(22) .

غير أن جوزيف شومبير يرى " أن دور الشعب ، هو أن يكون حكومة ، والطريقة الديمقراطية هي ترتيبات المؤسسات السياسية للوصول إلى قرارات سياسية ، والتي يتحصل فيها الأفراد على السلطة ، لأن يقرءوا عن طريق الصراع التنافسي من أجل الحصول على أصوات الشعب " (23) .

إن ذلك يعني أن السياسيين الذين يحصلون على أكبر عدد من الأصوات ، يقيمون الحكام المخولين حتى في الانتخابات اللاحقة ، إنهم لا يستطيعون الاستمرار في الحكم ما لم يتحصلوا على أكبر أصوات ، إن المساومة في عملية بناء الولايات المتحدة قد أدركها مبكرا في القرن التاسع عشر المؤرخ الفرنسي اليكس دو توكفيل عندما كتب أن أمريكا " جنت ثمار الثورة والديمقراطية بدون أن تكون فيها تلك الثورة "(24) .

ولاحظ دو توكفيل أن هناك عاملين معنويين هامين هما اللذان حددا طبيعة التطور الديمقراطي في أمريكا في العقد الثالث من القرن التاسع عشر ، وهما الروح الذاتية ، وروح الحرية ، الأولى تعطي عالما محددا من المبادئ الأخلاقية ، والذي يكون فيه كل شيء مصنفا ومنتظما ومتأنية ، ومقررا بعقل الإنسان ، والثانية تقدم عالما يقيني ومطاوع ، والذي يكون فيه كل شيء متجها ومتنازعا عليه ، وغير مؤكد وهي روح مجددة(25) .

1- رؤية نقدية للديمقراطية الأمريكية :

لقد عبر ارنستو تشي غيفارا عن أن الديمقراطية الغربية تكشف عن طبيعتها اللاديمقراطية ، فقال : " الديمقراطية الليبرالية هي شكل لحكومة برجوازية ، عندما تكون مطمئنة لأوضاعها ، وهي مناسبة عندما تخاف على مصيرها "(26) .

ويعبر الرئيس الأمريكي السابق إيزنهاور على مخاوفه من سيطرة رجال الصناعة أو المخابرات على مقاليد السلطة في الولايات المتحدة ، وقد نبه إلى ذلك في رسالة رادعة وجهها إلى الشعب الأمريكي في 17/1/1961 ، حيث قال : " يتوجب علينا أن نحذر من اكتساب المركب العسكري والصناعي لقوة تأثيره في مجالس الحكومة،  سواء سعى المسؤولون عنه لاكتساب هذا التأثير أو لم يسعوا إليه "(27).

ويمكن في مثل هذا التأثير خطر كارثي وهو خطر نشوء قدرة تحل محل جميع القدرات الأخرى ، هو خطر موجود ، ويستمر فعليا أن تتيح مطلقا بقوة هذا المركب الجديد إن يهدد حرية الشعب الأمريكي وديمقراطيته .

هذا الكلام الذي عبر عنه إيزنهاور يؤكد بجلاء مظاهر سيطرة الأجهزة والقوى على الديمقراطية ، لأنه في وجود قوى ضاغطة في العملية السياسية ، فإنه لا مكان لحديث عن ديمقراطية حقيقية .

ويرى جورج سويل أن الديمقراطية الشكلية ، والتي حسب رأيه الديمقراطية الليبرالية ، لم تكن سوى نتيجة واحدة : ألا وهي الدعم السياسي لسيطرة البرجوازية ، ففي كتابه " أوهام التقدم " ينتقد سويل عقائد السيادة الشعبية ، والإدارة العامة والتفويض البرلماني ، ويصور المنتخبين ، وكأنهم أساقفة علمانيون ، منحهم الهيكل الشعبي سلطة غير محددة ، الأمر الذي نتج عنه حسب رؤية آلان دي بنوا " انحطاطا تتحكم فيه الغرائز الهدامة "(28) .

فالديمقراطية الأمريكية ما هي إلا نظام حكم أقلية انتخابية ، وأن هذا النظام يعزز من تلقاء نفسه منطقة الخاص .

فالشعب في النظام السياسي الأمريكي ، يفوض أشخاصا ينتخبهم لمهمة ترجمة قراراته إلى الواقع . إذ أنهم يفوضون مهامهم وأعمالهم لمساعديهم ، أي الموظفين الخبراء،  وغيرهم من الأشخاص الذين لا يتم انتخابهم ولا يمسهم النشاط الانتخابي إلا بنسبة قليلة.

ومن هنا نرى أن السلطة السياسية ما هي إلا جزء من مجموع ضروب السلطة الأخرى، فالسلطة داخل المجتمع الأمريكي تمارس من طرف الهيئات الاقتصادية ، مثلما تمارس أيضا من قبل المؤسسات الثقافية ، والقوى المالية مسئولون عن هذه الهيئات يصدرون القرار دون أن يكونوا منتخبين .

ونتفق هنا مع رؤية الباحثين الأمريكيين في أن الديمقراطية الأمريكية تتلون بلون أرستقراطي ، إذ يعطي الاتجاهات الاستبدادية ، وبأن التوكيد الديمقراطي القائل بأن الشعب يحكم نفسه لا يشكل وصفا مقنعا كل الإقناع على المسرح السياسي ، ونلاحظ جليا في وجود جماعات قليلة تقوم بدور القيادة ، وممارسة الحكم وأكثرية قد تختار بين هذه الجماعات المحدودة ، ولكن المبادرة والقيادة ليست في يد الجماهير ، بل في يد القيادة التي تقبل الجماهير بها . فالناخب الأمريكي هو الذي يفصل بين مرشح أو أكثر ، وهو الذي بوجه اتجاهات سياسية مختلفة ، يختار من بينها ، ولكن لا يساهم في قراراتها ، فبعد إعطاء صوته الانتخابي يتنازل عن إرادته السياسية لمن يمثله ، الذي يمارس هذه الإرادة وفق مزيج من المسؤولية والمصلحة والأنانية المهنية ، والمواطن لا يفعل شيئا سوى الاقتراع في الانتخابات القادمة .

هذا الأمر أدى إلى إثارة المزيد من الشكوك في الديمقراطية الأمريكية نفسها ، كنموذج نظام سياسي جيد ، فمنذ أن بدأت دراسات الانتخابات الحديثة بالظهور أخذ التشكيك يتسرب إلى هذا المفهوم ، فالنقد يتركز على أساس اللامبالاة المدهشة ، التي يكشف الناخبون عنها . فهناك عدد قليل نسبيا من الناخبين الذين يغيرون آرائهم بين انتخاب وآخر ، ولكن الناخبين يكشفون عن جهل تام بالقضايا المطروحة ولا يظهرون اهتماما بهذه القضايا ، التي يفترض بهم اتخاذ قرارات حولها ، هذا يمثل من وجهة نظرنا انحرافا واضحا في النموذج التقليدي ، حول المشاركة الديمقراطية ، هذه الظاهرة تعترف بها وبوضوح السيسولوجية السياسية ، ولكن الاختلاف هو عند وجوده حول النتائج التي تترتب عليها ، وليس حول الاعتراف بها .

ومما سبق فإن مجمل نقدنا للديمقراطية الأمريكية في :

1- الناخب الأمريكي لا يستطيع المشاركة مع مجلس النواب في الحكم والمشاركة الجدية والفعالة ، وذلك لعدم كفاءته وقدرته على القيام بهذه المهام الخطيرة والمعقدة .

2- الادعاء بأن الناخب يشارك بالاستفتاء الشعبي ، فإن الشعب الأمريكي لا يتحصل على وقت لمناقشة كافية لمسائل المطروحة بعناية .

3- اشتراك الناخبين في الحكم مسألة صورية ، فالجماهير تقع تحت سيطرة جماعات الضغط ، ووسائل الإعلام ، والمؤسسات السياسية والاقتصادية ، الأمر الذي يؤثر على الرأي العام ، في اتخاذه لمواقف حقيقية وموضوعية .

ثانيا : الفدرالية " الاتحادية " :

يمكن القول أن نقل الفردية والليبرالية والتعددية إلى الصعيد السياسي بقدر ما هو في الوقت نفسه مثالا جديدا عن المقارنة الرائدة للإنسان الذي ظل فرديا في حياته التجميعية الغريزية " فالولايات المتحدة هي اتحاد مكون من ولايات تتصرف كما لو كانت أفرادا ، يتقبلون في اتحادهم بحرية مع حفاظهم في المقابل على حريتهم في عدد كبير من المجالات ، كأنهم لا يستطيعون التخلي أبدا عن أصالتهم ، رغم انصهارهم في قلب الجماعة "(29) .

وبالنظر إلى طريقة ولادة الفدرالية في أمريكا في العصر الكولوتالي وقبل قيام الولايات المتحدة بكثير ، وبالنظر إلى كيفية تطورها ، وتحولها عبر السنين ، تدرك ماذا تمثل الفيدرالية بالنسبة للأمريكيين(*) .

لقد نشأت الأمة الأمريكية انطلاقا من مستوطنات متنوعة نسبيا في مجالات الديموغرافيا والدين والاقتصاد والفلسفة والفكر السياسي ، وكانت تصطدم ببعضها على نحو مألوف لقضايا مصلحية مادية ، وأيضا بموجب القانون الذي يرمي إلى أن تكون الحضارات توسعية ، حتى عندما تكون في طور الولادة ، لكن أيا الحضارات الصغيرة لم تنتصر على سواها في الولايات المتحدة . ربما لأن أيا منها لم تكن ذات قوة كافية ، لكي تفرض نفسها ، وربما لأن لغة مشتركة كانت توطد بنيانها .

ويمكن الإشارة هنا إلى أن مواد الاتحاد الدائم أو الوحدة التي صدقت سنة 1777 ، لم تبرم إلا سنة 1781 ، نظرا لتحفظات تحول دون القبول بحكومة مشتركة ، فعندما يعرف المرء نقطة ضعف الحكومة ، التي تنص هذه المواد عليها ، فإنه يدرك مدى قوة القوى المركزية في أمريكا .

إن هذه المواد أعطت اسمها للولايات المتحدة الأمة الجديدة ، لكنها تسارع إلى التأكيد على أن كل ولاية يمكنها الاحتفاظ بسيادتها ، صحيح أن مواطني كل ولاية يعتبرون مواطنين في الولايات الأخرى ، إذ كان من المنصوص عليه انتخاب المندوبين ، وعدم استطاعة الولايات توقيع معاهدات فيما بينها ، وامتلاكها " خزينة " مشتركة لدفاع عن ذاتها ، إلا أن الكونغرس لا يستطيع جباية الضرائب ، فقد كان يمثل الولايات ، وليس الشعب ، ولم يكن رئيس السلطة التنفيذية ينتخب إلا لعام واحد(30) .

إن هذا يبين بلا شك مدى تآكل النظام السياسي الأمريكي منذ بدايته ، فالكونغرس كما سنرى يتكون من عضوين عن كل ولاية ، وبهذا الشكل فإن هذين العضوين لا يمكن بأي حال من الأحوال ، أن ينوبا عن شعب الولاية ، خاصة أن هناك ولايات يزيد عددها عن المليون مواطن أمريكي .

فهل من الديمقراطية أن يمارس شخصان السلطة نيابة عن مليون مواطن ، إن الكونغرس في هذه الحالة بلا شك يبين مدى فشل التعددية التي يمارسها نائبان فقط ، وبذلك تكون المصلحة الفردية لهما الغالبة عن مصالح الشعب ، الذي اختار من ينوب عنه حتى في الآمال والمفاوضات .

وبخصوص الدستور الذي حل محل الاتحاد عام 1788 ، فقد عزز السلطة المركزية لكنه لم يبرم ، إلا بعد سلسلة من التسويات أجراها واضعوه ، فقد كان من الصعب جدا فرض سلطة مركزية حقيقية ، أما التعديل الثاني الأخير كما يسمى " إعلان الحقوق " فقد ولف بين تلك التسويات والتحفظات : إن كل السلطات غير الموكولة صراحة للسلطة الاتحادية تدخل في صلاحيات الولايات(31) .

وعمليا لكي يبقى الاتحاد قابلا للحياة ، لابد من قبول كل من أطرافه المكونة له ، بقاعدة قانونية تناسب أكثرية الأطراف ، وخصوصا لابد من عدم تعارض دستور كل ولاية إطلاقا مع الدستور الاتحادي ، ولكن بما أن التشريع راح يتزايد ، والتعديلات أخذت تتكاثر ، فإن نقاط الخلاف أخذت تتكاثر بدورها(32) .

وإذا نظرنا إلى قرارات المحكمة العليا(*)، فهنا يعتبر انتهاكا سلطة الولايات : فهي مثلا إذ تعلق لا دستورية الضريبة التي تفرضها بعض الولايات على الناخبين ، فإنما تتطاول بلا جدل على سلطة الولاة " صحيح أن هذه القرارات يمكنها التأثير بكيفية عكسية ، حيث تكفل السلطة المحلية في مواجهة السلطة المركزية ، ومثال ذلك أن المحكمة العليا أعلنت سنة 1935 لا دستورية " NIRA "(33) الذي وضعه روزفلت ، لأنه كان تطاول على سلطة الولايات .

إن الفدرالية الأمريكية تحترم حقوق الولايات على الدوام ، لكن من المحقق أن السلطة المركزية تتوسع على الرغم من ردود فعل الرأي العام .

فالأحزاب السياسية الرئيسية في الولايات المتحدة "الديمقراطي + الجمهوري " انتظما عملا على مستوى الولايات يشكلان حصونا متبعة للاتحادية ، حتى أن تعارض أحيانا حول الأهمية المناطة بالسلطة المحلية ، فقد كان الجمهوريون يميلون تقليديا إلى السلطة المركزية القوية " تمركز " ، " تصنيع " بينما كان الديمقراطيون بشكل عام أشد ميلا إلى اللامركزية .

فكارتر وهو ديمقراطي كان بكل تأكيد أشد مركزة من ريغان الجمهوري ، وقد تبادل الحزبان عقيدتهما حول هذه النقطة ، ويمكن من خلال ذلك القول " أن في كل ولاية يوجد حزب ديمقراطي ، وحزب جمهوري ، أصليين نسبيا ، ويتخذان من قضايا تفصيلية مواقف لا تكون دائما المواقف نفسها ، التي يجري اتخاذها على الصعيد الاتحادي محليا(34) .

ونخلص هنا إلى أن جل الولايات كانت تدافع على حماية استقلالها التي يكفلها لها الدستور الأمريكي ، وهي تعاني في ذلك متاعب كثيرة ، لدرجة يتعين عليها أن تستعين بالسلطة المركزية على نحو متكرر ، قد تعودت الولايات أن تطلب مساعدات للقيام بأعمال كبرى،  ولمساعدة المعوزين ، وهي تعرف أنها في كل مرة تتخلى عن مزيد من حريتها .

وإذا أردنا أن ندخل في تفصيلات تتعلق بالعلاقة بين الاتحاد والولايات فإن لورنالدير يشير إلى أن الولايات الفردية ، تتخصص في جميع الأمور التي لم يحتفظ بها الدستور الأمريكي للحكومة الاتحادية حيث تكلف الحكومة الاتحادية لحماية الولايات من الغزو الخارجي وأعمال العنف ، مستخدمة بذلك السلطة التنفيذية ( الرئيس ) والتشريعية ( الكونغرس ) والقضائية (المحكمة العليا) لتنفيذ تلك المهام . أما سلطات الولاية فيمكنها أن تتصرف في جميع الأمور الأخرى ولهذا نرى أن لكل ولاية هيئة تنفيذية وسلكها المدني ومحاكمها ، وبإمكان الولاية وضع قوانين خاصة بها في التعليم والضمان والأمن والنظام ، " ويجوز للولاية إما أن تعهد إلى مقاطعاتها التي تتألف منها ببعض السلطات ، وليس هناك اختلاف في بعض قوانين التعليم والصحة بين مقاطعات الولاية الواحدة "(35) .

وفي تقرير نشرته وكالة المعلومات الأمريكية " USIA " في شبكة الانترنيت 1998 ، حول موضوع الحكومة الاتحادية نرى أن الدستور الأمريكي هو الذي يحدد أو يضع النظام الفيدرالي من خلال تقسيم السلطات والصلاحيات بين الحكومة المركزية ، وحكومات الولايات،  والحكومات المحلية ، ويبرز التقرير أن هناك خاصتين أساسيتين يميزان هذا النظام الحكومي الأمريكي الثلاثي هما :

1- المواطنون يختارون المسؤولين للعمل في كل هذه الحكومات الثلاث ، وتكمن مسؤولية كل مستوى في خدمة الناس . وفي تقديرنا أن عملية الاختيار غير ديمقراطية ، لأنها تأتي تحت تأثيرات كبيرة ، تستخدم فيها وسائل الإعلام والدعاية بشكل ملفت للانتباه ، مما يجعل الرأي العام يقع تحت تأثيره ، ولا يستطيع بعدها الاعتراف بأن اختياره كان غير ديمقراطي إنما تم توجيه من مؤسسات محدودة تعمل لتحقيق أهدافها .

2- كل مستوى حكومي يعمل على تحصيل الأموال من خلال الضرائب التي يتم جبايتها من المواطنين الذين يقيمون في المناطق التي تقدم موارده المالية السنوية ، فإنه ليس بإمكانه التصرف مستقلا "(36) ، وتجدر الإشارة إلى الأعباء الضريبية التي تثقل كاهل المواطن ، وإلى المبالغ الخيالية التي تم إنفاقها على قطاع الدفاع والتسليح ، ودعم المؤامرات الخارجية،  وأعمال التجسس ، والتخريب والمعونات المشروطة ذات الطابع الأمني والسياسي ، وانعكاس هذا الإنفاق على مستوى حياة ملايين الفقراء وأبناء الشعب الأمريكي على ضوء العدد القليل الذين يتربع على قمة الهرم الاقتصادي في هذه الدولة .

وفكرة فصل الصلاحيات ، ونشرها بين عدة عناصر حكومية ، الغاية منها كما يرى ريتشارد شوردر هو تحديد سلطات الحكومة ومنع الانتهاكات ، فكل ما أمكن ذلك فإن المؤسسين بنوا نظام " صكوك وحسابات " ضمن الدستور ، حتى لا يمكن لأي جزء من الحكومة أن يحل محل الآخر(37) .

وفي موقع آخر على شبكة المعلومات ، وجدنا مجلة قضايا ديمقراطية وفيها موضوع بقلم الكاتب الأمريكي نفان فليك ، حول اعادة بناء الفيدرالية الأمريكية ، حيث يشير إلى أن الاتحادية قد مرت بتطورات ثابتة ، فقد استشهد الكاتب بما قاله الرئيس بيل كلينتون عندما قال " إن الضرورة التي تحتم الابتكارات والتجديد في الحكومة نابعة من الندرة في موارد التمويل والحاجة الملحة ، لأن يحل الناس مشاكلهم بأنفسهم "(38) .

ويشرح الرئيس كلينتون كيف حل نظام الشراكة ، الذي يتيح فاعلية أكبر ، ويعطي نتائج أفضل على المستوى المحلي ، محل نظام العلاقات بين الحكومات ، الذي يعمل من أعلى إلى أسفل. رغم أن ما يقوله الرئيس كلينتون مسالة إيجابية توضح مدى ضرورة الاشتراك الفعلي للشعب في ممارسة حقه في السلطة التي عجزت كل الأشكال والأنظمة على أن تحل مشاكله ، ولكن أليس من الغريب في مجتمع ديموغوجي يعتمد على النجاح التلفزيوني لشخص الرئيس ، أن يقدم هذا الطرح فللوهلة الأولى يمكن الجزم أن هذا القول يميل إلى طرح البديل الثالث لحل مشكلة الحكم ، ولكن بالنظر إلى ما تعرضه الحكومة الأمريكية على وزارة الدفاع ووكالة المخابرات وكالة ناسا للفضاء وبين أي محاولة لن تنجح في أن يحل المواطن مشاكله بنفسه،  سوف يقف عاجزا أمام طموحات الهيمنة .

إن عقلية السيطرة والهيمنة تخيم على الإدارة  الأمريكية ، ولامكان فيها لما يطرحه الرئيس كلينتون على أرض التطبيق .

ويشرح في هذه الدورية البروفيسور أليس كاتز التابع إلى مركز الدراسات الفيدرالية بجامعة " تمبل " ، أصل وأسس تطور الفيدرالية الأمريكية ويحلل القوى التي تظهر أنها تحرك هذه الاتحادية في اتجاهات جديدة ، ونجده أيضا يستشهد بما قاله ميشيل ليفيت حاكم ولاية يوتا " لابد من إعادة توازن الجمهورية الأمريكية ، والاستفادة أكثر وبفاعلية أكبر من الصلاحيات والأدوات التي حددها الآباء الذين وضعوا هذا الدستور للولايات داخل النظام الفيدرالي(39) .

وأن النظام الفيدرالي الأمريكي يوضح إلى أي مدى تتآكل المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة ، وكيف أن هذه المؤسسات تأخذ جانب الدفاع والهجوم من المؤسسات الأخرى المقابلة لها ، وكأنها في حالة حرب ، فأي ديمقراطية هذه التي لا يعرف فيه الفرد موقعه من الخارطة السياسية ؟!! .

وإذا سلمنا جدلا بوجود دولة مؤسسات ، فإن علينا أن نفحص هذه المؤسسات ، لنعرف فلسفتها ووظائفها وتركيبها ومصادرها في العملية السياسية وصنع القرار الأمريكي .

المطلب الأول : المؤسسات الرسمية في التركيبة السياسية الأمريكية :

تعتمد الولايات المتحدة في نظامها السياسي على مبدأ فصل السلطة ، الذي يجد أساسه في الفلسفة السياسية التي ظهرت في القرن السابع عشر والثامن عشر ، بالأخص في كتاب الفيلسوف الإنكليزي جون لوك " رسالتان عن الحكومة " الصادر في 1690 ، وفي التطبيق العملي لذلك النظام في بريطانيا وقد أكمل مونتسكيو في كتابه " روح القوانين " الصادر في 1748 دراسة المبدأ الذي وجد فيه أداة ضمان لحرية المواطن ، وقد تأثر دستور الولايات المتحدة الأمريكية ودساتير فرنسا من الثورة الفرنسية بالكتابين المذكورين . وتقضي فكرة فصل السلطات لدى مونيسكو من تقسيم وظائف الدولة إلى ثلاث وظائف : الوظيفة التشريعية،  والتنفيذية ، والقضائية ، " أي سلطة صنع القانون وسلطة تنفيذه وسلطة البث في الخلافات التي تنشأ عن مخالفة أحكامه أثناء القيام بتلك الوظائف ، وكان الهدف هذا الفصل حتى لا يساء استعمال السلطة ، حيث تحد كل سلطة السلطة الأخرى ، ونجد هذا المبدأ قد تم تبنيه في الولايات المتحدة الأمريكية وعلى النحو التالي :

أولا : الدستور الأمريكي :

عقد المؤتمر القاري الأمريكي الأول - الكونغرس - في سنة 1774 وكان يضم مندوبي من المستعمرات ، التي كانت في حالة حرب مع بريطانيا ، وكانت كل واحدة منها تنظر إلى نفسها كوحدة مستقلة ، وتنظر بكثير من الحذر إلى فكرة الاتحاد ، وقد عمل هذا المؤتمر حتى سنة 1781 بشكل هيئة عليا ، تتولى إدارة الحرب ، وتنسيق التعاون بين الدول دون أن يكون لها صفة تمثيل الشعب الأمريكي .

وعرض ديسكتنون وبعض أعضاء هذا المؤتمر صياغة نظام على المؤتمر ، بتشكيل حكومة اتحادية ، غير أنها جابهت بمعارضة مستعمرة ماريلاند ، وبعد ذلك تم الموافقة على المقترح مع مراعاة أسباب معارضته المستمرة ، وتم الموافقة أيضا على دستور نظام الحكم المقترح الذي عرف باسم شروط " الاتحاد التعاهدي " ، والذي يقضي بضم الدول الأمريكية في اتحاد ، ويعرف باسم " الدول الأمريكية المتحدة " ، ويشير فرانكلين أشير في كتابه موجز تاريخ الولايات المتحدة إلى مشكلة الاتحاد التعاهدي ، فقال : " لقد برزت في السنوات القليلة التي تلت وضع التحالف موضع التنفيذ ضعف مواده واضطرابها ، كما ظهرت عدم تلبية حاجات البلاد ، وعدم قدرته على حل مشاكلها "(40) .

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العمل بمواد الاتحاد أدى إلى حدوث كارثة اقتصادية ، بسبب بقاء السيطرة على التجارة والتشريعات في ايدي الدول التي سنت المجالس التشريعية .

ويقدم لنا عبد الحميد النعنعي مثالا على هذه المشكلات ، عندما عقد في مدينة أنابوليس سنة 1786 مؤتمرا اشتركت فيه خمس دول أمريكية للنظر في نزاع على الملاحة في نهر البوتوماك ، قام بين فرجينيا وماريلاند ، ولم يعرض على الكونغرس ، لأنه كان قد وصل إلى مرحلة من الضعف ، لم يعد معها قادرا على القيام بأي عمل إيجابي في الحياة الأمريكية(41) .

وفي الاجتماع الأول تمكن الزعيم الكسندر هاملتون من تحويل المؤتمر عن هدفه الأساسي ، وطرح قضية البلاد كلها ، لقد صارح المجتمعين بأن موقف البلاد خطر ، بحيث إنه لا يمكن معالجته على يد مؤتمر صغير ، وأقنع المجتمعين بأن يطلبوا من جميع الدول تعيين ممثلين عنها لوضع النصوص الضرورية ، التي تجعل دستور الحكومة الاتحادية مناسبا لحاجات هذا الاتحاد "(42) .

وفي مايو 1787 التقى في دار الحكومة في فيلادلفيا خمسة وخمسون مندوبا ، يمثلون اثنتا عشرة ولاية ، وكان أكثر هؤلاء المندوبين من ذوي الخبرة في الشؤون العسكرية والقانونية ومن عملوا في حكومات المستعمرات .

" وقد اختار الجميع جورج واشنطن نظرا لنزاهته وسمعته أثناء حرب الاستقلال رئيسا للمؤتمر "(43) .

ومنذ البداية تمكن زعماء من أمثال ماديسون وهاملتون وموريس من السيطرة على الأكثرية ، وتوجيه المؤتمر نحو تحقيق نظام حكومي جديد ، متجاهلين أن هدف المؤتمر الأساسي كان " مراجعة بنود الاتحاد " ، لذا فقد اقروا إلغاء شروط الاتحاد الكونفدرالي ، وأخذوا يعملون لوضع دستور جديد للبلاد ، يناسب كل فئات المجتمع الأمريكي على اختلاف سلالالتهم وجنسياتهم ومصالحهم الاقتصادية(44) .

ويؤكد جيرهارمون على أنه في اثناء جلسات عمل المؤتمر " فيلادلفيا الثاني ، واجه الحاضرون صعوبات كثيرة في التوفيق بين مصالح الولايات المختلفة المتضاربة ، وخاصة في التوفيق بين حرص بعض الولايات على استقلالها ، والرغبة العامة في تقوية السلطة الاتحادية المركزية ، حيث عرض على المؤتمر مشروعين للدستور الأمريكي يختلفان اختلافا جدريا هما:

1- مشروع فرجينيا :

قدم هذا المشروع ماديسون المعروف باسم أب الدستور الجديد ، ويمثل هذا المشروع مصالح الولايات الكبرى ، لقد اقترح ماديسون شكلا حقيقيا لحكومة وطنية ، يتولى السلطة التشريعية فيها مجلسان ، المجلس الأعلى ، ويمثل الولايات بما يناسب مع حجمها وثروتها ، وينتخب الشعب الأمريكي المجلس الآخر ، ويهدف مشروع فرجينيا في الأساس إلى الإقلال من سلطة مجالس الولايات ، وجعل المواطنين يمثلون في الكونغرس ، ويحكمون من قبله أيضا ، وفي هذا تجاوز السلطة الدولة .
 
2- مشروع نيوجرسي :

وكان هذا المشروع أكثر حذرا ، ويمثل مصالح الولايات الصغيرة المتخوفة من طغيان الولايات الكبيرة ، لقد طالب مندوب نيوجرسي بمجلس واحد تتساوى فيه الولايات في التمثيل ، كما كان الوضع في شروط الاتحاد ، على أن يمنح الكونغرس السلطة لفرض الضرائب وتنظيم التجارة (45).

text-align: right; direct

المصدر: ________________________________________ 2003 الحـقائق - المملكة المتحدة جميع الحقوق محفوظـة
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 594 مشاهدة
نشرت فى 22 نوفمبر 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

383,549