((   اتفاقية أوسلو – الخلفيات والتهيئة ))

 

ليس من قبيل الصدفة أن اكتب حول اتفاقية أوسلو وقد مضى عليها اثنا عشرة عاما ، فقد أماته أسباب عديدة ، تتعلق بخصوصية النظام الدولي الجديد ، ونوعية التحديات المصيرية التي يفرضها هذا النظام على الدول العربية والإسلامية ، وبالخصوص التحديات التي تلف عنق الشعب الفلسطيني ، وتحاول إبعاده وتشطير قضيته وحقوقه لحساب الكيان الصهيوني باعتباره حاميا للمصالح الأمريكية في المنطقة ، وتحت الحماية الأمريكية المباشرة وخصوصا بعد احتلال العراق .

                                                                                                       وإذا كان هناك  ضرورة لطرح ومناقشة مجريات القضية الفلسطينية وواقع الشعب الفلسطيني الحالي والتعرض للأسباب الحقيقية التي أدت إلى جر الفلسطينيين إلى مفاوضات ( سلام ) وفق شروط الكيان الصهيوني !! والتي رأيناها في الاتفاقيات المتلاحقة ، ونتيجة لاهتزاز وميوعة مواقف المفاوض الفلسطيني فقد الشعب الفلسطيني كثيرا من حقوقه المشروعة !!

وأتصور أن أخطر ما حصل هو توقيع ( إتفاقية أوسلو) التي أجل فيها البحث في الكثير من أهم القضايا التي تهم الشعب الفلسطيني وتعد من أهم مرتكزات أية حل نهائي ، مثل قضية القدس واللاجئين وحق العودة ، إضافة لعيوب هذه الاتفاقية القانونية الكثيرة . لهذا أعتقد أن الصراع ما زال مستمرا ... والأزمة ما زالت باقية ..خصوصا بعد إقامة الجدار وإعادة الانتشار للجيش الصهيوني من غزة دون التشاور أو الاتفاق المسبق مع السلطة الفلسطينية ، وهذا يدعو كافة فئات الشعب الفلسطيني من مقاومين إلى سلطة وإسلاميين ووطنيين ، لتحديد ( آليات الحل ) للواقع الفلسطيني المرير وفق خطوات علمية وفلسفية لا تتعارض مع الإيمان والتراث وعدالة القضية الفلسطينية مع الأخذ بعين الإعتبار بالنظرة المستقبلية لطبيعة هذا الحل ووضع المنطقة .

 

. . . لقد اعتبر العام 1983 من قبل بعض المحللين السياسيين بأنه مؤشر واضح , لبداية تبلور علاقة جديدة بين الفلسطينيين و(إسرائيل) , حيث تم في هذا العام , وبالتحديد في 11/3/1983 , لقاء بين (أبي إياد) وبين وفد من (حركة السلام الآن) في المجر , بمبادرة من المسئولين المجريين .

وقد حضرت اللقاء الصحفية اليهودية (حنا زيمر) , التي نشرت تفاصيل اللقاء في صحيفة (هاآرتس) , ووصفته بأنه :

_ كان لقاء مهماً وعنيفاً .

لهذا فقد دعا (شامير) إلى توضيح (معنى السلام) , في مقال نشره عام 1983 في مجلة (فورين افيرز) وقال فيه :

_ إن السلام تريده (إسرائيل) مرتبطاً بالأمن .

وأضاف :- ( أنهما لن يتحققا إلا إذا كانا مرتكزين على القوة الإسرائيلية , فالسلام لا يتحقق إلا إذا كانت إسرائيل قوية ) !!!

وضمن هذا التحليل , أعتقد (شامير) أن القوة ستجعل العرب يتنازلون عن كثير من أولوياتهم , وأهدافهم , ومبادئهم , وستجعل السلام أيضاً في خدمة أهداف ومصالح (إسرائيل) فقط , حيث سيخسر العرب في النهاية كل قضاياهم .

الشيء الذي يثير الانتباه كثيراً في مقال (شامير) هو إصراره على (قوة إسرائيل) التي : (ستعمل على توسيع دائرة المشاركين في عملية السلام , وهذا سيكون بمشاركة مصر وإسرائيل وتشجيع الولايات المتحدة على ذلك) . وعند استقرائي للأحداث منذ العام 1983 ولحد الآن , نجد أن آراء (شامير) , التي هي آراء (تل أبيب) , تتحقق بدقة متناهية بمباركة عربية لا ترى مبرراً لها إطلاقاً . خصوصاًُ وأن (شامير) يشير في مقاله بوضوح إلى موضوع (التكيف العربي) , وهو موضوع خطير وحساس يجب الإلتفات إليه , حيث قال :

_ ( إن مصر رفضت العودة للعرب على حساب إسرائيل بعد كامب ديفيد , وبدا أن بعض العرب بدئوا يتكيفون مع الموقف الجديد) ؟

وتكيف العرب مع الموقف الجديد , الذي سعت إليه (تل أبيب) بمباركة (واشنطن) , كلفت المنطقة كثيراً في النظام الدولي الحالي . . .

وتكيف العرب مع الموقف الجديد أيضاً ينم عن جهل مطبق من بعض الحكام العرب , الذين هرولوا إلى الصلح مع (إسرائيل) , دون أن يفهموا بدقة ما يخطط للمنطقة . . . وينم عن جهل آخر بالمعادلات الدولية , التي تريد (واشنطن) فرضها عليهم بالقوة .

والغريب أنه بدلاً من أن ينظم العرب أوضاعهم السياسية , والانطلاق بنظام أمني جديد , ونظام اقتصادي واجتماعي جديد يهيئ وفقاً للأسس التي تتماشى مع مصالح شعوبهم  , والخروج بتكتل إقليمي يكون قادراً على مواجهة التحديات المعاصرة . . . بدلاً من ذلك . . . أستسلم بعض الحكام العرب (لإسرائيل) و(الولايات المتحدة) , بحجة أن النظام الدولي الحالي يقتضي المرونة , وقد وصلت المرونة ببعض هؤلاء إلى التخلي عن مبادئ , وأهداف , ومصالح العرب وبيعها بدون ثمن على طاولة المفاوضات مع (إسرائيل) .( وهذا ما يحدث حاليا متمثلا بهرولة معظم ممثلي الدول العربية للقاء مستر شارون ، بعد ما سمي بالإنسحاب من قطاع غزة ) !!!!

     على أية حال . . . نعود إلى صلب الموضوع . . . ونؤكد على أنه قد عقدت عدة لقاءات بين قيادات فلسطينية وبين (حركة السلام الآن ) ويهود شرقيين , لدفع العرب إلى مزيد من التنازلات , ولدفع (م.ت.ف) إلى الإعتراف (بإسرائيل) . إلا أن أهم لقاء تم بين الجانبين كان في رومانيا عام 1986 , ثم توالت اللقاءات . . . لقاء في هنغاريا عام 1987 . . . ولقاء في إسبانيا عام 1989 , وصفته الصحافة بأنه : كان مثيراً للغاية , حيث شاركت فيه وفود مكثفة من يهود شرقيين من شتى أنحاء العالم .

 و لكي لا تخلط الأوراق . . وهو أن (مفهوم السلام في إسرائيل) يرتكز على ( دعم مصالح تل أبيب التوسعية ) , ويراد منه أيضاً ( استيعاب الشعب الفلسطيني في كيان هزيل وغير مسلح) , وهذا ما يؤكد عليه سياسيو (إسرائيل) , ومن بينهم (دافيد ايش شالوم) , الذي طالب (الليكود , والعمل) في كتابة ( الرعب والأمل ) بإقامة : ( حكم ذاتي فلسطيني غير مسلح في يهودا والسامرة وقطع غزة بقيادة المنظمة ) , وقد وجدت أفكار (شالوم) طريقها إلى (الليكود) عبر صديقه (موشيه عميران) , أحد أعضاء (حركت حيروت) . والملاحظ أن صديقه ( شالوم ، عميران) كانا حلقة الوصل بين (عرفات) ومؤيديه وبين زعماء (إسرائيل) , حيث رتبا عدة لقاءات بهذا الشأن مع (سري نسيبة , وصلاح زحيقة ) في 4/7/1987 , ومع (فيصل الحسيني) في 13/7/1987 , ومع (نسيبة , وفيصل الحسيني) في 30/7/1987 . وقد نوقش في هذه الاجتماعات كثير من الأمور المتعلقة بالسلام , واتفق أن تكون هناك (مرحلة إنتقالية) لمده قصيرة , تنتهي (بإنشاء كيان فلسطيني منزوع السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة) , ومشروع السلام (الإسرائيلي) هذا إسترعى إنتباه كثير من المحللين السياسيين المهتمين (بأزمة سلام الشرق الأوسط) , ووصفوه بأنه : مشابه (لاتفاق أوسلو) بصورة إجمالية !!

لهذا فأنا أرفض الفكرة القائلة بأن : معاناة الفلسطينيين في لبنان , وضغوط المؤامرات العربية ضدهم , وكذلك المعادلات الدولية بعد اضمحلال الإتحاد السوفياتي وبناء نظام دولي جديد هي التي دفعتهم للتنازلات في (إتفاقية أوسلو) . . . وهذا الكلام مع أنه صحيح في أكثر من جانب , إلا أنه ليس دقيقاً.. لأن الفلسطينيين المؤيدين للسلام مع (إسرائيل) كانوا يحملون في نفوسهم (مبرراً للاستسلام) منذ البداية , وكذلك فإن تبدل (موازين القوى) لا يستدعي التنازل عن أولويات ,وأهداف من أجل سلام هش لا يخدم إلا تطلعات (تل أبيب) و (واشنطن) في المنطقة .

_ صحيح إننا يجب أن نفهم منطق (العامل الدولي) , ولكن الفهم يحتم علينا أن نكون أقوياء لا ضعفاء مستسلمين .

_ وصحيح أيضاً أن كارثة احتلال الكويت ,  خلقت أموراً خطيرة في المنطقة , بما فيها تواجد الأساطيل الأميركية , مما أدى إلى تولد إحباط كبير عند العرب , شجع الفلسطينيين إلى الذهاب إلى (محادثات أوسلو) .

ولكن هذا كله ليس مبرراً بالمرة إلى التنازل عن كل شيء من أجل سلام كسيح .

_ وصحيح أن المؤامرات العربية كانت لها ضغوط على مسار القضية الفلسطينية , ولكن هذه الضغوط ليست مبرراً آخراً للرضوخ لشروط (تل أبيب) الغير مشروعة .

وعليه نقول . . . إن الفلسطينيين المؤيدين للصلح مع (إسرائيل) كانوا يحملون (بذور الاستسلام) , وهذا ما دعاهم , في 15/11/1988 , إلى تبني ما يسمى (بالمبادرة السياسية) في المجلس الوطني الفلسطيني , بعد خديعة المجلس واستغفاله . ويعترف (أبو مازن) في كتابه (طريق أوسلو) بذلك حيث يقول بأنه :- (حاول أن يمرر بالاشتراك مع عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي الفلسطيني نعيم الأشهب طرح فكرة القبول بالقرارين 242 , 338 كأساس لعملية سياسية أو لمبادرة سياسية , سميت فيما بعد المبادرة السياسية الفلسطينية) * .

ومن المعروف أن (المبادرة السياسية) طرحت في البداية بشكل سري للغاية ثم سربت فيما بعد إلى بعض الأطراف العربية , وإلى الإتحاد السوفيتي السابق .

المهم . . .

أن الجناح المؤيد (لعرفات) نجح في تمرير ما يريده في (م.ت.ف) . . . وضمن هذه السياسة المستسلمة . . . جاءت مبادرة (عرفات) في جنيف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1988 , والتي ركز فيها على :

* ( الصيغ البديلة الواقعية القابلة للتحقيق لأجل حل القضية ) .

* ( والعدل الممكن لا المطلق ) .

 

 

* ( على أن يضمن ذلك حقوق الشعب الفلسطيني في (الحرية والسيادة وتوازن المصالح) , ويضمن للجميع (السلام والأمن والاستقرار) , من خلال (مؤتمر دولي) يعقد لذلك بحضور جميع الأطراف بما فيها دولة فلسطين , لتحقيق (المساواة وتوازن المصالح) , وخاصة التحرر والاستقلال الوطني واحترام حق العيش للجميع وفقاً للقرارين (242,338) .

ثم وجه (عرفات) كلامه بعد ذلك إلى (الإسرائيليين) قائلاً لهم :

_ ( تعالوا بعيداً عن شبح الخوف والتخويف , لصنع السلام , سلام الشجعان , بعيداً عن غطرسة القوة , بعيداً عن شبح الحرب المتواصلة ) .

وأعتقد . . . أن خطاب (عرفات) لم يكن منطقياً , لأنه كيف تكون المساواة , وتوازن المصالح (وإسرائيل) متمسكة بغطرستها ؟ , حيث تريد أن تملي شروطها دائماً على الغير . و(عرفات) قبل غيره يعرف ذلك جيداً , لكنه أراد من خطبته في الأمم المتحدة أن يرضي (أميركا) والحصول على اعترافها (بمنطقة التحرير الفلسطينية) . وفعلاً فقد صدر , بعد يومين فقط من خطاب جنيف , قرار (أميركي) بفتح الحوار مع الفلسطينيين , مما دعا (وزارة الخارجية الإسرائيلية) إلى نشر بيان شديد اللهجة ضد القرار (الأميركي) . ولم تلتفت (واشنطن) لذلك , لكنها حاولت أن تفهم (تل أبيب) حقيقة موقف (الولايات المتحدة) المساند والمؤيد (لإسرائيل) , حيث جاء قرارها بفتح الحوار مع (م.ت.ف) ضمن هذا السياق , وبعد مداولات إقتنعت (تل أبيب) بوجهة نظر (واشنطن) , ورحبت أيضاً بضرورة إجراء لقاءات سرية بين مؤيدي (عرفات) وبين يهود أميركيين للتمهيد للمحادثات الرسمية . وبالفعل تمت هذه اللقاءات بسرية تامة لدفع الفلسطينيين إلى مزيد من التنازلات ومن خلال هذه الواقعة نتعرف على حقيقة ذلك . . .

 

 

    فعندما تحدث (أبو عمار) , في مؤتمر صحفي أثناء زيارته للسويد نهاية العام 1989 , عن لقاء جرى بين (خالد الحسن) وبين (زعماء يهود أميركيين) , أراد أن يصف هذا اللقاء قائلاً :

_ ( إنه قراءة جيدة لقرارات المجلس الوطني ) .

ولكن هذا التصريح لم يعجب (شولتز) . فعلق عليه بعد يوم واحد بقوله :

_ ( إن تصريحات عرفات في ستوكهولم لا تصلح لتشكيل قاعدة للمباحثات الثنائية بين منظمة التحرير والولايات المتحدة ) .

(فشولتز) كان يريد تنازلات أكبر , والاعتراف (بإسرائيل) صراحة , وقد ذكر ذلك بوضوح عندما قال :

_ إنني لم أجد في تصريح عرفات اعترافا بإسرائيل , وهذا غير كاف لبدء الحوار بيننا ) .

 

لقد كانت (أميركا) تريد أن تدفع (م.ت.ف) إلى إعطاء تنازلات حيوية ومهمة , والاعتراف (بإسرائيل) , ورغبتها هذه قديمة سبقت الدعوة التي تحدث عنها (سايروس فانس) مع المصريين والسعوديين لإقناع الفلسطينيين بالاعتراف بالقرار 242 , والاعتراف (بإسرائيل) .

 

وفهم (عرفات) ومؤيديه ما تريده (واشنطن) بالضبط . . . وعملوا كل ما في وسعهم في هذا الاتجاه . . . وبنشاط غريب يدعو للتأمل . . . فتم الاعتراف (بإسرائيل) , وبالقرارين (242 , 338) . . . وفي هذا الوقت بالذات أرسل (هاني الحسن ) , نهاية العام 1987 , ليلقي محاضرة في (الجمعية الراديكالية البريطانية ) , حيث أوضح فيها المسارات الجديدة للسياسة الفلسطينية , وذكر أيضاً بأن :

_ (ميزان القوى لا يسمح بالحديث عن استرداد فلسطين المحتلة سنة 1948 . . . كما أن الأوضاع الدولية الحالية لا تسمج بالحلول العسكرية . . . فلا بد من التوجه نحو حل سياسي وفاقي  . . . والحل لا بد أن يتناول تنازلات , بما في ذلك تعديلات جغرافية على حدود سنة 1967 . . . , فالتنازل عن 77 في المائة من الأراضي الفلسطينية أصبح حقيقة واقعة . . . , ثم أن الحل الوسط يعني التنازل عن أية مطالب أخرى في إطار سلام شامل) !!

 

والحقيقة . . . إني وقفت مذهولاً وأنا أراجع هذه المحاضرة , لأنها تنطوي على استسلام كامل غير مبرر , وكذلك تنطوي على مغالطات وتناقضات عديدة من يتمعن فيها يعلم حجم خطورتها على القضية الفلسطينية , فكل ما فيها يتماثل مع (مشروع إسحاق رابين) الذي عرضه (عبد الوهاب الدراوشة)  (1) . على المنظمة في تونس عام 1989 , ومن المعروف أن هذا المشروع يعد قراءة ملخصة (لاتفاقية أوسلو) !!

ولكي نفهم أكثر . . . لا بد أن نعلم أن (عرفات) استفاد كثيراً من الظروف لتمرير كل مشاريعه الاستسلامية في (م.ت.ف) , ولتمريرها أيضاً في ( حركة فتح) . . . وقد اطلعت على رواية ذكرت أن (عرفات) أصدر من (اللجنة المركزية لحركة فتح) قراراً للصلح مع (إسرائيل) , وصفه بأنه : (جماعي) , مع أن أكثر من نصف أعضاء (اللجنة المركزية) هم 18 عضواً , استقال منهم (محمود درويش) و (شفيق الحوت) بعد أن شاهدا حجم المؤامرة , وثلاثة قاطعوا الجلسة , و( إليا  خوري ) لم يحضر لمرضه , وعقدت الجلسة بحضور 12 عضواً , أربعة عارضوا , وثمانية فقط صوتوا مع القرار الاستسلامي .

هذا الشيء , وغيره الكثير من اللعب الماكرة حدثت أيضاً في (م.ت.ف) لإقناعها للاعتراف بالقرار 242 , والاعتراف (بإسرائيل) .

وهكذا كانت كل الأحداث تسير وفقاً لما تريده (تل أبيب) و (واشنطن) بالضبط , خصوصاً بعد أن عرفت (الإدارة الأميركية) رغبة الفلسطينيين للتنازل عن أساسيات وأولويات قضيتهم منذ اللقاء السري معهم في تونس , في 15/2/1989 , حيث

 

ضم (الوفد الأميركي) شخصيات سياسية , وباحثين من معهد (بروكينز) , وجميعهم طرحوا تساؤلات عديدة منها :

_ هل يريد الفلسطينيون دولة مستقلة ؟

_ وكيف يرون مستقبل القدس ؟

_ والمستوطنات كيف سيكون مصيرها ؟

ورد الفلسطينيون بصورة إجمالية :- بأنهم يريدون (دولة مستقلة كباقي شعوب الأرض التي تبحث عن الاستقلال الوطني) .

ولكن بعد محادثات مطولة . . . استغرب (الأميركيون) من حجم التنازلات التي قدمها الفلسطينيون , خصوصاً وأن مسائل مثل القدس , والمستوطنات , والمياه قد ظلت مبهمة وعائمة .

واستمرت المحادثات مع (الأميركيين) سراً , وعلى هذا المستوى , في كل مرة يطلب من الفلسطينيين تنازل جديد , إلى أن أعلن (جورج بوش) عام 1991 , بعد تبدل موازين القوى الدولية , عن (خطة سلام) من (أربعة مبادئ وتطبيق القرارين 242,338 , مع ملاحظة حقوق الشعب الفلسطيني , ومبدأ الأرض مقابل السلام , والأمن والسلام لدولة إسرائيل ) .

ورحب الفلسطينيون في تونس بهذه الخطة بفرح ملحوظ , الأمر الذي شجع 24 عضواً من أعضاء (الكنيست) على توجيه (دعوة مستعجلة) , بواسطة وكالة الأنباء الفرنسية , إلى المجلس الوطني الفلسطيني بعقد (مؤتمر سلام) لحل القضية الفلسطينية , ومن الذين وقعوا على الدعوة (عيزرا وايزمان) . وقد أثار ذلك حفيظة (وسائل الإعلام الإسرائيلية) , مما دعا وزير الدفاع السابق (موشية آرينز) لتوضيح الأمر في (صحيفة معاريف) الصادرة يوم 1/7/1991 قائلاً :

_ ( في الأيام الأخيرة أخذنا نسمع صراخاً من اليمين بأننا ذاهبون إلى مؤتمر السلام للتنازل , وأننا ذاهبون للمصيدة , فمن يقول إننا ذاهبون للتنازل في المفاوضات فإنه لا يعرف إسحق شامير , ومن يقول إننا ذاهبون للمصيدة فإنه لا يعرف الليكود ولا يعرفني ) .

وأتصور أن (موشيه آرينز) كان صادقا عندما قال ذلك , خصوصاً وأن (إسرائيل) كانت تطالب الفلسطينيين بالتنازل عن كل شيء حيوي وهام , ضمن مخطط يدعو إلى زيادة حجم التنازلات في كل لقاء يتجدد , وهذه الحقيقة بالتحديد أوضحها (محمود عباس) فقال :

_ ( لقد أوضحنا ما بين جنيف والجزائر موقفنا , وأن أي حديث على غرار (يجب أن يقدم الفلسطينيون أكثر) . . أتذكرون هذا الشعار ؟ أو أن الفلسطينيين يقومون بلعبات دعائية , أو مناورات علاقات عامة , إن كل ذلك سيكون ضاراً وغير مثمر . . . كفى يجب مناقشة كل المسائل المتبقية على المائدة وفي المؤتمر الدولي)   (2) .

ومع أن تقديم الأكثر (سيكون ضاراً وغير مثمر) كما يقول (محمود عباس) , إلا أنه أصبح طريقة مألوفة من قبل (عرفات) ومؤيديه , الذين أعطوا التنازلات الواحدة تلو الأخرى .

وفي ظل هذه المساواة . . .

انعقدت (مفاوضات واشنطن) حيث كانت :- (مخيبة لآمال الفلسطينيين) , لأن (أميركا) أعلنت بصراحة غير خجلة , بعد انعقاد الجولة السادسة للمفاوضات , منح (إسرائيل) ضمانات وقروضاً تبلغ عشرة مليارات دولار , لاستكمال بناء إحدى عشر ألف وحدة سكنية استيطانية في الأراضي المحتلة , في القدس وما جاورها . إضافة إلى أن الجمود بدأ يخيم على المحادثات , قبل الجولة الثامنة من المفاوضات , بسبب استغلال (إسرائيل) للمرحلة الانتقالية بين (الرئيس بوش) و (كلينتون) . وعند انعقاد الجولة الثامنة , التي لم تستمر غير ستة أيام , لأن (تل أبيب) أبعدت 415 فلسطينياً من حركة حماس إلى لندن , أصبح واضحاً للجميع أن المحادثات فاشلة وغير جدية . الأمر الذي أدى إلى فتح قنوات أخرى نشطت بعيداً عن (واشنطن) , وبالتحديد في (أوسلو) قد توقفت تماماً , على العكس من ذلك استمرت هذه المفاوضات وبنفس مسارها القديم , إلى أن وصلت لطريق مسدود , بعد خمسة عشر شهراً من المحادثات العقيمة , التي دلت على تعنت اليهود . علماً أن (الخطة الأميركية) للسلام كانت تتضمن (مرحلة انتقالية لمدة سنة تفضي إلى حكم ذاتي فلسطيني) .

        ومن المفيد ذكره أن (هاليك هالتر , وآريك لوران) عندما تطرقا إلى (محادثات واشنطن) في كتابهما (مجانين السلام) ذكرا بأن (عرفات) أراد أن يفتح قنوات أخرى سرية في (النروج) , لكنة مع ذلك حرص على أن يبقي الوفد الفلسطيني الرسمي في (محادثات واشنطن على جهل مطبق بما يحصل وأن يلعب دور ستار دخان مضلل . وبالفعل تلقى المفاوضون الثلاثة والتسعون المقيمون في العاصمة الأميركية توجيهات جديدة مفاجئة من قبل قيادتهم , نقلت إليهم عن طريق نبيل شعث , فقد دعاهم عرفات وأبو مازن إلى تبني موقف متشدد , وإلى رفض كل الإقتراحات التي تتقدم بها إسرائيل , وقد شعر هؤلاء بخيبة مريرة عندما أدركوا التلاعب الذي ذهبوا ضحيته)   (3) .

شعر هؤلاء بخيبة مريرة . . . لأنهم أدركوا بعد ذلك أن مفاوضات سرية جرت في (أوسلو) , أعطيت فيها تنازلات ضخمة (لإسرائيل) من قبل المفاوض الفلسطيني .

ولكي نرى حجم هذه التنازلات كان لا بد من ملاحقة ما جرى في (النرويج) , ونحلل ما حدث هناك . . .

والقصة ابتدأت بوصول (أبي العلاء , وحسن العصفور) إلى (ستاليز بورغ) , وبمجرد وصولهما التقيا بالوفد (الإسرائيلي) ممثلاً (بيائير هيرشفيليد , ورون بونديك) , حيث تحدث (أبو العلاء) في هذا اللقاء وقال في كلمته :

_ (إننا مررنا بمرحلة صعبة بعد حرب الخليج , لقد أسيء بتفسير موقفنا وإن كنا قد بالغنا فيه , ولا نخجل من الإعتراف بذلك , إلا  أننا في هذه الأيام بدأنا شيئاً فشيئاً نستعيد علاقاتنا مع البلدان العربية ) .

وأضاف بذل واضح :

_ (لقد برهنا عن صدق توجهنا , عندما قبلنا أن ندخل إلى مدريد بشروط مجحفة , وسنظل ملتزمين بالعملية السلمية ما دام هناك أمل في تحقيق نجاح , وسنظل نناضل من داخل العملية لتحسين شروط مشاركتنا فيها) .

وأنا هنا أستغرب حقاً من هذا الكلام . . . الذي صدر عن رئيس وفد يفاوض من أجل قضية هامة وحساسة . . . وزاد من استغرابي أكثر عند قراءتي للمقترح الذي طرحه (أبو العلاء) على (هيرشفيليد) , والمتضمن عشرة نقاط . والمقترح ها هو أمامي . . . وقد تفحصته بدقة متناهية , وأعدت قراءته مرات ومرات . . . فلم أجد فيه شيئاً واضحاً ومفهوماً حول القدس أو باقي المسائل الأخرى الهامة والضرورية , أكثر النقاط كانت عموميات لأمور ثانوية , في حين بقيت مسائل القدس , واللاجئين , والمياه , والمستوطنات بصورة غائمة ومبهمة . . . ولا أدري لماذا ؟ .

وأعتقد أن هذه الأمور قد استغلها (هيرشفيليد) , وقال (لأبي العلاء) بشدة لكي يغلق الموضوع نهائياً :

_ ( بالنسبة لنا يتعين أن تبقى القدس موحدة , وفي نفس الوقت فإننا نفهم أن فلسطيني القدس لا ينبغي لهم أن يصبحوا جزء من إسرائيل , كما نفهم أهمية القدس بالنسبة لكم ) .

فرد (أبو العلاء) :

_ ( إذاً ليكن الحديث عنها إلى الثنائي ونشكل لها لجنة غير رسمية ) .

عندما سمع (هيرشفيليد) ذلك انتفض غاضباً وقال :

_ ( في هذه الحالة فإن الحكومة الإسرائيلية سوف تسقط فوراً , خصوصاً وأن شاس سوف تخرج منها ) .

وبعد وصول الحديث إلى هذا المستوى . . . رضخ (أبو العلاء) والوفد المرافق له بصورة تدعو للتأمل والحيرة !!

لهذا . . . فإن (الوفد الإسرائيلي) تشدد أكثر في طرح قضاياه ومواقفه , خصوصاً بعد أن أحس (بالمرونة والليونة) التي أبداها (الوفد الفلسطيني) ، ونرى أن (التشدد الإسرائيلي) قد ازداد وضوحاً في الاجتماع الثاني بين الجانبين , حيث قال (هيرشفيليد) بصراحة للفلسطينيين :

_ ( أنتم تريدون عملية السلام , ولكن في نهاية المطاف لن تنشأ دولة الآن , وإنما تترك للتطورات اللاحقة ) !!

ولم يفهم (أبو العلاء) ومعاونوه مغزى ومعنى هذا الكلام , لأنهم كانوا مصرين على عقد اتفاق مع (إسرائيل) مهما كان الثمن .

وعندما لاحظ (هيرشفيليد) ذلك استدرك قائلاً :

_ ( إنكم تتفهمون الصعوبات التي نواجهها , وإنكم على استعداد لإبداء بعض المرونة لإنجاح العملية . الأمر الذي يتعين أنكم على استعداد للنزول تحت الماء ثم الصعود تدريجياً في فترة لاحقة ) !!

ولم يفهم الفلسطينيون ذلك أيضاً . . . ولا أعرف لماذا ؟

الشيء الملفت للإنتباه . . .

أن  (أبا العلاء) أراد تذكرة (هيرشفيليد) برسالة التطمينات (الأميركية) , التي أكدت على مشاركة سكان القدس في الإنتخابات , فرد عليه (هيرشفيليد) بحزم قائلاً :

_ ( خذوا موضوع مشاركة القدس من الأمريكيين مباشرة وليس منا . إذا تصورنا وضعاً تقوم به حكومتنا بالموافقة على مشاركة سكان القدس في الإنتخابات فإنها ستسقط حتماً ) .

ولم يفهم الفلسطينيون ذلك أيضاً . . . أو حاولوا أن لا يفهموا , على تعبير أدق .

أقول إنهم حاولوا أن لا يفهموا , خصوصاً (أبو العلاء) الذي تقصد إثارة موضوع عدم استطاعة (التوصل إلى أية إتفاقية حول إعلان المبادئ بدون ذكر القدس) , فرد عليه (رون بونديك) قائلاً :

_ ( كيف يمكن أن نمرر موضوعاً كهذا على حزب شاس ؟ عليكم أن تدركوا أن بإمكان شاس إسقاط الحكومة إذا ما انسحب منها ) .

وقبل (أبو العلاء) بهذا التبرير . . . وحاول أن يغير مضمون الحوار , الذي لم تصل فيه الأمور إلى حسم , لموضوع آخر هو (نطاق السلطة) , حيث أكد على أنها لا بد أن تكون على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة , فقاطعة (هيرشفيليد) ساخراً قائلاً له :

 

_ ( إن موضوع الولاية الكاملة على الأراضي مسألة غير ممكنة على الإطلاق خلال المرحلة الإنتقالية , لأنها تخص المرحلة النهائية) .

ولا بد أن نذكر . . .

أنه بعد هاتين الجولتين من المحادثات بين الوفدين (الإسرائيلي , والفلسطيني) , تم لقاء سري في الجو بين (بيريز) وبين (أبي مازن) في طائرة مصرية حلقت في أجواء مدينة الإسكندرية . . . فيا ترى ما الذي جرى في هذا اللقاء ؟ وما هي حجم المساومات والتنازلات التي قدمت (لبيريز) ؟ !!!

على أية حال . . . (المفاوض الإسرائيلي) ذكر الفلسطينيين في الجولة الثالثة من المحادثات قائلاً بأن :

_ ( الحكومة الإسرائيلية سعيدة بما وصلت إليه المفاوضات) ؟

وبعدها أوضح (يائير هيرشفيليد) بشأن القدس قائلاً :

_ ( علينا أن نجد طريقة لتمرير ذلك . وعلينا أن نجد لغة خاصة عند الحديث عن القدس) .

وكان الأولى من المفاوض الفلسطيني أن يسأل :- عن ماهية هذه اللغة الخاصة ومفرداتها .

لكني وأنا أطالع المحاضر لم أجد كلمة واحدة تستفسر عن هذا الأمر ؟ كل ما فعله المفاوض الفلسطيني هو الإنتقال سريعاً من موضوع إلى آخر دون حسم , مع إبداء مرونة أكثر , وتنازل أكبر من السابق . . . حتى في مجال (نطاق السلطة) , الذي طرحه (أبو العلاء) , قال (يائير) بشأنه

_ ( إن حدود السيادة الإسرائيلية اليوم هي الخط الأخضر) .

وانتهى كل شيء بعد سكوت الفلسطينيين !!

لهذا بقي (الغموض الإسرائيلي) هو سيد الموقف !! . . . وبقيت (المراوغة الإسرائيلية) هي المسيطر على المحادثات!

والأغرب أن (مراوغة تل أبيب) قد ازدادت عن المعتاد في الجولة الرابعة من المحادثات , التي عقدت في 30/4/1993 , مما دعا (أبو العلاء) للقول :

_ ( إنني أسمع لغة جديدة , تنم عن عدم الرغبة الآن بإنهاء الوثيقة التي بين أيدينا والتوقيع عليها , وذلك بالبحث في مواضيع أخرى تبدو كأنها هروب إلى الأمام) .

فرد عليه (هيرشفيليد) :

_ ( نحن لم نتفق تماماً بعد , لقد قمنا بتطوير الوثيقة هنا , ومن الممكن أن نستكمل في واشنطن , لأننا بصراحة بحاجة إلى مزيد من التفكير مطولاً , وقال في نهاية حديثه :

_ (إن مهمة هذه القناة هي دعم المحادثات في الثنائي والمتعدد , وليست بديلاً عنها . إن رابين يريد أن يجرب أسلوبه في التفاوض في واشنطن , لأنه مقتنع بأنه سيحصل على أفضل مما يحصل عليه هنا) .

 

ونتساءل . . . ما الذي بقي للفلسطينيين حتى يريد (رابين) أن يجرب أسلوبه في التفاوض ليحصل على الأفضل ؟ أتصور أنه لم يبق شيء حيوي وهام . . .

الغريب أنه في هذا الجو الغامض , والمريب وضعت مسودة (وثيقة إعلان المبادئ) , التي تضمنت برنامج التعاون والعمل , ووثيقة (خطة مارشال) , وأربعة عشر بنداً , صيغت بدقة لتأجيل كل القضايا الهامة والحساسة إلى النهائي كالقدس , واللاجئين , والمستوطنات , والترتيبات الأمنية , والسيادة , والحدود , والمياه , وأجلت أيضاً قضايا أخرى فكلما تطرح قضية يقول (هيرشفيليد) :

_ ( تترك للتطورات اللاحقة ) .

وكلكم تعرفون ما ترمي إليه هذه الجملة . . . فوراءها ما وراءها . . . من مؤامرات , ومراوغة , ولعب شيطانية ماكرة . . . ( وهو ما أكدته كل الأحداث اللاحقة ).

بلحاظ أن (رابين) لديه أفكاره المزدوجة في كل القضايا , فهو يفرق بين ما هو ضروري , وبين ما هو غير ضروري عند حديثه عن مسألة معينة , المستوطنات مثلاً يعتبر بعضها ضرورياً , لأنها مهمة للوضع السياسي , والأمني (لإسرائيل) . وأفكار (رابين) هذه . . . هي نفس أفكار منسقي سياسة (تل أبيب) وزعمائها , وإذا كان الحال كذلك . . لا أدري كيف ستكون المحادثات في النهائي إذا جرت بالأصل ؟ وكيف سيكون شكل (التطورات اللاحقة) ؟ التي رددها كثيراً (هيرشفيليد) , خصوصاً وأن (إسرائيل) ستتمسك في النهاية بكل شيء بحجة أنه (ضروري للوضع السياسي والأمني لليهود) .

أليس هذا ما سيحدث فعلاً ! بالتأكيد .

 

                                  ****** 

 

   على أية حال . . . بعد انتهاء الجولة الخامسة من المحادثات إطمأنت (إسرائيل) بأن ما تريده قد تحقق , بعد التنازلات الحيوية التي قدمها المفاوض الفلسطيني , لذلك قررت زيادة عدد مفاوضيها , حيث كلف (أوري سافير) مدير عام (وزارة الخارجية الإسرائيلية) بالإنضمام للمفاوضات في الجولة السادسة , وكلف أيضاً (يوئيل سنجر) المستشار القانوني المخضرم بالإشتراك في المفاوضات في الجولة السابعة , وقد اختير هذان المفاوضان لأنهما متمرسان في المراوغة والخداع , لجر المفاوض الفلسطيني إلى قضايا هامشية , واختلاق قضايا أخرى غير ضرورية , والحوار حولها , وهي بالأساس لا أهمية لها إطلاقاً . . . ضمن عملية مدروسة ومخطط لها ليتنازل الفلسطينيون عن أبسط حقوقهم .

ومن المعروف أن (أوري سافير) قد رشح      للمفاوضات من   قبل(رابين , وبيريز) , لأنه قد اكتسب ثقة الإثنين منذ أن كان صحفياً , إضافة إلى عمله كمدير عام في وزارة الخارجية , وازدادت ثقة (رابين) به بعدما انتقد بشدة (مسودة الوثيقة) , التي تم التفاوض حولها مع (أبي العلاء) في النروج ، لأنه كان يرى إمكانية (سد الطرق) أكثر على الفلسطينيين , والحصول على مكاسب أكبر (لإسرائيل) . وعند وصول (سافير) إلى النروج إجتمع فوراً (بهرشفيليد) و (بونديك) , وأعطاهم تعليمات جديدة ومشددة لمناورة الفلسطينيين . كما إنه بادر ليخاطب (أبا العلاء) في أول لقاء به قائلاً له :

_ ( إنس مؤقتاً فكرة دولة فلسطينية , ومستقبل القدس ,  والمستعمرات الإستيطانية . لأننا لا نريد أن نتفاوض جدياً إلا بشرط أن تنحو هذه المسائل ) !!

ورضي (أبو العلاء) ذلك بطيب خاطر . . . وبنفس مطمئنة !؟  وشاركه رضاه زميلاه (حسن العصفور) و (الدكتور ماهر) !!

* أما (يوئيل سنجر) , أستاذ القانون الدولي , فقد حدد إسمه من قبل (بيريز) . والرجل خدم (المصالح الإسرائيلية) في (الولايات المتحدة) من خلال عمله بمكتب للمحاماة يقع في مدينة (واشنطن) . وخبرة (سنجر) أكسبته صلابة ,خصوصاً وأنه ساهم في صياغة (إتفاق فك الإشباك مع مصر وسوريا ,   ومناقشات كمب ديفيد مع مصر . كما إنه عمل مراراً على جعل  قال القرارات الإسرائيلية الجائرة في الأراضي المحتلة مشروعة وقانونية ومبررة )  (4) .

و(سنجر) عندما كلف في (تل أبيب) بقراءة (مسودة الوثيقة) المفاوض حولها مع الفلسطينيين , إنتفض غاضباً قائلاً :

_ إنها غير صالحة . . . إنها غير صالحة !!

قال  ذلك على الرغم من حجم الفلسطينية ,  لأنه كان يعتقد إمكانية الحصول على مصالح أكبر (لإسرائيل) .

واعتقاده هذا مرده إلى إدراكه بأن الفلسطينيين قد أظهروا (مرونة) لم تكن متوقعة في المفاوضات . . . تلك (المرونة) التي جعلت (سنجر) يراجع بدقة وثائق مدريد عام 1991 , ويقرأ بتأن محاضر محادثات أوسلو , ويخرج بنتيجة تقول

_ أن (م.ت.ف) في وضع لا يسمح لها بأن ترفض شروط (إسرائيل) في السلام .

ومع الأسف الشديد . . .

كانت نتيجة (سنجر) تتحقق . . . بعد استسلام ورضوخ المفاوضين الفلسطينيين لتلك الشروط الجائزة بحق الشعب الفلسطيني .

والذي يدعو للإمتعاض أن (المفاوض الفلسطيني) لم ينكر إستسلامه لشروط (تل أبيب) المجحفة , لكنه برر ذلك بأنها :

_ مرحلة مستمرة , وسيحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه في المرحلة النهائية !!

وقد أوضح (عرفات) هذا التبرير بصراحة عندما قال في فندق (آنا وستن) :

_ ( إن المرحلة الحالية مرحلة أولى , لأن العلم الفلسطيني سيخفق فوق غزة وأريحا ثم في النهاية على مآذن القدس الشرقية , حيث سنعيش جنباً إلى جنب مع الإسرائيليين , إنا المرة الأولى التي ستظهر فيها الدولة الفلسطينية على خريطة جغرافية) .

وأعتقد أن تبرير (عرفات) هذا . . . ( وهو تبرير كان عرفات في داخله يعرف ما يريد أن يصل إليه لاحقا ، ودفع ثمنه ) . . . ولكن كان عرفات في وارد ، لم يفهمه من حوله إلا متأخرين ..... وهذا ما جعل (أبا العلاء) يترك (لسنجر) مهمة كتابة (وثيقة النقاط السبع) كأساس جديد للمفاوضات في النروج , لكنه عندما سأل عن ذلك قال :

_ ماذا أفعل ؟ كلما نقدم مقترحاً كان (سنجر) يرفضه , فكلفته أخيراً بأن يكتب هو ونتفاوض حول ما يكتبه !!

وكتب (سنجر) الوثيقة ذات النقاط السبع وفقاً لما تريده (تل أبيب) . . . بعد أن رفضت كل مقترحات الوفد الفلسطيني . . . وعندما تقدم الفلسطينيون تصوراتهم حول (الإعتراف المتبادل) , ونادوا بضرورة توقف الطرفين عن ممارسة الإرهاب , رد (سافير) مستنكراً قائلاً :

_ ( هذا غير مقبول . . . إننا لا نمارس الإرهاب ولا نقود منظمة فلسطينية , وعليكم أنتم أن تتعهدوا بالتزامات مقابل إعتراف إسرائيل بكم كممثلين للشعب الفلسطيني) !!

 - لهذا ينبغي أن يكون كل شيء واضحا ودقيقا ومن طرف واحد .  (5)

ومثلما أراد (سنجر) أصبح كل شيء واضحاً , ودقيقاً , ومن طرف واحد !! .

وهذه حقيقة مرة نتجرع نتائجها الآن , بعد خمسة سنوات من توقيع (إتفاقية أوسلو) .

 

***** 

 

ومن المفيد ذكره أن (تل أبيب) بعد كل جولة من المحادثات حاولت أن تتنكر لما اتفق عليه الطرفان , لأنها كانت تريد شطب ذكر القدس نهائياً من المحاضر , ومنع فلسطيني القدس الشرقية من الإنتخابات . وحجتها هي نفسها في كر مرة بأن :

_ (حزب شاس إذا اطلع على ذلك يمكن أن يسقط الحكومة) .

وهنا أدرك المفاوض الفلسطيني أنه خدع . فرغم تقديمه لكثير من التنازلات لم يحصل على شيء واضح مفهوم .

لهذا أصر (أبو العلاء) على :

**تحديد قضايا ومواضيع المرحلة النهائية , وتحديد ملامح ومدة المرحلة الإنتقالية أيضاً .

** إضافة إلى ضرورة مشاركة عرب القدس في الإنتخابات .

وجاءه الرد حاسماً في الجولة العاشرة من المجادثات , والتي عقدت بفندق (هالفورس يولا) , في 21/7/1993 , حيث قال (أوري سافير) :

_ ( لا نستطيع مناقشة الأفكار التي طرحتموها , ولو فعلنا ذلك وعدنا إلى رابين وبيريز فسيطلبون منا إغلاق هذه القناة فوراً , ولذلك وحرصاً على هذه القناة فلا حاجة لكتابة محضر ) !!

تصور ذلك . . . !! وحاول أن تتمعن في هذه المراوغة , التي فهمها (أبو العلاء) وقال رداً عليها :

_ ( نحن لم نكرهكم على أمر لا ترغبونه ) .

وعند انتهاء الجلسة , دون حسم طبعاً , قال (سافير) معقباً على موضوع القدس , والحقوق الفلسطينية الأخرى بأنها :

_ ( مواضيع حساسة لا مجال لذكرها الآن ) .

تصريحات (سافير) هذه , والتي شدد عليها (سنجر) بقوة , جعلت الجولة الحادية عشرة من المفاوضات صعبة جداً , حيث خرج الطرفان منها متشائمين ووجمين . واستمر الحال كذلك في الجولة الثانية عشرة من المحادثات , والتي أوضح فيها (يوئيل سنجر) الموقف (الإسرائيلي) من قضايا الأمن , والانسحاب الجزئي من غزة وأريحا , وركز فيها أيضاً على (مصالح إسرائيل) الإستراتيجية , أما مصالح الشعب الفلسطيني المشروعة فقال عنها , كما قال (هيرشفيليد) من قبل :

_ تترك للتطورات اللاحقة !! .

وكانت كلما تتعشر المحادثات يستقبل وزير الخارجية النرويجي (يوري هولست) في بيته , مع زوجته , الطرفين لتناول الطعام الممزوج (بالنبيذ المستورد) .

ومسألة (النبيذ المستورد) يعلق عليها بعض المطلعين بأنها :

_ ( عملية مقصودة , خصوصاً وأن الوفد الفلسطيني مغرم بشرب النبيذ والخمور المعتقة ) .

وبطبيعة الحال أنه بعد كل زيارة إلى (هولست) في بيته يظهر المفاوض الفلسطيني بعض المرونة . . . وهي ظاهرة تسترعي الإنتباه حقاً . . .

وفجأة بدأ الفلسطينيون في النروج يعطون تنازلات جديدة , تتعلق بقضاياهم , وحقوقهم العادلة . . . ولا يوجد مبرر واحد يدعوهم لذلك !!

وهناك من يعتقد بأن (لأبي عمار) دوراً كبيراً في هذه التنازلات , إذ أنه قد ساهم في حل بعض المشاكل العالقة , بحوار تلفوني من تونس , إستمر سبع ساعات , عاونة فيه (أبو مازن) , و (ياسر عبد ربه) , مع (هولست) , و(شمعون بيريز) , اللذين كانا موجودين في العاصمة السويدية إستوكهولم ، مع العلم أن الخط كان مفتوحاً لإطلاع (إسحاق رابين) في (تل أبيب) بالتطورات أولاً بأول .

وبطريقة غير مفهومة , حلت كل القضايا العالقة بصورة مبهمة وغائمة , بمكالمة تلفونية مريبة , ودون أخذ رأي مستشار قانوني متمرس .

والذي يدعو للغرابة أكثر , أنه قبل ثلاثة أيام من توقيع (إتفاق أوسلو) , وقد انتهى كل شيء , إتصل (عرفات) بعد منتصف الليل بممثل المنظمة في القاهرة (سعيد كمال) , وكلفه أن يبعث القانوني (طارق شاش )   (6) . إلى أوسلو ليقرأ النصوص !!

وعند قراءة (شاش) للنص المحرر وفق رغبة (تل أبيب) قال :

_ ( ممتاز ليس لدي ما أقوله , من حرره ؟ ) .

فأجابه (أبو العلاء) محرجاً :

_ ( قانوني إسرائيلي يوئيل سنجر ) .

فقال (شاش) وقد احمر وجهه :

_ ( آه إنه سنجر )  (7) .

وبعد فترة صمت قصيرة . . . أدرك الفلسطينيون كم أعطوا من تنازلات , لكنهم أقنعوا أنفسهم بفكرة (المرحلة الآنية) , التي ستمر وتزول ، وسيحصلون على حقوقهم واستقلالهم في النهاية , وزاد من غبطتهم وتفاؤلهم أنهم تمكنوا من تعديل بعض فقرات ( مواد إعلان المبادئ ) :

* كالمادة الأولى , التي تخص تطبيق القرارين 242,338 , حيث أصر (الإسرائيليون) على أن يكون التطبيق وفقاً لما يتفق عليه الطرفان , أما الفلسطينيون فأرادوا أن يكون النص كالآتي : ( المفاوضات حول الوضع الدائم ستؤدي إلى تطبيق قراري مجلس الأمن 242,338 ) .

* وكالمادة الخامسة الفقرة الثالثة , بعد إصرار الفلسطينيين على تحديد مواضيع المرحلة النهائية , بما فيها القدس واللاجئين , والترتيبات الأمنية , والحدود , والتعاون .

* وكالمادة السابعة الفقرة الخامسة , المتعلقة بإلغاء الحكومة العسكرية والمدنية في الأراضي المحتلة .

* والإتفاق حول المادة الرابعة من الملحق رقم (2) , الخاص بغزة وأريحا , حيث جعل التنسيق حول (مكاتب السلطة) الفلسطينية في غزة وأريحا .

وأعتقد أن (إسرائيل) لم تخسر شيئاً حيوياً , عندما قبلت بهذه التعديلات :

* لأن لديها تفسيراً لقراري 242,338 مغايراً لتفسير الفلسطينيين , وبالتالي فإن الخلاف بشأن مضمون القرارين ما زال قائماً . . . وإلى يومك هذا .

* وكذلك فإن تحديد مواضيع الفترة النهائية دون جدولة هذه المواضيع , وتحديد برنامج عملي بشأنها , يجعل الأمور مبهمة وغير واضحة , خصوصاً وأن (تل أبيب) لديها باع طويل , وتأريخ (سيئ الصيت) في المراوغة والخداع .

المهم . . . رضي الفلسطينيون بابتهاج بهذا الوضع . . . ثم حدد لقاء في أوسلو , في 19/8/1993 , للتوقيع على وثيقة (إعلان المبادئ) , فيما قفز (عرفات) فرحاً معانقاً (أبا مازن) وقال :

_ ( إنها بداية عصر جديد , وخاتمة عشرات السنوات من النضال ) !!

ووقعت الإتفاقية فعلاً في النروج يوم 20/8/1993 . . . ثم وقعت بصورة نهائية في (البيت الأبيض) , في 13/9/1993 , من قبل (بيريز) , و (محمود عباس) , بعد وصول الوفد الفلسطيني على متن طائرة خاصة للملك (الحسن الثاني)   ( 8) .

 

 

واسمحوا لي هنا . . . أن أشير إلى بعض الوقائع , التي رافقت توقيع (إتفاقية أوسلو) , فقد لفت انتباه الصحفيين :

_ إندفاع (محمود عباس) , بعد أن أنهى كلمته , لمصافحة (كلينتون) , و (رابين) و (كزيريف) و (بيريز) , في حين أن المراسيم كانت تقتضي مصافحة (كلينتون) فقط .

_ والشيء الآخر الذي لفت انتباه الصحفيين , حرص (كلينتون) على تقديم الكرسي (لمحمود عباس) لكي يوقع على الإتقاق , وكأنه يدفعه إلى هاوية سحق الحقوق الفلسطينية المشروعة .

_ وكان الأكثر إثارة لفضول الصحفيين , هو الإجتماع الذي عقد مباشرة بعد توقيع (إتفاقية أوسلو) , بين (الموساد) و (وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية) , حيث تم التعهد فيه على حماية حياة (عرفات) !!

margin-left: .25in; text-align: rig

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 75 مشاهدة
نشرت فى 10 نوفمبر 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

419,420