أن الاستشراق يشكل الجذور الحقيقية التي كانت ولا تزال تقدم المدد للتنصير والاستعمار، وتغذي عملية الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وتشكل المناخ الملائم من أجل فرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي وإخضاع شعوبه، فالاستشراق هو المنجم والمصنع الفكري الذي يمد المنصَّرين والمستعمرين بالمواد يسوِّقونها في العالم الإسلامي لتحطيم عقيدته، وهدم عالم أفكاره، وقد جاء هذا الغزو الثقافي ثمرة لإخفاق الغزو العسكري وسقوطه، ولتربية جيل ما بعد الاستعمار .. 
لقد تطورت الوسائل وتعددت طرق المواجهة الثقافية الحديثة، ويكفي أن نقول: إن مراكز البحوث والدراسات سواء أكانت مراكز مستقلة أم أقساماً للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية في المغرب، وما يوضع تحت تصرفها من الإمكانات المادية والمبتكرات العلمية والاختصاصات الدراسية تمثل الصورة الحديثة التي تطور إليها الاستشراق ، حيث تمكن أصحاب القرار السياسي من الاطلاع والرصد لما يجري في العالم يومياً .. 
ففي القارة الأمريكية وحدها حوالي تسعة آلاف مركز للبحوث والدراسات ، منها حوالي خمسين مركزاً مختصاً بالعالم الإسلامي، ووظيفة هذه المراكز تتبع ورصد كل ما يجري في العالم، ثم دراسته وتحليله مقارناً مع أصوله التاريخية ومنابعه العقائدية، ثم مناقشة ذلك مع صانعي القرار السياسي، ومن ثم تُبنى على أساس ذلك الخطط والاستراتيجيات، وتحدد وسائل التنفيذ . 
لقد أصبح كل شيء خاضعاً للدراسة والتحليل، ولعل المختبرات التي تخضع لها القضايا الفكرية والدراسات الإنسانية أصبحت توازي تلك المختبرات التي تخضع لها العلوم التجريبية، إن لم تكن أكثر دقة حيث لا مجال للكسالى والنيام والعاجزين الأغبياء في عالم المجدين الأذكياء .
لقد اكتفينا بمواقف لرفض والإدانة للاستشراق
، اكتفينا بالانتصار العاطفي للإسلام، وخطبنا كثيراً ولا نزال في التحذير من الغارة على العالم الإسلامي القادمة من الشرق والغرب دون أن تكون عندنا القدرة على إنضاج بحث في هذا الموضوع، أو إيجاد وسيلة صحيحة في المواجهة، أو تحقيق البديل الصحيح للسيل الفكري والغزو الثقافي من هناك.. إلا من رحم الله من جهود فردية لا تفي بالغرض، فإذا كنَّا لا نزال في مرحلة العجز عن تمثل تراثنا بشكل صحيح حيث يحاول بعضنا الوقوف أمامه للتبرك والمفاخرة دون أن تكون لدية القدرة على العودة من خلاله إلى أصولنا الثقافية المتمثلة في الكتاب والسنة، ويحاول آخرون القفز من فوقه ضاربين بعرض الحائط فُهوم علماء وجهود أجيال، بدعوى التناول المباشر، دون امتلاك القدرة على ذلك، فكيف يمكننا ، وهذا واقعنا وموقعنا، أن نواجه معركة الصراع الفكري، ونقدم فيها شيئاً؛ وإذا كان الكثير منا ما يزال يعيش على مائدة المستشرقين لفقر المكتبة الإسلامية للكثير من الموضوعات التي سُبقنا إليها، وإذا كانت مناهج النقد والتحليل، وقواعد التحقيق، ووسائل قراءة المخطوطات من وضعهم، كما أن الكثير من المخطوطات الإسلامية لم تر النور إلا بجهودهم على ما فيها ، فأنّى لنا الانتصار في معركة المواجهة العقائدية ؟ ! . 
ويمكن لنا إذا تجاوزنا جهود علمائنا الأقدمين في تدوين السنة ووضع ضوابط النقل الثقافي، وقواعد الجرح والتعديل، وتأصيل علم مصطلح الحديث الذي حفظ لنا السنّة إلى جانب بعض الدراسات الجادة في هذا الموضوع، فإننا لا نكاد نرى شيئاً يذكر، فقد اقتصر عمل معظم المشتغلين بالحديث والسنة عندنا على تحقيق بعض الأحاديث، تضعيفاً أو تقوية لإثبات حكم فقهي أو إبطاله، أو إثبات سنّة ومواجهة بدعة، وهذا العمل على أهميتة يبقى جهداً فردياً فكرياً دون سويّة الأمر المطلوب الذي يمكن من الانتفاع بكنوز التراث .. وأين هذا من عمل المستشرقين في إعداد المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، كعمل ضخم وكدليل علمي لا يستغني عنه أي مشتغل بالحديث .. 
لقد نجحت العقلية الأوربية بداية في السيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعن طريق الاستشراق والمستشرقين إلى التحقيق والتمحيص والطبع والنشر لمجموعة من أكبر وأهم المصادر التراثية، وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد إلاّ أنها في النهاية وبكل المقاييس تبقى مظهراً من مظاهر الاحتواء الثقافي . 
ولقد نجحت العقلية الأوروبية، كما أسلفنا ، في فرض شكلية معينة من التحقيق والتقويم والنقد، وأوجدت القدوة والأنموذج، ويمكن القول: إن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث قد سارت على هذا النهج ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، إلى درجة إيجاد ركائز ثقافية عربية معبرة ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها؛ حتى في الجامعات والمؤسسات العلمية لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية التي اكتسبها المثقفون المسلمون من الجامعات الأوروبية ..ونستطيع القول: إن آثارالاستشراق وإنتاج المستشرقين لا يزال يحتل الكثير من مواقعنا الثقافية، وسوف لا يفيدنا في المواجهة مواقف الرفض والإدانة أو الهروب من المشكلة، من هنا تأتي أهمية الكتابة التي تتناول الإستشراق بحيث لا يقتصر على تشخيص العلَّة ورصد آثارها فقط، وإنما تتجاوز ذلك إلى تحديد الأسباب التي أوجدتها، ومن ثم وصف الخطة التي لا مناص من التزامها في معركتنا الفكرية التي تستهدف وجودنا حيث نكون أو لا نكون ..

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 169 مشاهدة
نشرت فى 25 أغسطس 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

356,770