لعل من أهم ما يتميز به العقل المسلم دون غيره، هو امتلاكه المعايير والثوابت ، التي تحققت من خلال معرفة الوحي، والتي تشكل له مركز الرؤية والمرجعية، وتمنحه إمكانية القدرة على التصويب ، والتقويم، والمراجعة المستمرة، وتحصنه من كل محاولات الإلغاء، والاحتواء الثقافي .. تلك المعايير النبوية ، القادرة على حمايته وانتشاله ، لأنها ليست من وضعه، ولم تأت ابتداءاً ثمرة لبيئتة الثقافية .
وقضية إعادة التشكيل الثقافي، أو بناء الشاكلة الثقافية، التي يعمل عليها الإنسان ويصدرعنها، في دراساته وعلاقاته وأهدافه، وحتى وسائله في كثير من الأحيان، يمكن أن تعتبر القضية الملحة، والأهم في جدول الأولويات، لأنها تمثل بنية عالم الأفكار، وهي من أخص خصائص الإنسان ، وهي القضية المستمرة استمرار الحياة، والمحتاجة دائماً للتعديل والتبديل، والإلغاء والإضافة، بما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (الاجتهاد الفكري ) لتنزيل القيم على الواقع، وتقويم حياة الإنسان بها في ضوء الظروف المحيطة، والمشكلات الطارئة، والإمكانات المتاحة.
إن وضوح المنهج ، أو إعادة تشكيل مركز الرؤية، هو المنطلق الصحيح لتقويم الواقع، وإبصار كيفيات صناعة المستقبل ، ذلك أن الأزمة الحقيقية، أو الأزمة الأم التي يعاني منها العقل المعاصر، هي أزمة فكــر، أو أزمة شاكلة
ثقافية - إن صح التعبير - وذلك بسبب انسلاخه عن مرجعيته، وإن ما وراءها من الأزمات، يمكن أن تعتبر إلى حدِّ بعيد من أعراض، ومظاهر الأزمة الثقافية.. وعلى الرغم من اعترافنا أن الكثير من الأزمات، تعتبر عامل مؤثر وفعال في التشكيل الثقافي، لكن يبقى الإنسان هو المخلوق الحر المختار، القادر على التقويم، والمراجعة، والتصويب، والتجاوز، والتجدد ، والانفلات من المناخ الثقافي ، وخاصة إذا كان يمتلك- كعقل مسلم - القيم الثابتة، الخارجة عن وضعه، القادر على انتشاله، غير الخاضعة لأسر البيئة الثقافية، كما أسلفنا .
ذلك أن التغيير لا يتحقق ، والحضارة لا تُبعث - كما هو ملاحظ تاريخياً - إلاّ بالعقيدة الدينية ، والتعاليم النبوية (معارف الوحي ) ..
فالحضارة ، - تقوم أسسها: في توجيه الناس نحو معبود غيبي ، بالمعنى العام .. فكأنما قُدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة، إلاّ حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية ، أو بعيداً عن حقيقته، إذ حينما يكتشف حقيقـة حياته كاملة
- وهذا لا يتحقق دون معارف الوحي - يكتشف معها أسمى معاني الأشياء، التي تشكل له مركز الرؤية، وتتفاعل مع عبقريته .
والقضية التي لا بد من إعادة طرحها : أن التوجه صوب عالم الأفكار، والبحث في مكونات العقل المسلم المعاصر، وموارده الثقافية، ومواريثه الفكرية، وكيفية التعامل معها، وواقع الإنتاج العقلي والمعرفي ، وطرح إشكالية هذا العقل، والبحث في إعادة التشكيل ، لإعادة الإنتاج المعرفي المأمول، لم يأخذ بعد البعد المطلوب، والاهتمام الكافي، والتقدير الدقيق، لدوره في عملية النهوض، والبناء الحضاري، وإنما هي ملحوظات، وإشارات، وإثارات، لم ترق إلى المستوى المأمول .
إن فهم الواقع، والتعرف على آليات التحريك، والتغيير، والتجديد، مرهون إلى حدٍ بعيد بالوقوف على اكتشاف السنن النفسية والآفاقية، التي يمكن أن نطلق عليها: "قوانين الاجتماع والعمران "، والإحاطة بالشروط والعوامل الفكرية المؤثرة فيها.
إن فهم الواقع، والوقوف على سنن التغيير، والتجديد، والنهوض، والوقاية الحضارية بالنسبة لأمة الإجابة: "مجتمع المسلمين "، كما أنه مطلوب أيضاً لإيصال الرسالة الإسلامية لأمة الدعوة: "غير المسلمين "، لأن ذلك يمكن من معرفة مداخل الشعوب، وخصائص وصفات خطابها، وعوامل استنفارها واستفزازها، أو استنقاعها الحضاري، على حدٍ سواء.
صحيح أن الله سبحانه وتعالى، الذي خلق الإنسان، هو أعلم بكينونته، وحاجاته الأصلية، ومشكلاته التي سوف تعرض له، وأن الخطاب الإلهي للناس، يحمل كل المواصفات المطلوبة للاستجابة، لأنه خطاب الخالق المعصوم، لمن خلق، وبذلك يمكننا القول: إن بين خطاب الله الخالق، واستجابة المخلوق، تواعد والتقاء، وإن عدم الاستجابة تعني، إلى حدٍ بعيد، وجود خلل في أدوات التوصيل، قال تعالى: ((ألا يعْلم منْ خلق وهو اللطيف الخبير )) [الملك:14]? فالذي خلق الإنسان، أعلم بالقوانين التي تحقق له السعادة، وترفع عنه الشقوة المتأتية من تسلط الإنسان على الإنسان، باسم التشريع له، أو وضع المنظومات الفكرية والقوانين الاجتماعية للأمة.
إن طلب السير في الأرض، والنظر في العواقب والمآلات، جعله النص الإلهي من الفروض الكفائية، التي تفضي إلى التبين، والتبصر، والاهتداء إلى السنن الاجتماعية في السقوط والنهوض، واختزال التاريخ الإنساني، وتحقيق الاعتبار، وإضافته إلى عمر الأمة المسلمة، وتجربتها، لتحقق بذلك الوقاية الحضارية، وتتعظ بأحوال السابقين.
ذلك أن سنن ا لله لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تحابي أحداً، وأن الذي يدركها، هو القادر على التغيير، والتجديد، ومغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر، وأن الذي لا يدركها يصبح مُسخّراً، بدل أن يكون مسخِّراً لها، الأمر الذي يؤكد لنا أن دراسة المجتمعات، وفهم واقعها، وتاريخها، وثقافتها، ومعادلاتها الاجتماعية، هو الذي يوضح لنا كيفيات وآليات التعامل معها، ومواصفات خطابها، والفقه الذي يمكننا من التدرج في الأخذ بيدها إلى تقويم سلوكها بشرع الله.
إنّ ما ورد في القصص القرآني، يشكل مختبرات بشرية خالدة، مجردة عن حدود الزمان والمكان، من الناحية الاجتماعية، كما يشكل منجماً لاغتراف الثقافة الاجتماعية، والعلم الاجتماعية، وتعدية الرؤية، وإعادة الصياغة، ودليلاً إلى أن فهم الواقع أمر أساس، لا يقل عن فهم تعاليم النبوة، لأن فهم الواقع هو الذي يمكِّن من حسن تنزيل تعاليم النبوة، والتعرف إلى وسائل إحداث التفاعل، وتحريك آليات التغيير الاجتماعي، وهذا لا يكون إلا بالفقه الاجتماعي، أي بالتحقق من القوانين التي تحكم الاجتماع والعمران.
ولا بد من الاعتراف أن كثيراً من شعب المعرفة قد توقفت في حيات المسلمين منذ زمن بعيد، ونخص بالذكر هنا شعب المعرفة في العلوم الاجتماعية، والإنسانية، الأمر الذي لم نلق له بالاً بعد، ونظن أن التخلف والتوقف منحصر في العلوم التجريبية المادية، فقط?، مع أن أمر التوقف في العلوم الاجتماعية والإنسانية، هو الأخطر. ذلك أن التخلف في تلك العلوم هو سبب التخلف في العلوم المادية، ولأن التخلف في العلوم الإنسانية عصي عن الإدراك، إذا ما قورن بالعلوم والمخترعات المادية، في الوقت الذي بلغت فيه عند غيرنا من الأمم الناهضة شأواً بعيداً. . وفي اعتقادي أن الذي لا يزال يمنحنا الإمكان الحضاري، والقدرة على إحداث النقلة النوعية، هو امتلاكنا التعاليم الإلهية السليمة، التي تشكل خميرة هذه العلوم الإنسانية، وأدواتها، والكثير من وسائلها، وتبصر بوظائفها.
نشرت فى 25 أغسطس 2011
بواسطة MOMNASSER
د .محمد ناصر.
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
383,631
ساحة النقاش