الناقد وعلم البلاغةمن علوم الأدب الرئيسية التي ينبغي أن يتزود بها الناقد ليؤدي مهمته أداء سليما وكاملا علوم الشكل وعلوم المعاني وما عرفناه في تراثنا العربي باسم علوم البيان والبديع كجزء من علوم البلاغة العربية، والتي تستكمل في علوم المعاني الحديث عن نقد الموضوع لتستكمل البلاغة صورتها الكاملة. والواقع أن هذه العلوم نظرت إلى الأدب وقد اكتمل وحقق وجوده لعدة قرون سبقت ظهورها، أو بمعنى آخر هي علوم تلت حكم الذوق الفني الذي حكم بالخلود والتقدم على الشعراء القدماء، ثم جاءت هذه العلوم لتبحث عن أسرار الصنعة الفنية في الشكل مرة وفي المعنى مرة. وتحدد أسرار صنعة البلاغة وتستخرج أسباب التجويد الفني في قواعد مستخرجة من النصوص التي جعلت وجودها شيئا مقررا أو ثابتا باعتبارها أعمالا فنية ارتضاها الذوق العربي العام، وارتضاها متلقو الأدب جيلا بعد جيل، فلم يكن قبل ظهور حركة النقد العربية المنظمة إلا الذوق والمران عليه. ولكن عندما اتسعت رقعة القاعدة البشرية من متلقي الأدب ومن قائليه على السواء، وكذلك عندما اختلفت أصولهم الجنسية ووهنت أو قوت صلاتهم بالذوق العربي، كان لا بد من القاعدة، وكان لا بد من التعقيد... ومنذ ظهرت بواكير الحركة النقدية العربية عند ابن سلام الجمحي ثم ابن قتيبة ونزعته الحرة وتقسيمه للشعر حسب اللفظ والمعنى وحسب الطبع والتكلف، إلى أن ظهر علم البديع عند أبي تمام وعند ابن المعتز واضع كتابه الذي تأثر في منهجه بما نقله العرب من أرسطو وقواعده ومنطقه، ثم تعقد النقد والدراسة الأدبية عند قدامة بن جعفر والآمدي والجرجاني والثعالبي، حتى دخلت عملية التعقيد إلى قمتها عند أبي هلال العسكري، مرورا بالعميدي والصاحب بن عباد والعبكري والواحدي وابن رشيق القيرواني، منذ ظهرت هذه الحركة وهي تتجه إلى مزيد من القواعد والمزيد من التعقيد حتى غدت علوم البلاغة أشبه بعلوم اللغة أو أشبه بالرياضيات، تتحدث عن كل جزئية، وتقيم الأصول لكل تفصيلة وتغرق المتتبع لها في بحار من المصطلحات والمناهج والقواعد... حتى تبعد تماما عن جوهر الأدب لتدخل تماما في جوهر العلم القريب جدا من النظرية، والبعيد إلى حد كبير عن الروح النابضة الحية في النص نفسه. وقد شغلت مشكلات الصنعة والتصنيع، والسرقات والتجديد والمحافظة ساحة المكتبة النقدية العربية زمنا طويلا، وأثرت في الحقيقة هذا الفرع من علوم العربية.
ونحن نقول أن المشتغل بالنقد الأدبي ينبغي أن يتزود بهذه العلوم، كنصوص وقواعد تدرس وتعرف، وكتاريخ للحركة العقلية والتذوقية كخلقية تعينه على فهم النص العربي في عصوره وفي فنونه وعند رجاله: قائليه ونقاده معا...
ولكن هذا لا يضيف إليه إلا أداة من أدوات عمله لا بد من استكمالها، لأنها ان نقصت أعجزته عن إدراك الحس الحقيقي لنصه العربي الجديد صاحب كل هذا الموروث، والذي قام كوليد طبيعي لكل هذه المعاناة العلمية والتذوقية. وهو في هذا يشبه دارس الأدب الأكاديمي في استكمال الأدوات، ولكنه هنا يفترق ويختلف طريقه عن طريق دارس الأدب الأكاديمي، فامتلاك الأداة لا ينبغي استعمالها، وإنما امتلاك الأداة يعني التحكم من كل الإمكانيات المطلوبة ، ويعني التزود بكل زاد للراحلة الطويلة في دروب الأدب ، والعودة إلى الحديث عن التشبيه وأركانه وعن عجز الكلام بصدره، وعن التطابق والجناس أو عن غلبة اللفظ على المعنى وغلبة المعنى على اللفظ، أو الحديث عن مقتضى الحال وعن ملائمة الكلام للمقتضى الخاص والمقتضى العام، ومقتضى المخاطب ومقتضى الموضوع شيء يعد من تاريخ النقد وليس النقد بحال، تماما كالحديث عن الصحة الإعرابية أو الصرفية أو الوزنية أو معاضلات الوزن والقافية كلها تتلمس لتوافر أركان الكلام لا لحسن الكلام أو قبحه، أو لجماله وصدقه. أو ابتذاله وزيغه، والواقع أن هذه العلوم البلاغية حولت الفن القولي إلى صناعة حتى ليسمى واحد: أبي هلال العسكري كتابة باسم (سر الصناعتين) ويعني صناعتي الشعر والنثر... وإذا كانت ظروف معينة قد جعل فن القول صناعة فان هذه الظروف لا شك كانت طارئة اجتماعيا وسياسيا، ولم نعد الآن نعيش في ظلها بحال.
وقد يكون من الهام أن يتعلم أديب العصر هذه العلوم البلاغية، وكذلك تلك العلوم اللغوية ولكن أديب العصر لا ينبغي أن يحرم من أهم مقومات تكوينه كأديب أو كناقد ونعني به التذوق، والقدرة على الحكم، وإمكانية المفاضلة ومعرفة التناقض وهذه المسائل كلها مسائل درية ومران والعلم والمعرفة لا تغني في تكوين ناقد الأدب عن التربية التذوقية التي تربطه بالفن نفسه لا بما حول الفن، وكل هذه العلوم هي ما حول الفن ولكنها ليست الفن نفسه، والفن نفسه ينبغي أن يكون بشعره ونثره هو الزاد الأول الذي يدرب ناقد الأدب نفسه على التعرف عليه وكشف أسرار تعينه على هذا معرفته بهذه العلوم، ولكن هذه المعرفة لا ينبغي أن تطغى لتصبح هذه العلوم هي المطلوب بذاته من الناقد الأدبي.
فليس سهلا إذن أن يتصدى كل من يريد لعملية النقد الأدبي وذا فاعلية، فالدارس الأكاديمي يشرح لنا جسد النقد طبقا لقواعده وعلومه، ولكن مهمة الناقد الأدبي أن يبقى النص على حيويته وجماله، وهو العارف بكل جزء تشريحي فيه. وهو الذي يستطيع أن ينفذ من خلال كل هذه المعرفة إلى روح النص الأدبي الحقيقية، لا يقف عن جمال الشكل ولا عند جمال المعنى وحسب، ولا يبحث فقط عن المضمون الاجتماعي أو السياسي أو الفلسفي في النص الإنساني من خلال جولته بكل هذا الذي سبق وفصلناه، يريد أن يضع يده على لحظة الصدق من عطاء الفنان حيث أفرز هذا النص، وأن يكشف لنا عن السر الكامن في النص، ذلك السر الذي يضيف إلى زاد معرفتنا الثقافية وتذوقنا الإنساني ما يثري المؤلف ويثرينا جميعا، ولكن هذا لا يتم بمجرد التحصيل لهذه العلوم التي أوردناه، ولا يتم أيضاً بمجرد الدرية والتذوق الفني. فقد تعرض أدبنا المعاصر لعمليات التراوح الفني بالآداب الإنساني الذي تحرك وقت غفلتنا، وتغير هدفه عن هدف الأدب عندنا على مر العصور، وتبني أدبنا المعاصر هذه الأهداف فكان لزاما على ناقد الأدب المعاصر أن يرتبط أيضا بكل ما ارتبط به المبدع المعاصر من مصادر وفنون وعلوم...
نشرت فى 25 أغسطس 2011
بواسطة MOMNASSER
د .محمد ناصر.
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
383,593
ساحة النقاش