اليمين المسيحي في أميركا.. أمريكا إلى أين!


مقال لي نشر في الحقائق اللندنية . 2006.
-----------------------------------------------

اليمين المسيحي في أميركا.. أمريكا إلى أين!

للسنة الرابعة على التوالي، يتحلل الرئيس جورج بوش من شؤون الدولة ليذهب في رحلة يتحدث فيها إلى جمعية معمدانية جنوبية. وهناك، يعد تلك الجماعة الإنجيلية المتشددة، والتي تضم ستة عشر مليون عضو، بأن يعمل بجد على حظر زواج المثليين والإجهاض، ويقول لهم إن "قيمهم العائلية" إنما هي قيمه هو أيضاً.
بعد محاكمة "سكوبس مونكي" عام 1925، والتي تجردت خلالها أفكار "أنصار نزعة الخلق" من الصدقية، باتت الفكرة التي يتبناها الأصوليون في منطقة الجنوب والتي تحدد طبيعة الحياة العائلية تبدو ساذجة. وفي الستينيات، ساد العديد من الليبراليين الأميركيين اعتقاد بأنهم قد أقصوا الدين من الميدان العام إلى الأبد. ومع ذلك، فإن رئيس البلاد الحالي، ووزيرة الخارجية، والمتحدث باسم البيت الأبيض يحملون الشاخصة الأنجليكانية. ويقام إفطار لحشد من المصلين في اجتماع يعقد كل خميس. ويداوم الليبراليون على القول إن واحداً من الحزبين الكبيرين في أميركا يبدو منكباً على خلق حكومة ثيوقراطية دينية يدعمها جسم صلب متماسك يمثل ربع إلى ثلث سكان البلاد.
من اليسار، يتحدث هوارد دين، الزعيم الديمقراطي، ساخراً من الجمهوريين بوصفهم "حزباً من المسيحيين البيض". كما يعلق جون دانفورث، وهو سيناتور جمهوري سابق وأحد نجوم "المسيحيين المعتدلين" في صحيفة "نيويورك تايمز" مؤخراً بأن التطورين السياسيين الرئيسيين في السنوات العشر الماضية تمثلا في صعود اليمين المسيحي واستشراء العصبية الممضة، وفي كون الاثنين يرتبطان معاً بصلة وثيقة.
لا شك في أن الأشهر الخمسة الأولى من الفترة الرئاسية الثانية للرئيس بوش بدأت وكأنها تستبعد ذلك. فقد لعب اليمين الديني دوراً رائداً في تدخل الكونغرس "في اللحظة الأخيرة" "لإنقاذ" حياة تيري شيفاغو، وهي امرأة خربة الدماغ من شيكاغو، كما لعب دوراً مماثلاً في محاولة إجهاض تكتيك الخطابة والتسويف الذي تبناه النواب الديمقراطيون لتعطيل تعيينات بوش في السلك القضائي. ومن المحتمل أن تصبح الأمور أكثر دموية بشكل مطرد. ففي ولاية ماساشوسيتس، يناضل "ميت رومني" حاكم الولاية الجمهوري الطموح، من أجل التخلص من زواج المثليين. وثمة إمكانية في كاليفورنيا لإجراء استفتاء على المطالبة "بمصادقة أحد الوالدين" على إجهاض القاصرات الراغبات في ذلك. وسيضم السباقان الأكثر مخاتلة في السنة القادمة سياسيين متدينين، هم بوب كاسي من بنسلفانيا، وهو من الأشخاص القلائل المؤيدين للديمقراطيين طيلة حياته، والذي يملك فرصة جيدة لاحتلال مقعد ريك سانتورام، وهو أكثر أعضاء مجلس الشيوخ من المحافظين الاجتماعيين صراحة. وهناك "رالف ريد" في جورجيا، وهو يعتبر (الطفل العبقري) لليمين الديني، والذي يسير حثيثاً نحو تولي منصب الحاكم.
وفوق كل شيء، لم تكن معركتا شيفاغو وتكتيك الخطابة سوى مناوشات تأتي قبل الحرب الشاملة، والتي سوف تشتعل عندما يرشح الرئيس بوش واحداً أو اثنين من قضاة المحكمة العليا. ويمكن لذلك أن يحدث في أواخر تموز، عندما تنتهي دورة المحكمة الحالية، حيث ربما يعلن القاضي الأعلى المتوعك، ويليام رينكويست، عن تقاعده.
في البدء
لماذا يتمتع اليمين الديني بالقوة التي هو عليها؟ إن هذا السؤال يحير حتى الأميركيين أنفسهم. فبلادهم بالإجمال، لا تتجه إلى مزيد من التدين. وقد ازداد عمق الهوة بينها وبين الدول الأوروبية، وهو ما يعود في جزء كبير منه إلى أن أوروبا تتجه حثيثاً نحو اللاألوهية. ويقول معظم الأميركيين أن الدين هو شيء ضروري تماماً (60%) أو أنه يشكل جزءاً مهماً إلى حد ما من حيواتهم (26%)، لكن كارلين بومان، وهو محلل استطلاعات في معهد إنتربرايس، يشير إلى أن أرقام الاستفتاء نفسه كانت (75%) و (20%) عام 1952.
الشيء الذي تغير: أولاً تجميل أميركا البروتستانتية. وثانياً: إعادة ترتيب سياسات أميركا الدينية، فقد اضمحلت الكنائس التي تتبع خطاً ليبرالياً بشكل عام، بينما نشطت العقليات الأكثر تصلباً والتي يحملها المعمدانيون الجنوبيون ومضت قدماً. وقد بات الإنجليكان البيض الذين يرون إلى الإنجيل على أنه الحقيقة الحرفية (أو يقع قريباً منها) يشكلون الآن ما نسبته 26% من السكان.
ليس الأمر موضوع أرقام وحسب، ولكنه موضوع ثقة. فالمسيحيون المتجددون لم يعودوا مجرد ريفيين خرقاً رعويين، بل أصبحوا أغنى وأفضل تعليماً من الأميركيين في المعدل. وهناك الآن ما يقارب الخمسمائة جامعة مسيحية في أميركا واقسام أنجيلكانية في الجامعات الثماني الكبرى في شمال الولايات المتحدة. وما على المرء سوى أن يذهب إلى واحدة من الكنائس الهائلة المتلألئة، وسيرى أن الناس الذين يترجلون من المركبات ذات الدفع بالعجلات الأربع في مواقف السيارات الفسيحة هم من مهندسي البرمجيات والأطباء والمدرسين.
خذ، على سبيل المثال، صديق السيد بوش السيد ريتشارد لاند، والذي يترأس جناح السياسات العامة للمعمدانيين الجنوبيين. إن له وجهات نظر متخلفة حول القضايا الأساسية، لكن هذا الواعظ المتخرج من جامعتي برنستون وأكسفورد يمكن أن يناقش بسعادة مسائل مثل الاقتصاد الهندي والضرائب على الشقق. ويزعم السيد لاند أن واحداً من كل ثلاث من منجبي الأطفال يعرف نفسه على أنه أنجيليكاني.
دعونا نتخلص من صورة نمطية أخرى فنقول: ليس كل المؤمنين من البيض. فهناك حوالي خمسة وعشرون مليوناً من الأنجليكان السود، والذين يبدو أنهم يتحركون ببطء باتجاه اليمين. كما أن المهاجرين الجدد أيضاً يقدمون الكثير من الأعضاء الجدد لطائفة الأنجليكان. وتفيد تخمينات لاري إيسكردج من المعهد المتخصص بدراسة الأميركيين الأنجليكان في جامعة ويتون بأنه ربما يكون هناك ثمانية ملايين إنجيلكاني من أصل لاتيني. كما أن عدداً كبيراً من الأميركيين الآسيويين هم من المسيحيين المتحمسين أيضاً.
إن اليمين الديني يمثل أكثر من مجرد الأنجيليكان. ففي الانتخابات الأخيرة كسب السيد بوش أصوات الكاثوليك عن طريق اصطياد 72% من الكاثوليك التقليديين كما يزعمون لأنفسهم. وتقول الاستطلاعات الخاصة أيضاَ بأنه كسب عدداً يعتد به من أصوات المتشددين اليهود. وبدلاً من أن يتوزع المتدينون من كل الأديان بين الأحزاب، فقد باتوا جميعاً يلقون مراسيهم الآن في الحزب الجمهوري. ويقول استطلاع كانت أجرته مؤسسة الزغبي في تشرين الثاني 2006 الماضي بأن "المتدينين التقليديين" يشكلون 29% من مجموع الأمة، لكنهم يشكلون 58% من الجمهوريين.
قوة التنظيم
إن تحول أميركا المتدينة إلى اليمين إنما يجد أصوله في أمرين: أولهما، ذهاب الليبرالية إلى أبعد مما يجب، وثانيهما: قدرة اليمين على التنظيم. فاحتجاج اليمين المسيحي الدائم على تجاوز "القضاة من الليبراليين الناشطين " لفترة ولايتهم يحتوي على بذرة من الحقيقة. ذلك أن القضاة في حقبة الستينيات والسبعينيات كانوا قد حولوا أميركا من بلد يبدأ فيها كل يوم مدرسي بالصلاة، وحيث الإجهاض والإباحية تواجه بالتقطيب والعبوس، إلى بلد حظرت فيه الصلوات في المدارس وحظي فيه الإجهاض والإباحية بحماية الدستور.
إن حقيقة كون المحاكم قد ذهبت شوطاً أبعد بكثير من الرأي العام في بلد متدين بشكل عام قد دعمت موقف اليمين المسيحي بطريقتين، فقد أدى ذلك إلى تحريض الأنجيليكان البيض على الانخراط في الصراع السياسي. كما أقنع كل الاتجاهات الدينية بالتوحد والتضافر معاً، حتى أن البروتستانت والكاثوليك الذين طالما كانوا على طرفي نقيض وجدوا لهما أرضية مشتركة، خاصة فيما يتعلق بمسألة الإجهاض.
لكن المنظمات المحافظة استطاعت أيضاً أن تبتكر لنفسها زخمها وقوة دفعها الخاصة. خذ على سبيل المثال حركة "ركز على العائلة"، وهي امبراطورية ممتدة تستخدم حوالي 1400 شخص في كولورادو سبرنغز، وتزعم لنفسها جمهوراً على امتداد الكوكب يصل تعداده إلى عشرين مليون شخص من المستمعين لبرامجها الإذاعية والتلفزيونية والقارئين لكتبها والمشاركين في الاستشارات هائلة العدد على البريد الألكتروني. ويقول مؤسسها جيم دوبسون، المختص السابق في علم نفس الطفل، إن النقطة المركزية التي تتوجه إليها طاقة مؤسسته التي لا يستهان بها تظل حياة العائلة، لكن جناحها المتعلق بالسياسة العامة آخذ في التنامي. وكانت المؤسسة قد أنشأت لجنة للنشاط السياسي في العام المنصرم، أنفقت تسعة ملايين دولار على الانتخابات، كما أنفقت 1.2 مليون أخرى على قضية تعطيل تعيين القضاة في وقت أبكر من هذا العام.
تتجسد في مؤسسة "ركز" اثنتان من أبرز سمات حركة اليمين، وهما (الإبداع والمنافسة). وتمتد هذه الحنكة أيضاً إلى ميدان السياسة. ففيما يتعلق بالإجهاض، حقق المحافظون الاجتماعيون نجاحاً أكبر بكثير الآن بعد أن كفوا عن الصراخ بإبطال الممارسة واعتبارها غير قانونية (وهو ما يريده القليل من الأميركيين). وهناك الآن قوانين في أربعة وثلاثين ولاية تشترط إعلام الوالدين عندما تتقدم إحدى القاصرات بطلب للإجهاض. كما يدرس الكونغرس ضرورة وجود أطباء يخبرون أي امرأة ترغب الإجهاض بعد عشرين أسبوعاً من الحمل بأن ذلك سيتسبب لهن بآلام شديدة.
ويقول السيد لاند، والذي يوضح أن موقف اليمين الديني الحالي إزاء مسألتي زواج المثليين والإجهاض هو أن يترك البت في الأمرين إلى تشريعات الدولة، كما كان الأمر في أوروبا: "يمكن لك أن تأكل تفاحة كاملة بحيث تأكل قضمة في كل مرة". ويعارض السيدان لاند ودوبسون شخصياً ارتباط المثليين مدنياً، لكن التعديل المزمع بخصوص زواجهم على المستوى الفدرالي لا يحظر ذلك، والسبب يعود بكلمات السيد لاند إلى أنه "يمكن لذلك أن يصبح قضية حقوق مدنية أكثر من كونه قضية زواج". ويستمتع السيد لاند باستخدام لغة الحقوق المدنية ليرد بها على اليسار، متهماً "منظمة الحقوق المدنية الأميركية" على سبيل المثال بأنها "معادية للدين على نحو متعصب أعمى".
ثمة دليل آخر على دهاء وحنكة اليمين الديني، وهو المتمثل في التركيز الجديد والمتخذ صبغة رسمية على التنسيق والتنظيم. وتشكل جماعة "آرلنغتون" مثلاً تحالفاً يضم حوالي الستين من الجماعات المؤيدة للأسرة. وكانت قد انطلقت من اجتماع رسمي مع 23 زعيماً في آرلنغتون – فرجينيا عقد في أيار 2003، لكنها تلقت دفعة قوية من قرار اتخذته محكمة في ماساتشوسيتس في تشرين الثاني يقضي بدعم زواج المثليين. والآن ، وقد باتت تتخذ من مبنى "مجلس أبحاث الأسرة" في واشنطن العاصمة مقراً لها، فقد قدمت الدعم لتوجه حظر الولاية المبدئي لزواج المثليين في تشرين الثاني الماضي. وفي كانون الأول من هذا العام، أضافت الجماعة إلى اهتماماتها قضايا جديدة، بما فيها الإجهاض، والمبادرات القائمة على العقيدة وتعيين القضاة. وتعمل "آرلنغتون" أيضاً بطريقة هادفة ومركزة. فتدعو، على سبيل المثال، مجموعة خبراء قانونيين من أعضائها معاً لدراسة الأحكام التي تصدرها المحاكم.
إن هذا التوجه نحو التنسيق تواكبه محاولة لتوسيع محتوى الرسالة إزاء قضايا مثل العناية بالبيئة والفقر، وهما شأنان مرتبطان تقليدياً باليسار. وتساور العديد من القادة الشكوك إزاء الانسياق المريح نحو النمط اليساري، بينما يرى الآخرون إلى الأمر على أنه طريقة لتقوية التحالف. وإلى حد الآن، ظلت تحالفات اليمين الرئيسية مع اليسار محصورة في حقل السياسة الخارجية الآمن نسبياً. وكان ريك وورين، وهو واعظ باع كتابه "حياة تقودها الغاية" عشرين مليون نسخة، قد كتب مؤخراً رسالة إلى السيد بوش يحضه فيها على إلغاء ديون الدول الفقيرة، وكان اليمين الديني قد انضم أيضاً إلى الديمقراطيين السود في دعم تمرير معاهدة السلام في السودان عام 2002.
ألا تستطيع دائماً أن تحظى بما تريد؟
إن بسالة اليمين الديني من الناحية التنظيمية هي أمر يثير التأمل. لكنها لا تزال تنتج حركة تمثل رأي الأقلية إزاء الكثير من القضايا، وهي قابلة لأن تذهب أبعد مما يجب تماماً كما كان شأن القضاة الليبراليين. ويقول أحد المتقاعدين الجمهوريين: "يعتقد بعض القادة من اليمين الديني أنهم يملكون نفوذاً أكبر بكثير مما يملكون في الحقيقة. ومع أن الدولة متدينة والرئيس متدين على النحو الماثل الآن، إلا أن أياً منهما لا يريد حكومة دينية (ثيوقراطية)".
يمتلك اليمين الديني بالطبع مجسات أعمق في داخل فريق بوش أكثر مما في أي إدارة سابقة. وهناك اجتماع أسبوعي مع المسؤولين، حيث يكون "تيم غوغلين" رجل بوش الممثل للمحافظين الاجتماعيين، حاضراً دائماً في واشنطن. لكن إدارة بوش، والتي تتسم بحساسية بالغة إزاء الرأي العام، لا تعطي اليمين الديني كل ما يريده وعلى النحو الذي يريد. وقد بدأت هذه السنة برقصة تقليدية تماماً. ففي مقابلة سبقت توليته في كانون الأول، قال السيد بوش متحدثاً عن الحقائق السياسية أنه لن يدعم تعديلاً فدرالياً بخصوص زواج المثليين (وهو ما يحتاج إلى 60 صوتاً في مجلس الشيوخ حتى يمر). وحينئذ حذرت جماعة آرلنغتون البيت الأبيض من أن هذه "النزعة الانهزامية" ربما ستجعل من المستحيل على الحركة التوحد حول القضايا الصعبة الأخرى مثل خصخصة الضمان الاجتماعي. وقال البيت الأبيض بشكل قاطع بأنها كانت أولوية، رغم أنها لم تظهر على قائمة الأولويات التشريعية العشرة التي كان الجمهوريون تقدموا بها في مجلس الشيوخ.
لقد أحرز اليمين الديني بعض الانتصارات، بدءاً من منع محطة "بي بي إس" من عرض مقطع من دراما "آرثر" يقوم فيه صديقه "باستر" بزيارة زوج من السحاقيات في فيرمونت، وانتهاء باندفاع الرئيس عائداً عبر البلاد لتوقيع المذكرة الخاصة بشيفاغيو، لكن هناك أيضاً بعض الإخفاقات، حيث تريد حركة "ركز على العائلة" من وزارة العمل أن تفعل أكثر بكثير فيما يتعلق بفرض قوانين فدرالية بخصوص الإباحية والرذيلة. وبينما تريد الإدارة مجرد متابعة المادة الإباحية الأكثر إثارة للغضب قانونياً، فإن الحركة تفضل لو أن الإدارة بدأت بملاحقة الإباحية السائدة والعادية، مما سيؤدي أوتوماتيكاً إلى لجم النوع الأكثر انفلاتاً.
على نحو مفارق، فإن كل شيء يقلق الليبراليين بخصوص السيد بوش، حيث إنه نفسه إنجيليكاني، ترك لنفسه متسعاً للمناورة مع المحافظين الاجتماعيين. ويرى الكثيرون من قواعدهم إلى الرئيس على أنه يخصهم بحيث لا يمكن للرئاسة أن تهزمه. وتكمن قوة اليمين الديني في الأجزاء الدنيا من الآلة الجمهورية، في اجتماعات الدوائر الانتخابية وما شابه. ويمكن لسناتور جمهوري صاحب منصب أن يكون ممثلاً لهم، كما فعل السناتور مايك دي واين من أوهايو في حادثة تعطيل تعيين القضاة المذكورة. لكن الشخصيات الصغيرة مثل ابنه "بات" الذي كان قد تعرض للهزيمة في انتخابات ابتدائية في أوهايو بعد ذلك بفترة وجيزة، تظل غير حصينة وقابلة للإصابة بالعطب.
ماذا إذن بشأن المعارك الثلاث الكبرى: الإجهاض وزواج المثليين والمحكمة العليا؟ لقد بات النقاش حول الإجهاض يتخذ مظهراً مختلفاً: ويشير السيد بومان خبير الاستطلاعات إلى زيادة طفيفة في التوجه العاطفي نحو الإبقاء على الحياة، والتي يمكن أن ترجع إلى الطبيعة الدميمة لعملية قتل الأطفال بعد الأسبوع العشرين أو ما يسمى بإجهاض "الولادة الجزئية"، (والذي كان قد حظره القانون الفدرالي رغم أن المحاكم أسقطت القانون)، وكذلك إلى معدات الألتراساوند ذاتها وربما إلى مخاوف إزاء الخصوبة. ومع ذلك، فإن معارضة اليمين للتجارب حول الخلية الجنينية لا تحظى بالشعبية. وعندما يتعلق الأمر بمسألة رد الدعوى في قضية "رويف ويد"، التي أدى الحكم فيها إلى تشريع الإجهاض، فإن الرأي العام الأميركي لا يزال يقف ضد المحافظين الاجتماعيين، وهكذا، فإن السيد بوش عندما يسأل عن الإجهاض يتملص دائماً بالتحدث عن تعيين قضاة يحترمون الدستور. ولما كانت تلك القضية قد دفعت بالأميركيين أقرب قليلاً باتجاه الأغلبية الجمهورية، فإن كارل روف، كبير المستشارين الاستراتيجيين لدى الرئيس، لا يبدو ميالاً لأن يلقي بالأمر كله على قضية واحدة بعينها.
وفيما يتعلق بزواج المثليين، فإن اليمين الديني قد ضرب على واحد من أوتار النجاح على مستوى الولاية: فقد مرت التعديلات التي تدافع عن الزواج بوصفه علاقة تقوم بين رجل وامرأة بأغلبية مدهشة حتى في الولايات الليبرالية مثل أوريغون. ومع ذلك، فإن فرص تمرير تعديل دستوري فيدرالي تبدو ضئيلة. ولا يحبذ معظم الأميركيين فكرة تغيير الدستور. وتبدو الكنيسة الكاثوليكية، والتي لا تزال في طور التعافي من فضيحة اللواط بالأطفال، أقل تمترساً إزاء زواج المثليين من موقفها إزاء الإجهاض. وكذلك حال الأنجيليكان من الشباب الذين لا يحبذون أياً من مظاهر التشدد. ويقوم اليمين الديني باستهداف هؤلاء الطلاب من خلال جماعات مثل "تين مانيا" ولكن، كما قال السيد إيسكريدج، فإنه حتى الطلاب في جامعته المسيحية الخاصة "ترعرعوا وهم يشاهدون "عائلة سمبسون"".
أما توني بيركنز، رئيس مجلس أبحاث العائلة، فيصر على أن القضاة الليبراليين سوف يقومون بمساعدة اليمين على نحو غير معلن عن طريق رده القانون الفدرالي للدفاع عن الزواج أو أحد التعديلات المقترحة في دستور الولاية. وكان قانون نبراسكا الذي حظي بدعم أصوات 70% من الناخبين هناك قد سقط أخيراً في إحدى المحاكم الفدرالية. وهكذا، فإن منظور إسقاط المحاكم للقوانين العامة سوف يجبر أعضاء مجلس النواب، أمثال بيل نيلسون، وهو ديمقراطي من فلوريدا يواجه مصاعب في إعادة انتخابه السنة القادمة، على مساندة التعديل الفدرالي.
تؤشر مسألتا الإجهاض وزواج المثليين كلتاهما على مركزية الجهاز القضائي الذي يقوم السيد بوش في الحقيقة بتحويله إلى جهاز محافظ. ذلك أن "معدل أعمار القضاء الذي حدده الرئيس هو 46 عاماً" كما قال أحد مستشاري الرئيس في اجتماع خاص للمحافظين الاجتماعيين، "ولذلك، فإنهم سوف يظلون هناك أمداً طويلاً". وعلى الرغم من الضجيج الذي يثيره المحافظون حول صفقة إعاقة التعيينات، فإن مجلس النواب قد سمح بتعيين ثلاثة قضاة يتبنون فكر المحافظين الاجتماعيين المتشدد.
كل ذلك يشكل تلميحاً وتمهيداً إلى الطبيعة التي ستكون عليها المحكمة العليا. فإذا ما قيض لرينكويست رئيس المحكمة العليا أن يذهب، فإن اليمين واثق من أن السيد بوش سوف يستبدله بمحافظ آخر، وربما يعين أنتونين سكاليا في وظيفة القاضي الأعلى. ولكن، ما الذي يمكن أن يحدث لو مر أيضاً داي أو كونر مثلاً، وهو المصوت المتأرجح على أكثر من قضية دينية؟ إن السيد بوش ربما يلجأ أيضاً إلى تعيين شخصيات أقل محافظة بقليل لضمان الاعتدال.
وهكذا، يستمر الرقص مع الإدارة. لكن ليس ثمة شكوك إزاء الطريق التي تقود السياسة الأميركية نحوها، خاصة من المنظور الليبرالي. إن تفاحة السيد لاند يجري قضمها ومضغها. فهل يستطيع الديمقراطيون أن يغيروا من هذا الواقع؟
رد الضربة
يمكن لذلك أن يحدث لو ذهب اليمين الديني إلى تجاوز نفسه إلى حد أبعد من اللازم وعلى نحو دراماتيكي، مثلا: عن طريق إسقاط "رو في ويد" بالضربة القاضية، أو على نحو أكثر احتمالاً، عن طريق دفع الجمهوريين أكثر من اللازم نحو اليمين في الجولة القادمة من الانتخابات الرئاسية الابتدائية. وأحد الأسباب التي تكمن وراء هبوط معدلات قبول الرئيس بوش والكونغرس هو أن الجمهور الأميركي يشعر بأنهما لا يشاركانه مخاوفه.
ومع ذلك، وإذا ما كانت أرقام الاستطلاعات حول قضايا الإيمان تحمل بعض التحذيرات لليمين المسيحي، فإنها تحمل أكثر بكثير للديمقراطيين. وإذا ما أثبتت الانتخابات الأخيرة أي شيء، فهو أن الطبقة الوسطى في أميركا قد وجدت في حزب ديني بشكل بيّن نموذجاً أقل غرابة من حزب يبدو علماني النزعة بوضوح أيضاً. وثمة بضعة سطور جلبت للرئيس بوش في آخر المطاف انشراحاً أكثر من الملاحظات الساخرة على "قيم هوليوود" التي تحدث عنها السيد كيري.
ترغب بعض الأنماط الليبرالية الآن في أخذ دور الغطاء لليمين الديني. وكانت السيدة هيلاري كلنتون قد ألقت خطاباً مؤخراً تشكو فيه من عدد حالات الإجهاض. ويملك "المركز الكلنتوني للتقدم الأميركي" الجديد إيماناً ومشروعاً سياسياً تقدمياً. كما أن جيم واليس، وهو أنجيليكاني حميم مناوئ للحرب، والذي كتب أحد أكثر الكتب مبيعاً "سياسة الرب: لماذا يفهمها اليمين خطأ ولا يفهمها اليسار؟"، يشير إلى الجماهير العريضة التي يحظى بها كتابه على طول البلاد كدليل على أن المسيحيين يريدون من السياسة الأخلاقية نسخة مختلفة عن مجرد قضايا الإجهاض وزواج المثليين.
ربما ينطوي ذلك على شيء، لكن من الصعب رؤية الديمقراطيين يجنون ثماره. ويمثل المؤيد للحياة، السيد كيسي من بنسلفانيا ديمقراطياً أقل عادية من السيد دين الذي تبنى "كتاب الأعمال" من العهد الجديد بشكل عرضي بينما كان يهرول نحو الرئاسة. وإذا ما كان الجمهوريون هم الحزب الأكثر ورعاً، فإن ثمة عدائية علمانية تطبع الكثير من سياساتهم التنافسية.
يبدو أن اليمين الديني لا يستطيع أن يكسب أو يخسر. فإما أن يستمر الديمقراطيون بالاتجاه أكثر نحو العلمانية، وفي هذه الحالة ستستمر الطبقة الوسطى الأميركية في التصويت للجمهوريين، أو أنهم سيحتضنون الدين على نحو أكثر شمولية بقليل، وحينئذ سيحصل اليمين الديني على مقدار أكبر قليلاً مما يريده.
في مدخل "مجلس أبحاث الأسرة"، تجد عرضاً لثوب زفاف يميل مظهره قليلاً إلى الترويع. وإلى جانبه، ثمة منحوتة لنسر، مع مقتطف من المسيح: "أولئك الذين يأملون في الرب سوف يجددون قوتهم. وسوف يحلقون مثل النسور، وسوف يركضون ولن يتعبوا". إن أمام اليمين الديني طريقاً طويلاً قبل أن يشرع في الإحساس بالتعب.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 182 مشاهدة
نشرت فى 22 مايو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

383,620