الأديب والوعي والعمل الأدبي .



الأدب تجسيد لما يجرده الفكر ، والفكر تجريد لما يجسده الأدب : على أن الأدب والفكر كليهما إذ يجيئان على مستوى رفيق لا يجعلنا من " مشكلات الحياة المباشرة " , موضوعاً لهما , لأن ذلك متروك للصحافة ولأصحاب التخصصات العلمية ,فأما الأدب قيعالج تلك المشكلات بطرائقه الرامزة الخفية ,وأما الفكر فيعالجها بالتحليل والتعليل اللذين من شانهما أن يطيرا عن أرض الواقع المباشر إلى سماء التجريد .

من الواضح أن أي بحث أو مقال أو كتاب لا يجتذب القارئ إليه إلا إذا جاء بجديد، فالكلام المعاد في أي جانب من جوانب الفكر يصبح ثقيلا على النفوس، مهما حاول صاحبه أن يلبسه لباسا لامعا ليوهم قراءه أن فيه ما ينفع. وليس الآتيان بجديد بالأمر اليسير في هذا العصر، لأن وسائل النشر قد يسرت للناس سبل الاطلاع. حتى أصبح المثقف في حيرة من أمره، لا يدري ماذا يقرأ وماذا يدع، لكثرة ما يرد عليه من حصاد فكري وأدبي. غير أن هناك جانبا بكرا يمكن الدارسين الجادين فيه أن يزودوا قراءهم بكثير من الأمور الجديدة. 

يهمنا أن نشير إلى أن الإنسان إذا غاب عن وعيه أو عقله، لا يستطيع فيما أعتقد أن ينتج شيئا منظما، سواء أكان هذا الشيء نثرا أم شعرا، لأن التنظيم لا يصدر إلا بأوامر ونواه من العقل، وإن فعل ذلك فإنه يعد من الأمور الشواذ. على أنني أدرك أن الفنان من أي نوع كان، إذا كان صادقا في فنه فإن حالة من الانجذاب تعتريه، فيصبح غير شاعر بما حوله ومن حوله، لكن ذلك لا يعني أبدا بأن عقله أو وعيه غئبان عنه، فإن غاب عقله فلا يمكن أن يكون قادرا على معالجة أي قضية من القضايا. ودع عنك ما يقوله بعض الناس من أن المعرفة والعلوم يمكن أن تأتي عن طريق الغيبوبة أو اللاوعي. إن مجرد إطلاق كلمة غيبوبة كطريق موصل للمعرفة اليقينية تعني في ذاتها النفي المطلق للمعرفة. وهذا لا ينفي أن بعض الناس يتصف بقوة في ذكائه تمكنه من سرعة التقاط ما يصل إليه من بعض وسائل المعرفة كالسمع والبصر، وعلى كل حال فإن أول مبادئ المنطق تقول : إنه لا يجوز لك أن تحاكم أي فرد تقول عنه بأنه يعيش في غيبوية، لأن ذلك الفرد لا يدري ماذا يفعل أو ماذا يقول، فالوعي هو الميزان الذي يحقق لك على أساسه أن تحاسب المرء على أفعاله أو على أقواله.

هناك من يقول بأن العمل الفني، شعرا كان أو قصة أو نحتا أو رسما، عمل غير ارادي، بمعنى أن فكرة ما أو تأثرا ما بحادثة من الحوادث أو بمشهد من المشاهد تسيطر على الفنان سيطرة تامة بحيث لا يستطيع أن يمنع نفسه من تصويرها بقصيدة أو قصة أو تمثال. وإن ذلك لا يصدر إلا عن الموهوبين الذين ارتقت أحاسيسهم أكثر من غيرهم، فقد يمر الإنسان العادي بما يمر به الفنان من حدث أو مشهد، فلا يتأثر به كما يتأثر به الفنان.
وهذا قول لا شك فيه ، لكن بعض الذين يرون هذا الرأي أو يذهبون هذا المذهب يبالغون فيه مبالغة غير منطقية. إذ أنهم يعلنون بأن الفنان يكون في حالة اللاوعي حين تسيطر عليه الحالة الفنية، فهو يعطي بدون شعور أو إدراك. ولكن مع ذلك يخرج أثره متقنا أشد الإتقان، ويؤثر في النفوس أشد التأثير حين ينتشر بين الناس، فكأن الفنان لا فخر له ولا قيمة له لأنه يتلقى أوامر غيبية لا يستطيع إلا أن ينفذها. ومعنى ذلك أن الفنان يصدر آثار لا يدرك حقيقة مضمونها.
أما أنا، فإنني أعتقد بأن هذا المذهب مبالغ فيه . فليس من شك أن الفنان قد يكون في حالة غير عادية حين يهبط عليه الإلهام، لكني أعتقد أنه لا يتمكن من العطاء وهو في حالة غير شعورية حتى ولو رأيناه ينعزل في مكان منفرد أو ينسجم مع سكون الليل، أو موج البحر ، إلى غير ذلك من حالات مختلفة حسب اختلاف أمزجة الفنانين، لكني مع هذا أعتقد بأن الفنان الموهوب يكون في أعلى درجة من الوعي وقت عطائه، وإلا فإنه لا يجوز لنا محاسبته حين يخرج على القواعد المقررة لكل فن من الفنون، ومن المعلوم أن اللحن المؤثر أو القصيدة المتقنة لا يمكن أن تصدر عن إنسان فاقد لوعيه، غير مدرك لما يصدر عنه. 
ومهما يكن من أمر ، فإني أعتقد بأن تأثير العمل الفني في النفس يعتمد في جملة ما يعتمد على عنصر موهبة الأديب، وهو أمر مهما حاول النقاد تحليله فإنه يظل من الأمور المجهولة التي يعجز أدق النقاد عن فهمها وكشفها وتوضيحها للناس. 
والأديب الوهوب قادر على أن يحدث مثل هذا التأثير في النفس ، سواء كان مضمون عمله عاطفيا أو سياسيا أو أخلاقيا.



<!--

  • Currently 26/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
9 تصويتات / 140 مشاهدة
نشرت فى 3 مايو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

383,524