حجة الوداع

لكل شيء نهاية، ولكل أجل كتاب، ولكل قصة خاتمة، وكثيرًا ما ينتهي عمر إنسان دون أن يرى حلمه يتحقق، ودون أن يشاهد خطته تنجح، ولكن من سعادة الإنسان حقًّا أن يطيل الله  في عمره حتى يرى ثمار عمله، ونتيجة جهده، فيسعد بذلك أيَّما سعادة، ويشعر أن تعب السنين لم يذهب هباءً منثورًا، ولا يشترط للإنسان المخلص أن يرى نتيجة كَدِّه وتعبه، لكن لا شك أنها نعمة من الله ، ومِنّة عظيمة لا تقدر بثمن.

وانظروا إلى قول الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14].

فمع أنه ليس من الضروري لكل مقاتل في سبيل الله أن يرى النصر، والتمكين، وهزيمة أعداء الإسلام، إلا أنه مما لا شك فيه أن رؤية هذه الأمور نعمة من الله  يَمُنّ الله  بها على بعض عباده.

وحيث إن رسول الله  أحب الخلق إلى الله ، فإنه شاء I ألا يموت الرسول  حتى تقرّ عينه برؤية ثمار جهده الطويل، وتعبه المضني، وجهاده الذي لم ينقطع.

لقد عاش  حتى رأى الجزيرة العربية بكاملها تقريبًا تدخل في الإسلام، وتُقِرُّ به بعد حرب ضروس، ومقاومة عنيفة. ها قد دخل الناس في دين الله أفواجًا، وها قد وصلت الدعوة إلى معظم أماكن المعمورة، ها قد مُكِّن للإسلام، وارتفعت رايات التوحيد في كل مكان، ها قد عادت الكعبة المشرفة إلى حقيقتها، رجعت كما كانت أيام إبراهيم  بيتًا يُوحَّد فيه الله، ولا يُشرك به أحدًا.

لا أستطيع وصف سعادة الرسول  بكل هذا الخير، لقد كان يسعد  إذا آمن رجل واحد، وكان يقول: "لأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ".

وها هو الآن، لا يرى رجلاً ولا رجالاً يؤمنون فقط، بل يرى الجموع الغفيرة، والقبائل العظيمة، والبلاد الكثيرة تدخل في دين الله أفواجًا، سعادة لا تدانيها سعادة في الدنيا، أن تجد الأفراد والشعوب يختارون طريق الهدى، ويَنْعَمون باتباع شرع الله رب العالمين.

لكن في الوقت نفسه، فإن رؤية كل هذا التمكين، وكل هذا الفتح المبين كان يحمل معنى آخر لرسول الله  ولعموم المسلمين، وهو أن مهمَّة الرسول  كرسول قد انتهت، أو أشرفت على الانتهاء.

إن مهمة الرسول  كانت البلاغ، وها قد تحققت مهمته على الوجه الأكمل، فوصلت الرسالة بيضاء نقية إلى كل أهل الجزيرة العربية، بل تجاوزت ذلك إلى ممالك العالم القديم، فوصلت الدعوة إلى فارس والروم ومصر واليمن والبحرين وعُمان وغيرها، واكتملت كل -أو معظم- بنود الشرع الحكيم.

وإذا كان قد حدث ذلك، فمعناه أن حياة الرسول  قد قاربت هي الأخرى على الانتهاء.

ومع كل الألم الذي يصاحب النفس عند تخيل ذلك، إلا أن الواقع يقول -كما ذكرنا قبل ذلك- أنه لكل شيء نهاية، ولكل أجل كتاب، ولكل قصة خاتمة.

حجة الوداع وعلامات اقتراب أجل الرسول

في أواخر العام العاشر من الهجرة، كان واضحًا لرسول الله ، ولصحابته أن أجل الحبيب  قد اقترب، ومن رحمة رب العالمين I أنه مهد لهذا الموت بأحداث ومواقف وعبارات، وذلك ليهوّن على المسلمين مصابهم الفادح، وأزمتهم الطاحنة.

كان فتح مكة نفسه، وإسلام هوازن وثقيف، وقدوم الوفود تلو الوفود على المدينة المنورة لتعلن إسلامها، كانت هذه الأمور نفسها علامة من علامات اقتراب الأجل؛ لأن المهمة - كما ذكرنا - قاربت على الانتهاء.

ثم إنه في شهر رمضان من السنة العاشرة من الهجرة اعتكف  عشرين يومًا بدلاً من عشرة أيام فقط، كما كان معتادًا، وكان هذا وكأنه تمهيد لأمته أنه يعتزلها، ويبعد عنها مدة أطول من المدة المعتادة، وسيأتي وقت يبعد عنها بجسده تمامًا، وإن كان سيظل بروحه، وسنته، وأقواله، وأفعاله، وتوجيهاته معهم إلى يوم القيامة.

وفي شهر رمضان أيضًا راجعه جبريل  القرآن مرتين، بدلاً من مرة واحدة كما كان معتادًا، وكأنه يؤكد قبل موت الرسول  على الدستور الذي سيبقى للأمة، وإلى يوم القيامة.

كان هذا في شهر رمضان، وفي شهر شوال تُوُفِّي ابنه إبراهيم ، ومع أن البعض كان يتمنى أن لو بقي شيء من عقبه  ليذكرنا به، ولكن هذه رحمة من رب العالمين I، فقد رأينا مغالاة الشيعة في أحفاد الرسول  من ابنته فاطمة رضي الله عنها، فما بالك لو عاش له ولد، وكان له عقب ينتهي نسبهم إلى محمد رسول الله ؟

لا شك أنها كانت ستتحول إلى فتنة، عصمنا الله منها، ولله الحمد والمنة.

جاء في مسند أحمد عن معاذ بن جبل أنه بعثه إلى اليمن وقال له: "يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَوْ لَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا أَوْ قَبْرِي".

وفي شهر ذي القعدة من السنة العاشرة بدأ  في الاستعداد للقيام بالحج للمرة الأولى في حياته ، والتي عُرفت في التاريخ بحجة الوداع، ودعا إليها القبائل المختلفة من كل أنحاء الجزيرة العربية، وتوافدت فعلاً القوافل متجهة إلى المدينة لصحبة الرسول  في طريقه من المدينة إلى مكة، ومنهم من توجه مباشرة إلى مكة المكرمة، وقد تجاوز المسلمون الذين حضروا هذه الحجة مائة ألف مسلم، وذكر بعض الرواة أن عددهم كان يزيد على مائة ألف وأربعة وأربعين ألفًا من المسلمين.

حجة الوداع

خرج الرسول  من المدينة المنورة لأربع بقين من ذي القعدة من السنة العاشرة من الهجرة، وكان خروجه بعد صلاة الظهر، ووصل إلى ذي الحُلَيْفة قبل العصر، وصلى العصر هناك ركعتين قصرًا، وأحرم من ذي الحُليفة، وانطلق في اتجاه مكة المكرمة، وقد أهل بالحج والعمرة معًا، فكان قارنًا بينهما، واستمرت الرحلة المباركة مدة ثمانية أيام، ووصل الرسول  إلى مكة المكرمة بعد صلاة الفجر في يوم الرابع من ذي الحجة، وكان قد صلى الفجر قبل دخوله مكة، فلما دخل مكة اغتسل، ثم ذهب إلى البيت الحرام، فطاف بالكعبة، ثم سعى بين الصفا والمروة، ولم يتحلل من إحرامه؛ لأنه -كما ذكرنا- كان قارنًا بين الحج والعمرة.

وفي اليوم الثامن من الحجة، وهو يوم التروية توجه  إلى مِنى، فصلى بها الظهر والعصر ثم المغرب والعشاء، وبات فيها، ثم صلى الصبح، ثم انتظر حتى أشرقت الشمس، فتوجه إلى عرفات، ونزل هناك بقبة ضربت له في نَمِرة، ثم انتظر حتى زالت الشمس، فقام وخطب في الناس خطبة عظيمة جامعة، كما جاء في صحيح مسلم وفي رواية ابن إسحاق:

"أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، وَقَدْ بَلَّغْتُ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْر الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ". جاء في أبي داود وشرح النووي أنه كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل.

"وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا، رِبَا الْعَبِّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ. فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ (لا يُدخلن أحدًا من أهلهن المحارم يكرهه الزوج)، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابَ اللَّهِ".

وأضاف ابن إسحاق: "وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ".

وزاد ابن ماجه، وابن عساكر: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ، أَلا فَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ، وَتَحُجُّونَ بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَطِيعُوا أُولاتِ أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ".

وزاد ابن إسحاق: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ إِنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، فَقَدْ رَضِيَ بِهِ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا، وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا؛ لِيَواطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَإِنَّ الزَّمَانَ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي وَاعْقِلُوهُ، تَعَلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُخْوَةٌ، فَلا يَحِلُّ لِامْرِئِ مِنْ أَخِيهِ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، فَلا تَظْلِمُنَّ أَنْفُسَكُمْ".

وزاد الإمام أحمد في روايته عن أم الحصين الأحمسية رضي الله عنها، أن الرسول  قال يوم عرفة: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ".

وفي رواية البخاري عن جرير ، أن الرسول  قال في حجة الوداع: "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".

وواضح أن خطبة الرسول  كانت متضمنة لمعانٍ عديدة وألفاظ كثيرة، فلم تنقل عن طريق صحابي واحد، إنما نقل كل واحد من الصحابة طرفًا من الخطبة، حتى وصل إلينا هذا الميراث العظيم من الحكمة.

ثم قال: "وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟".

قالوا: نشهد أنك بلغت، وأديت، ونصحت.

فرفع إصبعه السبابة إلى السماء وأشار بها إلى الناس، وهو يقول: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ"، ثلاث مرات.

كانت هذه هي خطبته الأولى في هذا الحج العظيم، وسيخطب بعدها خطبًا أخرى في مواضع مختلفة، كما سنبين إن شاء الله.

وبعد الانتهاء من هذه الخطبة نزل قول الله تعالى: {اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[المائدة: 3].

وعندما نزلت هذه الآية بكى عمر بن الخطاب ، كما روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، فقيل له: ما يبكيك؟

قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.

لقد شعر عمر بن الخطاب أن نهاية حياة الرسول  قد اقتربت، وأنه إذا اكتمل الشرع فقد ينقطع الوحي الذي يربطهم بالسماء، كما أن الدين كان في ازدياد مستمر، أما إذا اكتمل، فليس هناك زيادة، لكن من الممكن أن يكون هناك نقصان إذا فرط المسلمون وضيعوا.

لقد كانت شجون كثيرة عند عمر بن الخطاب ، وهو المشهور بالفراسة والحكمة، دفعته إلى البكاء في هذا الموقف العظيم.

ومن الجدير بالملاحظة أن بداية التشريع كانت في مكة منذ ثلاثة وعشرين عامًا تقريبًا، وكان اكتمال التشريع في مكة أيضًا دلالة على أهمية هذا البلد العظيم، أحب بلاد الله إلى الله ورسوله. نسأل الله أن يزيدها تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة.

وبعد هذه الخطبة القيِّمة، وبعد نزول الآية الكريمة، أَذَّن بلال للظهر، ثم أقام الصلاة، وصلى الرسول  الظهر ركعتين قصرًا، ثم أقام بلال لصلاة العصر، فصلاها الرسول  ركعتين كذلك.

ثم بعد ذلك ركب  ناقته القصواء حتى أتى الموقف، فجعل مجتمعهم وطريقهم جبل المشاة، أو طريق الناس بين يديه، واستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والابتهال والتضرع إلى الله ، حتى غربت الشمس، وذهبت صفرتها قليلاً، فركب ناقته، وأردف أسامة بن زيد رضي الله عنهما، واتجه إلى المزدلفة، فصلى هناك المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ثم نام هذه الليلة حتى طلع الفجر، فصلاه بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام بالمزدلفة، فاستقبل القبلة، فدعا الله ، وكبّره، وهلله، وظل يدعو على هذه الصورة، حتى كادت الشمس أن تطلع، ولكن قبل طلوع الشمس تحول من جديد إلى مِنى، وأردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما، فتوجه مباشرة إلى الجمرة الكبرى، حيث رماها بسبع حصيات، وهو يكبر مع كل حصاة، ثم انصرف بعد ذلك، إلى المنحر لنحر مائة ناقة من الهدي كان قد ساقها معه، فنحر بنفسه ثلاثًا وستين بدنة، وأمر عليًّا أن ينحر الباقي، فنحر علي بن أبي طالب سبعًا وثلاثين بَدَنَة، وقد انتظر  حتى طبخ جزء من هذه النوق وأكل منه، وفي هذا اليوم بمنى خطب في الناس خطبة أخرى ذكّرهم فيها ببعض ما ذكر به في خطبة يوم عرفة، فقال فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي بكرة :

"إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ".

وقال أيضًا وهو يسأل الناس: "أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟".

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟".

قلنا: بلى.

قال: "أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟".

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أَلَيْسَتِ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ؟".

قلنا: بلى.

قال: "فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟".

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت، حتى ظننا أنه سيسمِّيه بغير اسمه، قال: "أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟".

قلنا: بلى.

قال: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلا هَلْ بَلَّغْتَ؟".

قالوا: نعم.

قال: "فَلْيُبِلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".

وفي رواية في الترمذي عن عمرو بن الأحوص، وابن ماجه كذلك عنه أيضًا أنه قال في هذه الخطبة: "أَلا لا يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ، أَلا لا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا، وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَسَيَرْضَى بِهِ".

وبعد هذه الخطبة دعا حالقه فحلق له رأسه، ثم ركب إلى مكة حيث طاف طواف الإفاضة، ثم صلى بمكة الظهر، وشرب من ماء زمزم، ثم عاد مرة أخرى إلى مِنى، وبات فيها ليلته، وفي اليوم الثاني وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، انتظر زوال الشمس، ثم توجه إلى الجمرات، فرمى حصيات عند كل جمرة، وخطب في ذلك اليوم خطبة أخرى، وكان مما قال فيها كما روى أحمد عن أبي نضرة : "يَا أَيُّهَا النَّاُس، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلىَ أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى".

ثم قال: "أَبَلَّغْتُ؟".

قالوا: بَلَّغ رسول الله .

ثم أعاد عليهم التذكير بحرمة الأموال والدماء والأعراض، وأمرهم بالتبليغ.

روى البخاري عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب  يُدنِي ابن عباس، فقال له عبد الرحمن بن عوف: إن لنا أبناءً مثله.

فقال: إنَّه مِنْ حيثُ تَعْلَمُ.

فسأل عمرُ ابنَ عباس عن هذه الآية {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} [النَّصر: 1].

فقال: أَجَلُ رسول الله ، أعلمه إياه.

قال: ما أعلم منها إلا ما تعلم.

قد مكث  في مِنى أيام التشريق الثلاثة، ثم توجه إلى مكة، فطاف بها طواف الوداع، ثم توجّه بعدها مباشرة إلى المدينة المنورة.

وهكذا انتهت حجة الوداع، الحجة الوحيدة التي حجها ، ولا شك أنها تحتاج إلى دراسة فقهية مكثفة ومركزة، لا لمجرد المعرفة والتنظير، ولكن للتطبيق والاتباع، فقد قال  في هذه الحجة أكثر من مرة: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".

فدراستها دراسة واقعية أمر لا بد منه، ولكن المجال لا يتسع الآن لهذه الدراسة، وليس موضوع البحث يسمح بالتعمق في القضايا الفقهية، مع أهميتها التي لا تُنكر.

ويجدر بنا في هذا المقام أن ننبه إلى أنه مع الأمر المتكرر بأخذ المناسك عن رسول الله ، إلا أن الرسول  حرص على مبدأ التيسير في أمور كثيرة، فسمح بكثير من الشعائر أن تُؤدى بترتيب غير الترتيب الذي قام به . وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله  وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح.

فقال: "اذْبَحْ، وَلا حَرَجَ".

فجاء آخر، فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي.

قال: "ارْمِ وَلا حَرَجَ".

فما سُئل النبي  عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: افعل ولا حرج. فكان الطابع الواضح في حجته هذه -بل في حياته - هو التيسير على المسلمين قدر المستطاع، وصدق الله  إذ يقول في حقه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 80 مشاهدة
نشرت فى 21 إبريل 2013 بواسطة MATRIXHOSSAM

HUSSAM HAMDI HAMDI

MATRIXHOSSAM
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

43,879