من بيت فرعون إلى الفيس بوك ..
رسالة إلى من يحكم مصر
يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت "مصر هبة النيل" ويقول المؤرخ المصري شفيق غربال رحمه الله "مصر هبة المصريين" ومما لاشك فيه أننا محظوظون بهذا النيل أعظم أنهار الأرض، لكن المشكلة تكمن في حكام الأودية ومنها وادي النيل، إذ يجلس الحاكم على كرسي الحكم فيتفرعن، ومشكلة الفرعنة ثلاثية الأبعاد، يمثل الحاكم والشعب والبيئة أركانها الثلاث، فحكام الأودية منذ فجر التاريخ متسلطون على الشعوب التي كانت تعمل بالزراعة، فالفلاح يبذر البذور ويرعى غرسه وينتظر الحصاد، وتنتظر معه السُلطة، وتحمي السلطة نفسها بأجهزة قمعية، لا يستطيع الفلاح المسكين معها فكاكاً، فيستسلم ويسلم المحصول إلى قليلا مما يزرعه في العام المقبل (تقاوي) وما يسد به جوعه وأولاده إضافة إلى ماشيته وما تجود به الأرض من خضروات بين المحاصيل، ومصر وفق هذه الرؤية تمثل كنزا لحكامها وتنتصر لمقولة المؤرخ اليوناني هيرودوت، وهي تمثل بلا شك وجهة نظر الحاكم، سواء كان سواء مصرياً أو أجنبياً (محتلاً).
وإذا استشعر الحاكم خطراً ما اتخذ التدابير الكافية والوسائل القمعية اللازمة لحماية سلطته وتأكيد سيادته على البلاد، ففرعون موسى الذي نشر الفساد في الأرض "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" ويرجع سبب عداء فرعون لبني إسرائيل أنهم كانوا يعبدون الله على ما تبقى من دين إبراهيم عليه السلام، فهم خلفاء يوسف وأبيه يعقوب (إسرائيل) عليهما السلام ولا يتبعون إله فرعون، وقد ذكّرته حاشيته بنبوءة إبراهيم عليه السلام أنه سيخرج من بني إسرائيل من يقتل فرعون وجنوده، فأصدر أوامره بقتل من يولد من بني إسرائيل من الذكور، فقتل ألوفا من هذه الفئة، وهي فئة كانت تعتمد عليها البلاد في الأعمال الشاقة والوضيعة، فخشيت الحاشية من انقراض هذه الفئة فأشارت على الحاكم بقتل أبناء هذه الطائفة عاما وتركها عاما، وكان لفرعون عيونه من الرجال والقابلات يراقبون المواليد، فولد هارون في عام العفو وولد موسى في سنة القتل، ومع ذلك نجاه الله من القتل، وتقتضي سنة الله أن الغلام الذي قتل فرعون بسببه ألوفا ينجو من القتل ويربى في بيت فرعون وينشأ على فراش فرعون وفي أحضان زوجته، ويأكل من طعامه، وأمام هذا التدبير الإلهي لم يُنج فرعون حذره وجنوده وقوته وجبروته. وبعيدا عن اجتهادات البعض في تحديد فرعون موسى إلا أن الرسالة الإلهية في إخفاء الاسم فيه رمزية إلى كل طاغية في هذا البلد وفي غيره من بلدان العالم، لذا أُغفل الاسم وتم التركيز على اللقب.
ويظهر لكل ذي عينين أن الحاكم في مصر في العقود الثلاثة الأخيرة، قد اتخذ حذره بكافة التدابير، من أجهزة أمنية متنوعة بأعداد هائلة تربو على مليوني فرد، بين حرس خاص وحرس جمهوري وأمن مركزي وأمن دولة ومباحث جنائية .. إلخ، مسلحين بأحدث الأسلحة، ومزودين بأفضل أجهزة الاتصال والمراقبة والتصنت، حتى تحولت البلاد إلى دولة بوليسية، وتحول جهاز الشرطة بأكمله من جهاز لحماية البلد إلى جهاز لحماية الحاكم، كما نجح الحاكم في تفادي شبح الاغتيال بكافة الوسائل، كي لا يحدث له ما حدث لسلفه، فإضافة إلى التدابير الأمنية الأكثر تقدما في العالم، قلل من الظهور في المناسبات الرسمية مثل ذكرى حرب أكتوبر وعيد تحرير سيناء وعيد الشرطة وعيد العمال وغيرها، واكتفى بتسجيل خطاباته في هذه المناسبات وإذاعتها في وقت لاحق. وحدد الحاكم أعداءه بدقة شديدة، عبر دراسات مستفيضة، فسلط أجهزته الأمنية والإعلامية لقمعها، كل حسب خطورته، فمنهم من غيب في السجون على مدار العقود الثلاث منذ اغتيال الرئيس السادات إلى يومنا هذا، ومنهم من زار السجن عدة مرات، ومنهم من فر خارج البلاد، ومنهم من أُبعد من الوظائف الحكومية وضيق عليه في رزقه، وعُدلت القوانين لتحصر الوظائف المهمة من شيخ الأزهر رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء المجالس القضائية، وغيرها من المناصب المؤثرة حصرها في أعضاء الحزب الحاكم والموالين للنظام (أهل الثقة).
وظن النظام وظننا جميعاً أن لا أمل في إزاحة الحاكم وأعوانه من سدة الحكم، وحاول أعوان النظام أن يخرجوا بنا من ملف التجديد إلى ملف التوريث، ثقة منهم أنهم مكنوا لأنفسهم في الأرض وقضوا على أعدائهم قضاءً مبرما، وضاقوا بالمعارضة الشكلية في الانتخابات الأخيرة فأقصوها تماما وأخرجوا النتيجة لصالح الحزب الحاكم بنسبة 100%، وما كادت أفراح التفوق في الانتخابات تنقضي حتى خرج المارد من القمقم، خرج من حيث لا يتوقع النظام ولا يدري، خرج من بين صفحات الفيس بوك، من شباب معروف للنظام بالرفاهية والوهن وعدم القدرة على تحمل المسئولية، ولا أدل على موقف النظام من هؤلاء الفتية من المقطع الذي أذاعته أحدى الفضائيات؛ وفيه جمال مبارك يرد على سؤال في الحزب لأحد الصحفيين عن الخطورة من شباب الفيس بوك وضرورة الحوار معهم، فضحك نجل الرئيس مستنكراً ساخرا، وقال لأحد رفاقه .. رد عليه يا حسين. ولا ينكر أحد دور الثورة التونسية في إلهاب مشاعر ثوار مصر وتثبيت الأرض من تحت أقدامهم، وهكذا حمل لواء الثورة في مصر شباب لم يدخلوا في حسبان الرئاسة المصرية ولم تنجح أجهزة استشعار الخطر وترسانة الأمن السري والعلني في رصد تحركاتهم، مع أن تحركاتهم ومخططاتهم متاحة على الشبكة الدولية أمام الجميع، وكأنهم موسى الذي تربى في بيت فرعون، ليكون لهم عدواً وحزناً.
وأثبتت أحداث ثورة 25 يناير البيضاء في مصر، ومن قبلها ثورة الياسمين في تونس أن الشعوب أقوى مما يتصور الطغاة، وأن الطغاة أضعف مما تتصور الشعوب، وعلى ذلك فلا حصن للحكام يحتمون به إلا العدل ولنا في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أسوة حسنة إذ مر عليه أحد خصومه فوجده نائما في ظل شجرة بلا حراسة فقال "حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر" .. فقتل الناس وتغييب الجماهير في السجون بأحكام عسكرية غير شرعية أو بدون محاكمة والأجهزة الأمنية بكل أساليبها القمعية لا تجدي ولا تغني.
وعلى الحاكم أن يعي أن بطانة السوء تورد المهالك فهم المتسلطون المتسلقون النفعيون الذين يفرون عند المصائب، فها هو أمين عام الحزب الوطني الذي أُثري ثراءً فاحشاً واحتكر الحديد في مصر وقضى على واحدة من أهم القلاع الصناعية في مصر "شركة حديد الدخيلة" لحساب شركته "شركة حديد عز" وقام بدور فاعل في تزوير انتخابات مجلسي الشورى والشعب قبيل الثورة، رأيناه يتبرأ من تهمة تزوير الانتخابات ويلصقها بسيده "مبارك"، وهاهم فتحي سرور وذكريا عزمي ومفيد شهاب يخرجون من الأزمة "كما تخرج الشعرة من العجين" وسرعان ما تلون رؤوس الإعلام في العهد البائد – والذين امتلأت بطونهم وجيوبهم نتيجة لنفاقهم- سرعان ما تلونوا وانبروا يدافعون بأقلامهم وألسنتهم عن الثورة والعهد الجديد فور سقوط مبارك، ولا تعرف حمرة الخجل إلى وجههم طريقاً، فيا حكامنا الأفاضل هل من متعظ؟!!! ويا معشر المثقفين مَنْ قُدّر له أن يكون قريبا من السُلطة يوما ما فليكن صوتا للحق وضميرا للسلطة، فقد يصلح الله بك البلاد والعباد، ومن لا يستطع منكم أن يكون صوتا للحق فليعتزل المكان ولا يكون عونا للباطل، ويا علماء الأمة تمثلوا سلطانكم العز ابن عبد السلام فقولوا قولا حقا ولا تخافوا في الله لومة لائم، فكلمة حق منكم أو موعظة حسنة للحاكم قد توفر أنهارا من الدماء.
ساحة النقاش