علي الصراف

ثمة أحيان يمكن للمرء أن يتحدث مع الحائط، فيفهم، بينما لا يفهم بعض البشر. وقد قلت للحائط: "أخي، الإنتفاضة في ليبيا، هي إنتفاضة أناس تعرضوا للظلم والحرمان والكبت على امتداد أربعة عقود في ظل سلطة دكتاتور أرعن وغبي".
فقال: طبعا. أستطيع أن أرى ذلك رغم أنني حائط.
وقلت له: وهذه الإنتفاضة لا تختلف عن غيرها من إنتفاضات الحرية التي جرت في مصر وتونس.
فقال: نعم. بل وأزيدك علما، بأن كل هذه الإنتفاضات اندلعت بسبب القهر. فلما انكسر حاجز الخوف، اندفع الناس، مثل السيل الجارف، لكي يُسقطوا أنظمة القهر.
وقلت للحائط: شعر كل الثوريين وأصحاب النظريات الديمقراطية بالسرور للقضاء على طاغية وآخر، ولكن عندما وصل التغيير الى الطاغية الليبي، فإن بعض الثوريين تجهمت وجوههم، وتداعوا يدافعون عنه وكأنه ملك ملوك الحرية.
فقال: لا تقلق، هذا كيل بمكيالين. وهو من جنس المعايير المزدوجة التي ننتقدها ونعود نحن لنمارسها ضد شعبنا. الناس معادن، على أي حال. ومعدن الحر لا ينافق ولا يكيل بمكيالين.
قلت: برغم أنك حائط إلا أنك تبدو صاحب ضمير.
فقال: لا أدري، ولكن الحقائق حقائق. وعندما تتشابه الحقائق، فلا بد حتى للحائط أن يرضخ لها، وإلا تداعى، وسقط مبرره، وذهبت ريحه. وأنا كحائط، لا أستطيع الاستمرار واقفا إن لم تكن حجارتي مرصوفة رصفا صحيحا.
فقلت: العقيد، على عكس كل الطغاة الآخرين، يستخدم طائرات ودبابات وقاذفات صواريخ ليهاجم بها شعبه. وهو وصف شعبه بأقذع الأوصاف، ودعا أنصاره ومرتزقته إلى ملاحقتهم: بيت بيت، زنقة زنقة. في مؤشر إلى أنه مستعد لارتكاب مذبحة لكي لا يتخلى عن السلطة.
فقال: أنا حائط، ويقال عني إنني "أصم"، ولكنني سمعت ورأيت ما يقوله وما يهدد به العقيد.
قلت: الناس كانت تريد تغييرا سلميا، فلما رفع العقيد السلاح ضدهم، وجدوا أنفسهم مضطرين لحمل السلاح أيضا. ولكن كل ما أوتي لهم ليس بمستوى الأسلحة التي يستخدمها العقيد.
فقال: هذا مفهوم. فالناس، في آخر الأمر، ناس، والسلطة سلطة. هم لا يملكون وهي تملك.
وقلت: لقد قُتل الآلاف تحت القصف، والعقيد أظهر العزم على البقاء في السلطة حتى ولو مات الملايين. لا يهمه من أمرهم أي شيء، وقتل الأبرياء لا يشكل بالنسبة له أية معضلة.
فقال: هذا واضح. بالدليل العملي والمادي الملموس، واضح. ولا حاجة إلى أن تؤكده لي حتى ولو كنت في نظرك مجرد حائط.
قلت: فلما استصرخ الناس الضمير، طلبا للعون، سارع العقيد إلى القول إنهم يريدون تكرار تجربة العراق، وسارع أنصاره في الخارج إلى اتهام الليبيين بأنهم، بطلب المساعدة من الخارج، يمهدون لغزو أجنبي، مرفوض، مرفوض.
فتساءل الحائط: وما هو وجه الشبه بين العراق وليبيا؟
قلت: هناك شبه وهناك اختلاف. الشبه هو أن المنتفضين يقولون إنهم لا يستطيعون الخروج من مدنهم للزحف على طرابلس إذا بقي العقيد يستخدم الطائرات. ومحنتهم هي أنهم إذا لم يتقدموا، فإن قواته هي التي سوف تتقدم لتسحق وتدمر وتقتل. وستكون مجزرة من أعظم المجازر في التاريخ المعاصر. وبعضهم يطلب فرض "منطقة حظر جوي". هذا هو وجه الشبه. أما الاختلاف، فهو إن ما حصل في العراق كان غزوا، مصمما سلفا من أجل تغيير النظام بقوة مسلحة من الخارج ومن أجل الإحتلال، تحت ذريعة البحث عن أسلحة دمار شامل. بينما ما يحصل في ليبيا هو انتفاضة شعبية مثلها مثل كل إنتفاضات خلق الله الآخرين.
فقال الحائط: أرجوك ساعدني لكي أفهم، هل طلب المنتفضون قوات أجنبية للمجيء إلى بلادهم؟
قلت: لا. بعضهم طلب غطاء جويا فقط.
فقال: هل طلبوه من أحد بعينه؟ أميركا، مثلا؟
قلت: لا. طلبوه من أي واحد يقدر عليه. ومندوب بلادهم في مجلس الأمن الدولي بكى طالبا المساعدة لإنقاذ الضحايا.
قال: وهل الدول المعنية بفرض منطقة الحظر الجوي لديها استعداد أو أعلنت الرغبة بإرسال قوات عسكرية على الأرض في ليبيا؟
قلت: لا. هذا لم يحصل.
فقال: هل هناك مبرر، أو استعداد نفسي، أو إمكانية اقتصادية، أو دوافع إستراتيجية للغزو؟
قلت: لا.
فقال: هل هناك مؤشرات، أو تصريحات، أو دعوات، في الصحافة أو غيرها، حتى ولو من مهووسين بالغزو، تدعو لإرسال قوات لاسقاط نظام العقيد بالنيابة عن شعبه؟
قلت: لا. لم يظهر ولا واحد. حتى أكثر الكتاب رعونة لم يقل كلمة بهذا المعنى.
فقال: هل كانت خطط الإنتفاضة مدروسة أو متوقعة من معارضين في الخارج؟
قلت: لا. لقد فوجئوا بها كما فوجئ العقيد نفسه.
قال: هل صدر قرار من مجلس الأمن يجيز الغزو او استخدام قوات برية لفرض منطقة الحظر الجوي؟
قلت لا، القرار تضمن نصا صريحا يستبعد هذا الخيار.
فقال: إذن أين وجه الشبه؟ أنا فهمي فهم حائط، ولكنني لا أرى مبررا للتشبيه. الظرف يبدو مختلفا من جميع النواحي. ولكنك إذا حاولت التفكير فستجد أن هناك مبرر واحد للتشبيه بين العراق وليبيا.
قلت: ما هو؟
قال الحائط: جماعتك، بالأحرى، لا يريدون تشبيه العراق بليبيا، لأنه لا يوجد سبيل للتشبيه، ولكنهم يفعلون ذلك من أجل أن يُشبّهوا العقيد القذافي بصدام حسين. إنهم يريدون أن يقدموا العقيد كبطل قومي، وكشهيد، وكمقاوم ضد الغزاة (رغم أنهم لم يأتوا). فهل هناك تشابه بين هذين الرجلين فعلا؟
قلت: نعم، يوجد الكثير من التشابه. وهذه عشرة من أوجهه:
أولا، الرئيس الراحل أمم النفط لكي يستخدم أمواله في أكبر مشروع للنهضة العلمية والاقتصادية، بينما "أمم" القذافي النفط لحسابه الخاص ليستثمر أمواله في مشاريع وهمية في الخارج.
ثانيا، الرئيس الراحل قاد نهضة عمرانية في طول البلاد وعرضها غيّرت وجه كل مدن البلاد، وحولتها إلى حواضر زاهية، وواصل أعمال البناء والتعمير حتى في ظل أقسى الظروف. بينما ترك العقيد بلاده تتهدم وبنيتها التحتية تتداعى.
ثالثا، الرئيس الراحل بدأ سلطته بمحو الأمية في البلاد حتى قضى عليها كليا في غضون سنوات قليلة بينما يقود العقيد بلادا ترتفع فيها نسبة الأمية إلى أكثر من 30 في المائة. ولا سبيل للقياس بين التعليم وأنظمة الخدمات الأخرى في عهد صدام ونظيرها في ليبيا.
رابعا، الرئيس الراحل أصدر تشريعات وقوانين للحقوق المدنية جعلت المساواة بين الرجل والمرأة حقيقة لا سبيل إلى نكرانها، بينما ظل العقيد يعتبر المرأة بقرة، ويقول إن وظيفتها الوحيدة في الحياة هي الإنجاب ورعاية الأطفال.
خامسا، الرئيس الراحل كان يقدم تعويضات لأسر شهداء الإنتفاضة الفلسطينية، بينما العقيد انتهى إلى أن يقدم تعويضات لإسرائيل عن "أملاك اليهود" في ليبيا. وفي حين كان الرئيس الراحل يعدم جواسيس إسرائيل، فإن العقيد القذافي يسلمهم لإسرائيل عبر مفاوضات مباشرة وغير مباشرة.
سادسا، عندما كانت لدى الرئيس الراحل صواريخ، فإنه قصف بها تل أبيب. وعندما كانت لدى العقيد صواريخ فإنه منحها لإيران، خلال حرب الثمانينيات، لكي تقصف بها بغداد.
سابعا، كان الرئيس الراحل يقود اقتصادا لم يُبق عاطلين عن العمل، بل إن العراق كان يستعين بعمالة عربية تجاوزت الملايين، بينما يقود العقيد اقتصادا ترك 20 في المائة من شباب بلاده عاطلين عن العمل. وبرغم أنه "أمين القومية العربية" كما يزعم، فإن بلاده ظلت تطرد العرب الباحثين عن عمل في ليبيا.
ثامنا، كان الرئيس الراحل لا يملك، لا هو ولا أي أحد من أفراد أسرته، "عشّة" أو درهما في الخارج، بينما يملك أبناء العقيد قصورا ويخوتا وحسابات طائلة في عدة دول. وتحتل ليبيا مرتبة متقدمة بين الدول الأكثر فسادا في العالم.
تاسعا، كان الرئيس الراحل واسع الثقافة ومتحدثا لبقا وكاتبا متميزا، ولكنه لم يقدم نفسه كصاحب نظرية، ولا كمفكر عالمي، بل حتى عندما كتب أعمالا روائية فإنه لم ينسبها لنفسه، احتراما فيما يبدو لذوي الإختصاص. بينما القذافي جاهل ونصف أميّ ولا يستطيع أن يُركّب جملتين سليمتين على بعضهما ولكنه يقدم نفسه كصاحب نظرية عالمية ثالثة وفكر كوني، كما أنه صار كاتب قصص سخيفة مثله.
عاشرا، وقف الرئيس الراحل للغزاة، وقاد مقاومة شعبه ضدهم، ووقف القذافي ضد شعبه وقاد مرتزقة ضدهم....
فقاطعني الحائط، قائلا: هل هذا تشابه؟ ألم أقل لك إنك تنظر إليّ كحائط. أتراك تسخر مني؟
قلت: لا أسخر. وأعرف أنك حائط. ولكنني أردت القول إنك، كحائط، تملك ضميرا لا يملكه أولئك الذين يقارنون العراق بليبيا، ويحاولون، من باب خفي، تحويل العقيد إلى بطل ضد غزاة لم يأتوا، ولن يأتوا. وأنت حائط تنفع ولا تضر، ولكنهم، كما ترى، يساعدون العقيد باستخدام فزاعاته من الغزو، لكي يذبح شعبه دون تدخل من أحد، ودون يقظة من ضمائر. وهم يرون ان عقيدهم هدد بذبح شعبه "من دون رحمة"، وقرر ملاحقة ابنائه "زنقة زنقة"، فلا هم رحموا هذا الشعب، ولا هم سمحوا لرحمة الآخرين أن تنزل عليه. وكما ترى، فإنهم أقل نفعا من حائط. وبالنسبة لشعوبهم، فإنهم بالأحرى حائط مائل، إذا سقط، فإنه يسقط على أهله. وهذا هو الحاصل. وأم المصائب انهم لا يرون ان اندحار انتفاضة سيعني اندحار كل الانتفاضات الأخرى.
فسأل الحائط: وهل هؤلاء الثوريين والقوميين يريدون تحرير شعوب أخرى؟
قلت: نعم.
فقال الحائط: بالمشمش.
قلت: وكيف توصلت الى هذه النتيجة وأنت حائط؟
قال: حتى الحائط يستطيع أن يفهم إن من يخون شعبا لا يمكنه أن يحرر شعبا آخر.

المصدر: Alarab Online
Khaled-now

((Yes we are here نَعم نحن هُنا))

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 248 مشاهدة
نشرت فى 25 مارس 2011 بواسطة Khaled-now

ساحة النقاش

Yes we are here نَعم نحن هُنا

Khaled-now
نحن صفحة إخبارية تعمل على مدار الساعة تهتم باخبار العرب من المُحيط الى الخليج...فمرحباً بكل العرب.. تاريخ تأسيس الصفحة : 5 مارس 2011 مُديرالصفحة : خالد عويضة »

كل الأخبار

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

214,811

نَعم نحنُ هُنا















bloguez.com
widgets
تحويل التاريخ
ميلادي إلى هجري هجري إلى ميلادي
اليوم: الشهر: السنة

مقالات/ نَعم نحن هُنا

↑ Grab this Headline Animator

Email me
Khaled M Ewaida

إنشاء شارتك الخاصة

.......................
free counters










........................................