زهير أندراوس
قبل الولوج في قضية الحرب الأهلية الطاحنة في ليبيا، وما قبل محاولة سبر أغوار مسألة التدخل الأجنبي في هذا البلد العربي، لا بد من التأكيد بصورة قاطعة أننا أعلنا موقفنا الحازم منذ اليوم الأول للثورة، والقاضي بتأييد الثورة وحق سكان هذا البلد العربي بأن يتمتعوا بالحرية المسلوبة من قبل أحد أنظمة الاستبداد الأشد وحشية في العالم الثالث، وأن ينعموا بالثروات التي يصادرها 'الثائر السرمدي'، معمر القذافي وأفراد عائلته.
للأسف الشديد، نقولها بألم وحسرة شديدين، إننا ونحن نرى قصف قوات التحالف الغربي لليبيا بتفويض من مجلس الأمن الدولي، نتذكر القصف الإمبريالي الذي تعرضت له بغداد الرشيد، تقريبا في نفس اليوم من آذار/مارس من العام 2003. لم نصفق حينها لمخطط المحافظين الجدد، بل ذرفنا الدموع على استباحة البلد العربي من قبل من يمكن تسميتهم بـ'النازيين الجدد'، نعم، شتان ما بين الثرى والثريا، شتان ما بين بغداد وطرابلس الغرب، وشتان ما بين الرجل والبطل والشهيد، صدام حسين، وبين 'عارض الأزياء' العقيد معمر القذافي، ولكن مع ذلك، أو على الرغم من ذلك، نقول ما أشبه اليوم بالبارحة.
مرة أخرى يؤكد هذا التدخل الغربي باستباحة الوطن العربي على عجز الأمة العربية، أو لنكن أكثر دقة جبن النظام العربي الرسمي في حل الأزمات التي تعصف بالدول العربية من المحيط إلى الخليج، ومرة أخرى: لماذا نحن، الناطقين بالضاد، بحاجةٍ إلى الغرب لحل مشكلة عالقة في هذا البلد أو ذاك؟ المأساة تكمن في أننا نقوم من حيث ندري بتوجيه دعوةٍ رسميةٍ إلى الغرب الاستعماري لقصف بلادنا على سكانها، والدعوة، كما يتبين لنا مع انقشاع الصورة، هي أقرب إلى الاستجداء، فعلا إننا أمة تثير الشفقة، إن لم تكن الرحمة.
وزراء الخارجية العرب اتخذوا قرارا بالتوجه إلى مجلس الأمن الدولي لفرض الحظر الجوي على ليبيا حقنا لدماء الأبرياء التي سفكها القذافي وكتائبه بواسطة المقاتلات الحربية، وفجأة، اختفى التلعثم الغربي بشأن ليبيا، وانقض على الدعوة العربية، تلقفها بشوقٍ عارمٍ وحصل على مبتغاه، حصل على الشرعية الدولية لفرض الحصار الجوي، وبدأ بقصف ليبيا، وهذا التدخل هو بكلماتٍ أو بأخرى المسمار الأخير في نعش الثورة الليبية، التي بدأت ثورة سلمية وتحولت بفعل جنون الماكينة الحربية القذافية إلى حرب أهلية، وها هي اليوم باتت عدوانا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ، فطائرات التحالف لا تفرق ولا يمكنها أن تفرق بين مؤيدي الثورة وداعمي القذافي، إنهم في أول، وليس في منتهى المطاف، عرب، يجب قتلهم، وكل التحليلات حول حماية المدنيين ما هي إلا ذر للرماد في العيون، إنهم باتوا أهدافا لعصابات القذافي الإجرامية ولصواريخ (كروز) التابعة للدول الغربية.
السيد عمرو موسى، الذي بات يلعب في منصبه الحالي، الأمين العام لجامعة الدول العربية، في الوقت بدل الضائع استعدادا لترشحه لرئاسة مصر، بعد خلع حسني مبارك، يحاول أن يرقص في عرسين، فقبل اجتماع وزراء الخارجية العرب قال لصحيفة 'دير شبيغل' الألمانية إنه يؤيد التدخل الأجنبي في ليبيا، ولم تمر سوى 24 ساعة على اتخاذه هذا الموقف، ظهر مرة أخرى أمام وسائل الإعلام وحاول التنصل من موقفه زاعما بدون ذرة حياءٍ أو خجل أن الهدف من التدخل الغربي هو ليس قتل المدنيين، وأن التحالف بقصفه ليبيا لا ينفذ قرار مجلس الأمن الدولي، هذه انتهازية، يا سيد موسى، هذا عهر سياسي من الدرجة الأولى، هذا النفاق والرياء مع علامة الامتياز، لأنه عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وبالتالي عليه أن يعلم أنه إذا كانت جامعة الدول العربية جسما هلاميا، لا أكثر ولا أقل، فإن الشعوب العربية، التي دخلت إلى ربيعها بعد طول انتظار، ستعرف كيف ومتى ستحاسب. بالإضافة إلى ما ذكر آنفا، نقول على الرغم من أننا لا نزعم التنجيم أو قراءة المستقبل، إن التدخل الأجنبي بغطاءٍ عربي، فتح الباب على مصراعيه أمام القذافي لاستنفاد جميع أسلحته التقليدية وغير التقليدية لسحق الشعب الليبي، بزعم صد العدوان الذي سماه بالصليبي، القذافي، وفق وكالات الأنباء الأجنبية، يستعين بمكاتب علاقات عامة من أمريكا وأوروبا، ويحاول استرضاء الرأي العام العربي، يحاول تأليب العرب على الغرب، وبما أن صفحة الغرب لدى العرب هي أكثر من سوداء، فلا نستبعد البتة أن يتمكن هذا الزعيم، المصاب بهلوسة جنون العظمة، باستمالة روافد عديدة من أبناء الأمة العربية، الذين يؤمنون وبحقٍ بأن أهل مكة أدرى بشعابها، ولا حاجة للغربي لكي يحل مشاكل النظام العربي الرسمي المهزوم والمأزوم، على حدٍ سواء. أنسيتم يا أبناء أمتي الحديث النبوي الشريف: لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.
كما يستحضرنا في هذه العجالة تذكير من خانته ذاكرته، أو أولئك الذين يتمتعون بنوعٍ من الذاكرة الانتقائية، بأن أحفاد عمر المختار، الذي أطلق مقولته الشهيرة: إما الانتصار، وإما الموت، تمكن بقدراته وإصراره وعزمه من كنس الاستعمار الإيطالي بدون تدخلٍ أجنبي، إنه قدم الشهداء من أجل حريته وكرامته، ونحن ما زلنا على ثقة بأن هذا الشعب العظيم قادر لوحده على طرد الطاغية أو كنس نيرون طرابلس، بدون الاستعانة بغزاة القرن الـ21، المؤسف والمخجل، المحزن والمشين، أن إيطاليا، بلد الاستعمار، فتحت قواعدها لانطلاق قوات التحالف إلى ليبيا التي طردت منها.
وماذا يا عرب الاعتدال والمواجهة والممانعة والمقاومة، ماذا مع قطاع غزة، فهمنا، وتفهمنا على مضض، أنكم أجبن من أن تتوجهوا إلى مجلس الأمن لانتزاع قرارٍ يجبر دولة العربدة والقرصنة، دولة الاحتلال المارقة بامتياز، على فك الحصار المفروض على الفلسطينيين في القطاع بسبب عملية مقاومة شرعية لأسر جندي من جيش الاحتلال غير الشرعي، ونعترف في هذا المقام بأن كبار الأخصائيين النفسيين لن يتمكنوا من فك لغز نسيانكم القرار الذي اتخذتموه بإعادة إعمار غزة بعد العدوان البربري الإسرائيلي قبل اكثر من سنتين، وهو العدوان الذي استعملت فيه الدولة العبرية الأسلحة الأمريكية، المحرمة دوليا وغير المحرمة دوليا، بربكم وبدينكم: هل تنقصكم الأموال أم أن تملصكم من تنفيذ قراركم نابع من خوفكم وخشيتكم واحترامكم للويلات (ليس خطأ مطبعيا) المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل. فالشرعية، كما نعلم، لا تتجزأ ولا تفرق بين هذا أو ذاك، ولكن في هذا الزمن الرديء، قسمتم المقسم، وجزأتم المجزأ، وما بات ينقصكم هو تدوير المربع أو تربيع الدائرة.
التدخل الأجنبي في ليبيا، يدفع العرب ثمنه، أولا الأنظمة العربية الرسمية هي التي تتحمل نفقات هذا التدخل، وفقط للمعلومات العامة فإن تكلفة صاروخ (كروز) واحد تصل إلى مليون دولار، كما أن العرب، وتحديدا الليبيين، هم الذي سيدفعون بدمائهم مقابل هذا التدخل، أما الثمن الباهظ فسيدفع لاحقا: الغرب سيطالب، والعرب باتوا أكرم من حاتم الطائي، بجني الأرباح، ولما أننا نعيش في عهد العولمة فإن البنوك، وفي حالتنا، الدول العربية، ستجبي الفائدة والفائدة المضافة، والفائدة المضاعفة، وستتحول ليبيا، بفضل قراراتكم الحكيمة، يا عرب النفط، إلى دولةٍ مفتتة في أحسن الأحوال، وإلى دويلات قبلية وعشائرية، وستتحول إلى مرتعٍ للحركات الإسلامية الأصولية، مثل تنظيم القاعدة، ولكن أهم من هذا وذاك أن الغرب سيحكم سيطرته على هذا البلد العربي، فإذا تمكن القذافي من أفرقة ليبيا، فإن الغرب سيحولها إلى دولةٍ جريرةٍ يعتاش على نفطها، وهي التي تصدر يوميا أكثر من مليوني برميل نفط.
ساحة النقاش