يتزايد معدل سكان كوكب الأرض، وبالتالي تزداد حاجتهم للغذاء والكساء والدواء وكافة شئون حياتهم الأخرى. واهم مطلب للبشر هو الغذاء، لكن يعاني الأمن الغذائي في كل أرجاء المعمورة من مشاكل عامة، وللأسف عدم الأمن يعشعش بحرية في دول العالم النامي، فلكي يكون شعبا ما أمنا غذائيا يجب أن يكون الغذاء بالنسبة له متاح في جميع الأوقات وسهل الحصول علية سواء من ناحية الأسعار أو الأسواق، ويفي هذا الغذاء بكافة المكونات الصحية التي يطلبها الجسم البشرى. ويحاول العلماء بشتى الطرق البحث عن وسائل (بل والسريعة منها) لزيادة الإنتاج الغذائي في العالم. وهنا نستعرض أحد التجارب الرائدة للإسراع في إنتاج أصناف نباتية ذات محصول وفير يقابل حاجة البشر المتزايدة للغذاء.
الأمن الغذائي والجوع حول العالم:
ولكن للأسف أصدرت الأمم المتحدة (في 15 أيلول/سبتمبر 2017م) تقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم، وذكر أن815 مليون نسمة (بنسبة 11%) من سكان العالم يعانون الجوع، (أي ما يعادل حوالي واحد من كل تسعة أشخاص في العالم)، غالبيتهم في أسيا (520 مليون جائع، بنسبة 11.7% من سكانها) و تأتى أفريقيا في المرتبة الثانية (243 مليون، يمثلون 20% من سكانها، وهي أعلى نسبة جوعى إلى عدد سكان قارة على مستوى العالم)، ثم جوعى أمريكا الجنوبية و الكاريبي (42 مليونا، بنسبة 6.6% من سكانها)، حتى الدول المتقدمة، لم تخلو من الجوعى، ففيها قرابة اثنتى عشر مليونا من الجوعى. وحسب إحصائيات هذا التقرير فإن معدل الجوع في العالم بدأ في الارتفاع مجدداً بسبب النزاعات والتغير المناخي، بعد أن شهد انخفاضاً مطرداً خلال العقد الماضي. لذا فإن العالم يسعى حاليا ليُخفض معدل الجوع والفقر وأعداد الجوعى والفقراء، وذلك بتبني أجندة أهداف التنمية المستدامة 2030 التي تهدف إلى القضاء على الجوع وجميع أشكال سوء التغذية بحلول 2030م، ووضع ذلك على أولويات السياسات العالمية. ولا يتوقف تأثير الجوع بالدول النامية على صحة البشر وزيادة معدل الموت فقط، بل يتعداه بتأثيره الجلي على انخفاض معدل ممارسة الأنشطة، فالطلاب الجوعى يقل معدل تحصيلهم الدراسي عن أقرانهم، وكذا تقل قدرة العمال على الإنتاج، أما ثالثة الأثافي، فالدول التي تعاني من هذه المشاكل تحتاج لمساعدات غذائية خارجية، غالبا ما تستعمل للضغط على سياستها الخارجية وبالتالي نقص سيادتها بين دول العالم.
السرعة سمة عالم اليوم:
تجاوز عدد سكان المعمورة اليوم السبعة مليار نسمة، وبمعدلهم الحالي للزيادة السنوية (1.18%) من المتوقع ان يصلوا إلى التسع مليارات نسمة بحلول العام 2050م، ولتلبية طلباتهم من الغذاء لابد من زيادة الإنتاج بمعدل 70%. وقد نجحت تقنيات مبتكرة عديدة في الإسراع من وتيرة التطور، فها هي البيوت سابقة التجهيز وناطحات السحاب تتعالى في العمران، والمواصلات والاتصالات والعلاج في تقدم مذهل. وتتسابق الأمم والشعوب في تسجيل الأرقام القياسية في زيادة معدل السرعة، فهاهنا أسرع قطار في العالم وهناك أسرع سيارة أو غواصة أو طائرة أو أسرع شبكة انترنت أو هاتف جوال أو جهاز حاسب آلي وهكذا. ولكن حين النظر الى الكائنات الحية (ومنها النباتات) يصعب كثيرا دفعها للإسراع من معدل نموها لمجابهة متطلبات البشر. ويعتمد غذاء أهل الكوكب في أكثر من 90% من احتياجاته حاليا على النباتات، والتي قدر المولى أن يكون نموها محكوم بعوامل وراثية داخل خلاياها والتي ترسم مراحل نموها وعمرها وفق خريطة إلهية محددة سلفا، وتحت ظروف بيئية مناسبة من الإضاءة، ودرجة الحرارة، بل ورطوبة نسبية مناسبة، واحتياجات غذائية مضبوطة. بل نجد النباتات تنمو في أقاليم جغرافية ومناخية محددة حول العالم، وبعضها ربما يفشل تماما في النمو في مناطق أخرى. وحاول العلماء على مر العصور التحكم في نمو النبات وحتى في غير مواعيدها الطبيعية وذلك بزراعتها في بيوت زجاجية (البيوت النباتية أو الصوبات Greenhouses) توفر لها ما تحتاجه من ظروف بيئة مناسبة، وبذا نجحوا في التغلب على بعض الصعاب، فمثلا تم لهم انماء نباتات القمح في موسم الصيف تحت البيوت الزجاجية توفر لها جوها الشتوي المعتاد.
وفى مجال برامج تربية النباتات، تتطلب عملية إنتاج أصناف نباتية جديدة ذات محصول عال، عدة خطوات، منها عملية تهجينات (تلقيحات) عديدة بين تراكيب وراثية مختلفة، ثم الحصول على أنسالها ومقارنتها وإنتخاب أفضلها وتتبع صفات أنسالها التالية لعدة أجيال والتي تطول أحيانا لتستغرق عقود عدة. وهذا لأن فترة الجيل الواحد لنباتات المحاصيل تستغرق شهور عدة وأحيانا سنة كاملة، مما يطيل أمد برامج التربية، وقد حاول علماء وباحثي النبات التغلب على تلك المشكلة، فهداهم تفكيرهم بزراعة النباتات تحت البيوت المحمية التي توفر الظروف المطلوبة لنمو تلك النباتات. ولكن كانت تلك البيوت تمنح مربى النباتات فرصة انماء نباتاتهم لجيل أو اثنان وعلى الأكثر ثلاثة في أحسن الأحوال، مما يسر لهم اختصار زمن برامج التربية، ولكنهم ما زالوا يأملون في المزيد من الأجيال خلال العام الواحد.
وكما ذهب الباحثون والمخترعون في المجالات الحياتية الأخرى إلى إسراع مخترعاتهم، حديثا ابتكرت مجموعة من الباحثين النباتيين طريقة جديدة اسموها التربية السريعة (Speed Breeding) للإسراع من وتيرة نمو النباتات في عدة أجيال متعاقبة خلال العام الواحد مسجلة بذلك رقما قياسيا جديدا في مجال التقنيات الزراعية. ونشروا تجربتهم الرائدة في مجلة "طبيعة النباتات" (Nature Plants) والتي صدرت في مطلع يناير 2018م.
ابتكار طريقة التربية السريعة:
هذا البحث تناول طريقة جديدة ومبتكرة لتسريع عمليات نمو النباتات تحت ظروف بيئية مُحكمة وخاصة ظروف الإضاءة (النهار السرمدي). والتربية السريعة (Speed Breeding) للنباتات، تقنية طُوِّرت استرشادا بتجارب أجرتها وكالة ’ناسا‘(NASA) الأمريكية لأبحاث الفضاء، أدامت فيها تسليط الضوء على القمح من أجل زراعته في الفضاء، ما أدى إلى تبكير إكثاره، وفق توضيح "لي ت. هيكي" (Lee T. Hickey)، قائد الفريق البحثي، ومن كبار الباحثين بجامعة كوينزلاند في أستراليا، وشارك معه في هذا البحث المميز أربع وثلاثون باحثا ينتمون الى عشرة جهات بحثية مختلفة تقع في ثلاث دول هي أستراليا والمملكة المتحدة وماليزيا، وإن كان غالبيتهم ينتمون لجامعة كوينزلاند الأسترالية (The University of Queensland)، بينما تم عمل بعض تجارب المقارنة في المملكة المتحدة في مركز "جون إينيس " للبحوث، "بـنورويش" (John Innes Centre, Norwich Research Park, Norwich). وما يميز هذا البحث هو دراسة عدد كبير من اهم المحاصيل الاقتصادية العالمية كالقمح (Wheat) والذرة (Maize) والشعير (Barley) والأرز (Rice) والحمص (Chickpea) والكانولا (Canola) وحشيشة الدنبان (Brachypodium) والبرسيم (Medicago truncatula) والبازلاء (Pea) والقمحيلم (Triticale) والشوفان (Oat) وغيرها.
وكما سبق أن ذكرنا أنه لإنتاج صنف تجارى جديد من أي محصول إقتصادي يحتاج لفترة قد تصل لعقدين من الزمان، وهذا يمثل عائق كبير في عمليات التربية. وحتى بالأستعانة بالصوب الزجاجية (البيوت المحمية) العادية لا يمكن أن تتجاوز ثلاثة أجيال في أفضل الأحوال، والجزء الهام في برامج التربية تلك يتعلق في الخطوات الأولى الخاصة بالحصول على سلالات نقية (Pure Lines) ذات صفات وراثية مميزة وأصيلة والتي تستغرق قرابة ست أجيال متتابعة على الأقل من التلقيح الذاتي (Self-Breeding)، ثم يتلو ذلك عملية التهجينات بين تلك السلالات ثم انتخاب أفضلها ومتابعة أجيالها المتعاقبة، وتلك هي الحلقة التي عمل عليها فريق البحث الحالي.
حيث ذكر مقدموا هذه التجربة المميزة أن طريقتهم (Speed Breeding) استطاعت إنماء ستة أجيال متعاقبة في العام الواحد تحت ظروف إنماء في غرف محكمة الغلق والتحكم الكامل في الإضاءة ودرجة الحرارة ونسبة الرطوبة والتغذية. وذلك بزيادة فترات الإضاءة مما يزيد من معدل سرعة نمو النباتات وبالتالي تقصير فترة الجيل. واستعانوا بالتحديد بنوع مميز من لمبات الإضاءة الكهربائية (LED) مع إطالة عدد ساعات الإضاءة (النهار السرمدي مجازا) وتقصير فترة الإظلام في اليوم، (22 ساعة إضاءة وساعتين إظلام فقط، بينما الطبيعي غالبا اثني عشر ساعة اضاءة وأخرى مثيلتها إظلام). تلك النوعية من لمبات الإضاءة تعمل بنظام "الصمام الثنائي الباعث للضوء" (Light-Emitting Diode "LED") وتسمى بـ " الإضاءة الثبلية"، وهي أوفر المصابيح الكهربائية من وجهة استهلاك الكهرباء. كذلك تم لهم التحكم في كثافة وشدة الضوء طبقا لمرحلة النمو (360- 500 μmol m-2 s-1)، ودرجة الحرارة (22 درجة مئوية في الضوء و17 درجة في الظلام)، أيضا تم ضبط نسبة الرطوبة (70% غالبا).
وقد تناولت التجربة زراعة بذور تلك الأنواع المختلفة من المحاصيل ومتابعة كافة الصفات المحصولية والظاهرية الهامة بها كتاريخ الازهار وعدد وحجم ووزن بذور المحصول، وحتى تأثرها بالأمراض النباتية، بل تعدى ذلك الى إعادة زراعة البذور المنتجة بتلك التقنية مرة أخرى ودراسة صفات نباتاتها أيضا، كل هذا مع عمل تجارب مقارنة تحت ظروف البيوت الزجاجية مع تلك النامية بطريقة "التربية السريعة". أيضا قام هذا الفريق بعمليات التهجين وأيضا بنقل جينات (الهندسة الوراثية) وزراعة أصناف ذات صفات وراثية مميزة ومتابعة كل ذلك تحت كافة الظروف البيئية. بل شملت الدراسة إمكانية حدوث الطفرات، وأيضا دراسة السلوك الميوزي لنباتات القمح النامية (الاتحادات الكروموسومية) ومدى حدوث عدم استقرار في السلوك الميوزي للكروموسومات (صبغيات القمح). ولم يفت الفريق البحثي دراسة مكونات هذا الضوء، بل درسوا اقتصاديات وتكاليف هذا النظام الجديد ومقارنته بالطرق التقليدية تحت الصوب الزجاجية، بل طوروا طرق بسيطة لنظامهم الجديد وأثبتت فعاليتها.
وقد أوضحت كافة النتائج (والتي حُللت احصائيا في عشرات الجداول والصور والاشكال البيانية وتصوير فيديو) أن صفات النباتات النامية بالطريقة الجديدة (التربية السريعة) تفوقت على قريناتها فى غالبية الصفات وفى كافة المحاصيل تحت الدراسة، ومكنتهم من زراعة عدة أجيال في العام الواحد بأكثر من الضعف في الطرق الأخرى المستعملة حاليا بالصوب الزجاجية.
وقد سبق أن نوقشت فكرة إطالة فترة الاضاءة (النهار السرمدي) وتأثيرها على نمو النباتات منذ العام 2010م، حيث بدأها فريق العالم "سيسوفا" (M. I. Sysoeva)، وطبقتها أيضا فرق بحثية أخرى، منهم فريق الباحث "أوكونور" (D. J. O'Connor) عام 2013م ، وفريق الباحث "ستيتر" (M. G. Stetter) عام 2016م، وأدت نتائجهم إلى تقليل فترة الجيل لأنواع محاصيل أخرى مثل دوار الشمس (Sunflower)، والفلفل (Pepper)، والفجل (Radish)، والقطيفة (Amaranth)، والفول السوداني (Peanut)، والتي جميعها استجابت بشكل جيد لتمديد فترة الاضاءة، بتقصير فترة الجيل مما أدى إلي تسريع برامج التربية .
ونرى أن هذه الطريقة (وبعد تأكيد نتائجها من فرق بحثية أخرى)، وإشراك باحثي فسيولوجيا النبات في الدراسة، ربما تكون مفيدة جدا للإسراع في تنفيذ برامج تربية النباتات وإنتاج أصناف جديدة (خلال سنوات بدلا من عقود) تزيد من غلة المحاصيل. بجانب ذلك فالتكاثر السريع سوف يوفر حافزا قويا لمزيد من علماء النبات لإجراء البحوث والتطبيقات التكنولوجية الحديثة على النباتات المحصولية مباشرة، وتطبيق عمليات دراسات الجينوم وتسلسل القواعد الوراثية بدلا من استعمال النباتات النموذجية، بالتالي زيادة تسريع البحوث لتحسين المحاصيل.
المراجع:
Watson and Ghosh et al. (2017) Speed breeding: a powerful tool to accelerate crop research and breeding. Nature Plants 4, 23–29 (2018) www.nature.com/natureplants
ساحة النقاش