الدكتور خليل أبوزيد "مفجر ثورة 1919م بدير مواس"
<!--<!--
هنا نصل لطاقة النور في تاريخ المنيا الوطني، والذي سجل بأحرف من نور، وإن كان القائمون به مازالوا في الظل وقليل من يعرفهم، لذا نرجو أن نسلط الضوء على هؤلاء الأبطال الذي سجلوا بكل فخر وشرف تاريخ المنيا المجيد وسبحوا ضد تيار الاحتلال الإنجليزي ساعتها، ويحتفل بذكرى صمودهم وتضحياتهم البطولية كل عام في الثامن عشر من مارس كعيد قومي للمحافظة.
ويقف على قمة هؤلاء الأبطال زعيم ثوار المنيا الدكتور خليل أبو زيد ورفاقه في مركز دير مواس، الذي أشعلوا فتيل الثورة والتي امتدت بطول المحافظة وعرضها بل ومصر كلها. ودعونا في البدأ نذكر الأحداث العامة التي وقعت في المحافظة، والتي وصفها شيخ المؤرخين "عبد الرحمن الرافعي" بأنها أشد حوادث الثورة عنفاً في مصر كلها؛ ثم نعود لسجلات هؤلاء الأبطال.
***
ثورة 1919م وامتداداتها:
حينما اندلعت ثور مارس 1919م في كل ربوع مصر المحروسة، والتي قادها المناضل سعد باشا زغلول في مواجهة الاحتلال الإنجليزي الغاشم، كانت أهدافها المطالبة بالإستقلال وبرحيل الإنجليز عن مصر ورفع الحماية ونقل السلطة لمجلس شعب منتخب. وما إن اشتعلت نيران ثورة 1919م وخرج الأهالي في كل ربوع مصر، لمواجهة الاحتلال، والمطالبة باستقلال البلاد والإفراج عن زعيمها وعودته رفاقه من المنفى، حتى جن جنون الإنجليز، ليخرجوا إلى الشوارع ويلقوا القبض على من تقع عليه أنظارهم، ويشعلوا النيران في المنازل، لكن الشعب وكعادته التي لن يتخلى عنها واجه هذا الظلم والاستبداد بكل قوة وشجاعة. وطبقا للروايات ولمؤرخي هذه الفترة تمركزت اشد الثورات عنفا في أربعة بلدان في أقاليم مصر هي: دير مواس بالمنيا، والشوبك بالجيزة، وفارسكور بدمياط، وزفتى بالغربية، تلك البلدان قادت التمرد الذي اقلق الجيش الإنجليزي، بل أعلنت استقلالها عن التاج المصري.
دير مواس والشرارة الأولى:
ونتيجة هذه الثورة العظيمة لم يقف أهالي المنيا الشرفاء موقف المتخاذل بل شاركوا أخوانهم الثوار في باقي أنحاء مصر. بدأت شرارة الثورة بالمنيا من مركز دير مواس الباسل "بلد الدم والعسل" (قرية دير مواس آئنذاك، التابعة لمركز ديروط مديرية أسيوط)، حيث توجه أهالي دير مواس الشرفاء صبيحة يوم 18 مارس 1919م إلى محطة سك الحديد ليلتقوا مع البطل الذى لم يذكر التاريخ اسمه كثيرا (بما يستحق) وهو الدكتور خليل أبوزيد وقاموا بقطع خط السكة الحديد أمام قطار الجيش الإنجليزي المتجه إلى القاهرة، والذى كان من بين ركابة ثمانية جنود إنجليز(والذين اُجبروا على التخفي في ملابس سيدات)؛ ومعهم القائمقام (بوب) مفتش السجون الإنجليزية بالوجه القبلي. وقام الثوار بالهجوم على القطار وقتل جميع الجنود الإنجليز بداخلة بما يمثل ضربة قاصمة للجيش الإنجليزي والإمبراطورية البريطانية، ونتيجة ذلك تم معاقبة الأهالي وإعدام عدد 34 من الثوار من بينهم البطل الدكتور خليل أبوزيد قائد الثورة وتم حبس 20 أخرين وتوقيع غرامات مشددة عليهم.
وفى مركز ملوي شمال مركز دير مواس تجمع الأهالي بسرية وقطعوا خط السكة الحديد على قطار الإنجليز العائد من دير مواس وعلى متنه جثث الجنود الإنجليز والذين قتلوا في دير مواس وقاموا بسحب جثة القائمقام (بوب) مفتش السجون الإنجليزية وطافوا بها أنحاء المدينة تعبيرا منهم عن انضمامهم للثورة بمديرية المنيا واستمرار المقاومة وانتقلت شرارة الثورة إلى باقي المراكز الشمالية.
ففي مركز أبو قرقاص ثار الأهالي على الإنجليز بقيادة البطل "أحمد محمد أنيس" ناظر المدرسة الابتدائية فقام الإنجليز بالقبض على الثوار وتعذيبهم وتغريمهم مبالغ طائلة وسجن البعض منهم.
تفجرت مظاهرات عارمة في مدينة المنيا قلب المحافظة يوم 10 مارس 1919م وانقطعت أخبار القاهرة والمواصلات والصحف واستمرت المظاهرات تطوف شوارع مدينة المنيا. لتتجدد وتشتد المظاهرات في مدينة المنيا بعد أحداث دير مواس. حيث تجمع الأهالي في ميدان "بالاس" بقيادة الشيخ الدكتور محمود عبد الرازق، وعقدوا مؤتمرا جماهيريا حاشدا واعتصاما ضد الاحتلال الإنجليزي. بل تعالت الأصوات المطالبة باستقلال المدن، وكان من بين هذه الأصوات الشيخ "أحمد حتاتة" المحامي الشرعي، الذي أعلن استقلال المنيا بضواحيها، وأقام لنفسه إمبراطورية، كان جيشها من الخفراء وبعض المتطوعين من الشباب والشيوخ، وشرع في تشكيل حكومة لتيسير شئون المحافظة أو (الإمبراطورية كما سماها حينها)، وتألفت لجنة وطنية للمحافظة على النظام وأرواح الأجانب؛ وأنشأت لها فروع في المراكز والقري. تشكلت اللجنة من نحو خمسة وعشرين عضوا من أعيان المدينة والمديرية. فقام الجيش الإنجليزي بعملية أنزال بحري من سفنه الراسية على النيل أمام مدينة المنيا وقاموا بمهاجمة الثوار والمحتشدين وتم القبض على معظم قيادات الثوار والزج بهم في السجون بناءا على محاكمات صورية وزائفة.
وفى مركز مطاي قام الثوار وحذوا حذو إخوانهم الثوار في دير مواس وتوجهوا إلى خط السكة الحديد وقاموا بقطع الخط عن القطارات الخاصة بالجيش الإنجليزي لمنع وصول الجيش الإنجليزي إلى المدن الثائرة، حيث تم قطع خطوط السكك الحديدية أمام جميع قرى مطاي ومدينة مطاي رغم الإنذارات المتعددة من الجيش الإنجليزي بأحراق قرى ومدينة مطاي إذا تم قطع السكة الحديد وهو مالم يلتفت إليه الثوار. وقاموا بتدمير خط السكة الحديد، كما قام بعض الثوار في مطاي بتوزيع المنشورات على المواطنين للمشاركة في الثورة والتمرد على الاحتلال الإنجليز.
***
ولتلقط بنى مزار شرارة الثورة وقام ثوارها بمهاجمة بواخر الجيش الإنجليزي، حيث توجه الثوار والأهالي إلى النيل في مثيرات حاشدة وقاموا بمهاجمة باخرتين للجيش الإنجليزي كان بهم جنود إنجليز قادمين من القاهرة لإخماد الثورة في المنيا. فأوقعوا بها إصابات متعددة وذكر التاريخ إن مأمور المركز وهو شخصية وطنية رفض التعرض للثوار وترك الفرصة لهم في القيام بمهاجمة الإنجليز. وفى مغاغة أقصى شمال المحافظة قام المواطنون الشرفاء بالثورة على الإنجليز بالمدينة واعتصموا بها وكانت قيادة الثورة للقاضي الشرعي لمركز مغاغة كما شارك في الثورة مواطنين أجانب اعتراضا على تصرفات الإنجليز الوحشية ضد مواطني المنيا ورفضة الجلاء عن مصر ومنحها حق تقرير المصير.
***
من هو زعيم الثورة:
بقي إن نروي قصة زعيم ومفجر تلك الثورة في تلك البلدة "دير مواس" وهو الشاب الدكتور خليل أبو زيد علي محمود حسن سالم الذي عاد للتو من إنجلترا وقد كان يدرس هناك الدكتوراة في علوم الزراعة. ولهذا الموضوع قصة طريفة كان خلفها والدة العمدة الحاج أبوزيد على محمود حسن سالم (من قبيلة السوالم، التي هاجرت إلى مصر من الجزيرة العربية إبان حكم محمد على باشا). وهو كبير أعيان دير مواس ومؤسس عائلة أبوزيد (وأبناءه 7 ذكور وهم الدكتور خليل مفجر الثورة، واللواء مفضل والحاج عبد المالك والعمدة محمد ومهني وأنور وراغب، و6 من البنات)، هذا الرجل الوطني كان رجلا بسيطا وأميا لكنه كان معروفا بذكائه الفطري، ويؤخذ عليه أنه كان يورث أبناءه الذكور دون البنات، وهو التقليد الذى كان يسود معظم عائلات الريف آنذاك. أراد أبوزيد أن يتسلح ابنه ونظرائه بالعلم والمعرفة لطرد المحتل وتحرير البلاد وتمتعها بحريتها وتقدمها.
***
ولد الابن خليل عام 1890 ميلادية في قصر والده المنيف بقرية دير مواس حيث تلقى علومه الأساسية هناك، وحين أتى العام 1910م قرر العمدة أبو زيد عمدة دير مواس أن يرسل إبنه خليل ليدرس الزراعة في بلاد الإنجليز. لقد اتفق هو والشيخ عبد الرازق من كبار أعيان قرية أبو جورج بالبهنسا (مركز بنى مزار حاليا) على ذلك. هو يرسل ابنه خليل لإنجلترا ليدرس الزراعة ويتعرف على ثقافة (المحتل) لعله يأتي ويشارك في جلاءهم عن البلاد، وبعدها حين يأخذ الشيخ علي عبد الرازق شهادة العالمية من الأزهر، في خلال عام على الأكثر، يرسله والده الشيخ عبد الرازق ليلتقي مع خليل أبو زيد في إنجلترا لدراسة الاقتصاد.
كان رأي الأعيان والعمد في الصعيد أن أعظم سلاح للوطنية والحرية هو سلاح العلم، وغداً سيكون الدكتور خليل أبو زيد والشيخ علي عبد الرازق من أهم الشخصيات في مصر متسلحين بالعلم والمعرفة والوطنية لبناء هذا الوطن الكريم. لن نقف مكتوفي الأيدي أمام الاحتلال، لن نقف مكتوفي الأيدي أمام تقدم الوطن وإعلاء شأنه، وسافر خليل إلى إنجلترا في صيف عام 1910 م (وعمره 20 عاما)، على نفس المركب التي تحمل الطالب أحمد محمد أحمد حسانين باشا ذاهبة بهما لجامعة أوكسفورد حيث سيدرس خليل الزراعة.
قامت الحرب العالمية الأولى في 28 يوليو من عام 1914م قبل أن ينهي خليل أبو زيد دراسته بعام واحد أو ربما بعامين، أنقطعت كل سبل السفر عبر البحر من وإلى مصر وإنجلترا، فقضى خليل أبو زيد كل سنوات الحرب في إنجلترا قبل أن يعود لمصر في أواخر عام 1918م.
<!--<!--<!--<!--<!-- |
الشهيد الدكتور خليل أبوزيد قائد ثورة دير مواس ضد الاحتلال الإنجليزي في 18 ماس 1919م. |
ويذكر أحمد جمال راغب، حفيد شقيق الدكتور خليل أبو زيد، أن الدكتور خليل كان وفدي التوجه لكونه أحد تلاميذ الزعيم سعد زغلول، تلقى تعليمه في بريطانيا في كلية الزراعة بجامعة "إسكفورد"، وحصل على الدكتوراة، وأمضى 8 سنوات في بريطانيا، شاهد حرية حقيقية هناك، ولما عاد ووجد ظلما شديدا في مصر لم يقبل بالوضع.
لم يكد يمضي على وصول الدكتور خليل أبو زيد إلى مصر سوى شهرين تقريبا، حينها أعتقل الإنجليز في 8 مارس 1919م سعد زغلول ومرافقيه أحمد باشا الباسل ومحمد باشا محمود وإسماعيل صدقي وسينوت حنا ومكرم عبيد وفتح الله بركات وعاطف بركات وإرسالهم للمنفى. ثار الشعب المصري كله من شمال مصر لجنوبها ليس تضامناً مع سعد زغلول وأصحابه بقدر إحساسهم بأن سعد زغلول هو رمز للمصريين جميعاً في رغبتهم للتحرر. وعليه كان سكان الصعيد وأهالي دير مواس على وجه الخصوص في طليعة هؤلاء الثوار الرافضين للإنجليز والغاضبين لاعتقال سعد باشا ومن معه؛ وهو الأمر الذي أشعل جذوة الحماسة عند خليل أبو زيد علي محمود حسن سالم وابن عمه عبد الرحمن حسن علي محمود حسن سالم بل وعائلتهما وأهل بلدهما جميعاً.
***
وكان قصر العمدة " أبو زيد بك علي" في دير مواس بمثابة مركز سياسي لتوعية الناس وتأييداً لسعد زغلول ورفاقه، بل أن أبنه الدكتور "خليل أبو زيد" جعل من قصر أبيه وكأنه برلماناً شعبياً ومركزاً ثورياً خطيراً لمبايعة سعد زغلول ورفاقه. غير أن حادثة القبض على سعد زغلول ونفيه هو ورفاقه، أججت مشاعره ومشاعر رفاقه وأهالي دير مواس، مما دفعه للتحرك والقيام بأحداث قطع خطوط السكك الحديدية وإيقاف قطار الإنجليز فيما بعد، ولم يكن ينتوي قتلهم، ولكن لما أخرجوا أسلحتهم وهددوا الأهالي ولم يبالوا بحشود الآلاف كان مصيرهم القتل. ولهذا قصة نرى أن تروى تفاصيلها بدقة.
<!--<!-- |
سراية عمدة دير مواس (بيت الثورة) الحاج أبو زيد على محمود حسن سالم، والد قائد الثورة الدكتور خليل أبو زيد، حيث كانت تتم الاستعدادات لثورة دير مواس 18 مارس 1919م |
***
خليل يقود الثورة "البداية":
عاد خليل وهو مفعم بأفكار الحرية والمساواة وضرورة مكافحة المستعمر، وأراد إن ينقل أفكاره لأهله ويبث فيهم الشعور بالوطنية ودفعهم لنشد التحرر. فبدأ يدير جلسات وطنية مهمة في سرايا والده العمدة كل يوم بعد صلاة العشاء حول مقاومة الإنجليز وضرورة عودة سعد زغلول، رغم أنه لم يزل عائداً من إنجلترا حديثاً. لكن ظروف البلد وغضب الناس ووحشية الإنجليز واعتقال سعد دفعته لأن يعقد تلك الندوات الوطنية في دارة. وقد أهلته الدرجة العلمية (دكتوراة في علوم الزراعة) التي حصل عليها من إنجلترا في وقت مبكر جدا من تاريخ مصر الحديث، أن يتولى منصبا مرموقا في الحكومة المصرية كما رشحته غالبية الجهات؛ لكن وطنيته دفعته أن يرفض قبول العمل كمدير زراعة في أسيوط في ظل الطاغية (كوكسن باشا) مفتش الري الإنجليزي الذي تتبعه كل الترع والقنوات، هذا الفاجر السكير الذي لا يفيق من غيبوبة سكره إلا حين يشتكي الباشوات من سرقة الفلاحين لمياه الري، وحينها يلحق (كوكسن) بالفلاحين الخراب ويقطع عنهم المياه.
كان (كوكسن) رمزاً للاحتلال الإنجليزي البغيض بكل سلطويته وديكتاتوريته، لذا لن يقبل خليل أبو زيد وظيفة مدير زراعة حتى يرحل (كوكسن) هذ. بل لن يقبل الوظيفة حتى تنجلي غمة الاحتلال. لكن المدهش أن خليل أبو زيد لم يكن في ضميره ولا بأخلاقياته يعلم أن كلماته التي يقولها بحماسة للأعيان والفلاحين في (سهراته) ضد الإنجليز والاحتلال الإنجليزي يمكنها أن تدفع (نور المراكبي) لجريمة قتل. نور المراكبي الذي عانى من ظلم (كوكسن)، قرر أن يقتله وحين مرت مركبه بجوار الكوبري أطلق عليه عيار خرطوش من البندقية الإنجليزي الذي سرقها من أحد الجنود الأستراليين فقتله.
صارت الإشاعات في مديرية أسيوط والمنيا بأن موت (كوكسن) جاء بعد رجوع الدكتور خليل أبو زيد من إنجلترا كرسالة من الفلاحين للإنجليز بأننا تخلصنا من مفتش الري الإنجليزي ونريد خليل أبو زيد (المصري) بدلاً عنه. وهو الأمر الذي أثار حفيظة بعض الباشوات الذين يعملون لصالح الإنجليز (نادى الأعيان) في أن يقوم بالإبلاغ عن أن المحرض على قتل كوكسن هو خليل أبو زيد نفسه. وعليه جاءت بناء على هذا البلاغ حملة كبيرة من رجال الشرطة وعساكر الهجانة (السودانية) بحثاً عن قاتل كوكسن، وظلت أكثر من ثلاثة أيام تحقق مع عائلة أبوزيد فيما نسبته إليهم أقوال الباشا بشأن التحريض على قتل كوكسن. ولكنهم لم يجدوا دليلاً مادياً واحداً ضد خليل أبو زيد ولم يستطيعوا الحصول على أي معلومة فرحلوا. بينما الباشا – عميل الإنجليز – أضمرها في صدره وتوعد بالثأر للباشا (كوكسن) من عائلة أبو زيد جميعاً.
***
ويذكر أحد أحفاد زعماء الثوار، الحاج بهجت أنور أبو زيد، نجل شقيق الدكتور خليل أبو زيد مفجر الثورة في دير مواس بالمنيا حيث قال: إن الثورة بدأت في دير مواس بعد عدة اجتماعات داخل منزل العمدة أبو زيد (ومن المعروف أن عائلة أبوزيد كانت من أعيان مركز دير مواس ويمتلكون أبعديات ومئات الأفدنة الزراعية وكان هو عمدة القرية وله مكانة كبيرة بالبلدة، حيث كان يمتلك 560 فدانا، خصص منها 29 فدانا في عزبة «أبو زيد»، آخر شارع الجيش بدير مواس، للإنفاق على مضيفة العائلة الملحقة بالدور الأول بقصر العائلة، وكانت تستقبل أهل البلد والغرباء).
واتجهت أنظار الأهالي إلى ابنهم المثقف والثوري والقادم من بلاد الإنجليز أن يتولى الدفاع عنهم وتبنى آرائهم، حيث كلفوه وقتها بالتفاوض مع الإنجليز للإفراج عن الزعيم سعد باشا زغلول، لما عرف عن دكتور خليل طلاقته في التحدث بالإنجليزية وطلبوا منه مقابلة المندوب السامي البريطاني في مصر لطلب العفو منه في عودة سعد ورفاقه.
***
شهادة من شيخ المؤرخين المصريين عن ثورة دير مواس:
عن واقعة دير مواس يقول شيخ المؤرخين المصريين عبد الرحمن الرافعي (1889 -1966م، هو مؤرخ مصري، عني بدراسة أدوار الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث):" لم يحدث في تاريخ الإمبراطورية البريطانية التي لم تغب عنها الشمس أن تصدى مدنيون لعسكريين كما حدث في قرية دير مواس في 18 مارس سنة 1919م ". فالبداية كانت قبل ثورة 1919 م أربعون يوما حيث عاد الدكتور خليل أبو زيد من لندن إلي دير مواس بعد حصوله على درجة الدكتوراة. كانت مصر مستعمرة بريطانية وقتها، وكانت بريطانيا تستولى على كل شيء حتى «الحمير والجمال» لصالح ما يسمى بالمجهود الحربي للحرب العالمية الأولى. فلما عاد خليل ورأى ذلك، بدأ يجتمع بشباب دير مواس ويشغلهم بالقضية الوطنية وبالحرية ويوعيهم بعواقب الاستعمار، وكان يجتمع مع كل الأسر والعائلات، لأن «دير مواس» في ذلك الوقت كانت قرية متداخلة وترتبط عائلاتها بصلات نسب ومصاهرة مع بعضها، والاجتماعات كانت تتم في قصر «أبوزيد».
***
التخطيط للثورة وتوالى الأحداث:
وبذا اتفق ثوار الصعيد على توحيد جهودهم وتلاقت وجهة نظر جرجس حنا المحامي (من أشهر المحامين في بندر أسيوط، وكان ثورياً وطنياً وكان خطيباً بليغاً، لا يخطب في الناس إلا ويلهب حماستهم)، تتفق مع وجهة نظر خليل أبو زيد في أن تتضافر كل القوى الوطنية في الصعيد، وهو ما دفعة جرجس لقبول دعوة خليل لزيارته في دير مواس. كان رأي الدكتور خليل أبو زيد أن يسافر هو وجرجس حنا المحامي وابن عمه عبد الرحمن للقاهرة مع مجموعة من وجهاء الصعيد وأعيانه لدعم الثورة بالقاهرة ولقاء المندوب السامي الإنجليزي في عقر داره، والمطالبة بعودة سعد باشا لمصر؛ وكذلك سحب العساكر (الهندوس) الذين جلبتهم إنجلترا من معسكراتها في الهند والسودان بعدما عاثوا في مدن وقرى الصعيد فساداً، ووصل بهم الأمر لتحويل قرى بأكملها إلى أكوام تراب واغتصاب النساء فيها بدافع قمع الثورة.
هنا تبدأ حكاية وطن، حيث اتفق الجميع خليل أبو زيد ومن معه أن يلتقوا بأعيان بندر منفلوط للاجتماع التحضيري الذي سيتم إجراؤه في بندر ديروط قبل السفر للقاهرة ولقاء المندوب السامي البريطاني. كان اجتماع ديروط هو الأهم حيث سيلتقي فيه كل عمد ومشايخ وأعيان وعرب منفلوط وديروط ودير مواس وملوي وأبو قرقاص، كانت أهمية ذلك الاجتماع تكمن في أن يتفق فيه الجميع على ورقة العمل التي سيتحاورون فيها مع المندوب السامي بالقاهرة.
على الجانب الآخر كانت هناك ثورة مضادة، حيث أكدت الوثائق أن هناك عدداً من الأعيان كانوا على تواصل مع الإنجليز عام 1919م، وحاولوا تأسيس ما يُسمى بـ «نادى الأعيان»، بهدف منازعة «الوفد» فى حق تمثيل المصريين، ومن بين هؤلاء الأعيان الذين وصفتهم الوثائق بـ«الخونة»: الشريعي باشا وكامل جلال ومصطفى ماهر وتوفيق شهاب الدين ومحمد هلال (طبقا لمقال للدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع السابق – جريدة الوطن عدد السبت 06-09-2014).
***
قطار الثورة ينطلق من منفلوط إلى دير مواس:
وبدأت الاجتماعات تدور لتوحيد الصفوف وبث روح الثورة، ووصل خليل أبو زيد ورفاقه إلى منفلوط، ووصلت للباشا – عميل الإنجليز - بأن إجتماع شعبي في منفلوط ليلاً قد أثار حماسة الناس لدرجة أن الفلاحين صرخوا بالهتاف معلنين السفر لبندر ديروط لحضور الاجتماع الوطني مع أعيان الصعيد ضد الإنجليز. فرأى الباشا أنه لا حل سوى تعطيل القطار الذاهب لديروط. وفي يوم الرجوع من منفلوط صباحاً لديروط خطب خليل أبو زيد في الناس أمام محطة قطار منفلوط فأثار حماستهم وغيرتهم الوطنية وألهبها، ثم خطب من بعده جرجس حنا المحامي ثم خطب عين أعيان منفلوط ومن بعده خطب عمدة ملوي ثم عبد الرحمن حسن ، كل منهم كان يخطب في جماعة وفي نفر من الناس، كان صياح الناس يملأ الأجواء، عشرات الآلاف احتشدوا أمام محطة قطار منفلوط. ثم دخل خليل أبو زيد بصحبة الأعيان لمحطة القطار متوجهين لرصيف المحطة ليستقلوا القطار، ووسط الزحام الشديد كأنه يوم الحشر، أعلن مستر (فورد) ناظر المحطة (الإنجليزي) بتعطل القطار المتجه لديروط.
قرر خليل أبو زيد ومن معه أن ينتظروا قطار الإكسبريس القادم من الأقصر ليستقلونه إلى ديروط، لابد أن يتم اجتماع ديروط مهما كلف الأمر. كان عليهم الانتظار لأكثر من ثلاث ساعات داخل المحطة، الأمر الذي جعل الخبر يتطاير كشظايا النار بين البيوت لتهب الناس من القرى والنجوع المجاورة بالمئات متوجهين لمحطة القطار تأييداً ودعماً لخليل أبو زيد ورجالة، احتشدت الناس وتوافدت حتى أصبح ميدان محطة منفلوط والمحطة نفسها ليسا فيهما موضعاً لقدم.
ظل خليل أبو زيد وابن عمه عبد الرحمن وجرجس حنا المحامي وعمدة منفلوط يخطبون في الناس حتى جاء قطار الإكسبريس في الساعة العاشرة، زحفت الناس بالمئات نحو عربات القطار لتستقله على أمل حضور اجتماع ديروط، حتى أن سطح القطار لم يكن فيه شبراً واحداً ليجلس فيه رجل في حجم طفل. دخل خليل أبو زيد ومن معه القطار بصعوبة بالغة حتى أنهم هرعوا لعربة الطعام في القطار على أمل أن يجدوا فيها موضع قدم لهم حتى يصلوا ديروط، دخلوا عربة الطعام وكان آخرهم عمدة ملوي الذي أغلق باب العربة منعاً لزحف المتحمسين من الأهالي، وحينما استداروا داخل العربة وجدوا مالم يكن في حسبانهم على الإطلاق.
***
بداية الثورة والعنف:
كان هناك ثمانية من الضباط الإنجليز في عربة الطعام يشهرون أسلحتهم في وجه خليل أبو زيد ومن معه وينظرون للموقف بأكمله بعين التوجس والريبة، شاحبي الوجوه وقد جزوا على نواجذهم وفي وضع الاستعداد لإطلاق الرصاص.
تحدث خليل أبو زيد للضباط الإنجليز بأن لا يخافوا، فهم لم يستقلوا القطار ليقتلوهم، وبين المسافة من منفلوط وحتى ديروط تحدث معهم خليل أبو زيد كما كان يتحدث مع زملاءه الإنجليز في جامعة أوكسفورد عن ضرورة إنهاء الاحتلال فوراً والأفراج عن سعد زغلول ورفاقه، بل وتحاور معهم عن حق مصر في أن تصبح جمهورية أو مملكة مستقلة تتمتع بما تتمتع به البلاد الحرة. وقد عانت إنجلترا في الحرب العظمى من فكرة استلاب حريتها ولكن بكفاحها وكفاح الشعب الإنجليزي أحرزوا الانتصار واستعادة حريتهم، لسنا أقل من الإنجليز.
لم يعجب هذا الكلام الكولونيل (بوب) وأخذ يتحدث باستعلاء وغطرسة مع خليل أبو زيد، هنا كان القطار قد وصل لمحطة ديروط وقد ملأ الغضب قلوب المصريين الجالسين في نفس العربة مع الإنجليز، حتى خليل أبو زيد نفسه كان غاضباً غضباً شديداً من (بوب) الضابط الإنجليزي رئيس مصلحة سجون الوجه القبلي.
كانت الجموع البشرية في محطة ديروط لا تقل زحاماً عن منفلوط في استقبال خليل أبو زيد ومن معه من أعيان الصعيد باللافتات والأعلام والهتاف لمصر وحين نزل خليل أبو زيد وأعيان الصعيد من القطار أخذتهم الناس بالأحضان. بينما أعلنت صافرة المحطة بمغادرة قطار الإكسبريس محطة ديروط متوجهاً للقاهرة. وهنا قفز جرجس حنا مخاطباً في الناس بأن لا يدعوا القطار يرحل، ثم نظر لخليل أبو زيد بينما ذهب (عرفة الأشول) وكان فلاح بسيط ممن آمنوا بأفكار خليل أبو زيد عن الحرية والاستقلال إلى غرفة قيادة القطار وسحب السائق الإنجليزي ومساعدة بالقوة خارج مقصورة القيادة.
<!--<!-- كانت الناس تنظر لخليل أبو زيد وهو يخطب في الناس بأن المصريين سيحصلون على حريتهم رغم أنف الإنجليز، سيحصلون على الحرية رغم أنف ملكة الإنجليز ذاتها. في هذه اللحظة صاح عبد الرحمن حسن على محمود سالم من شدة الغضب ومن شدة ما رآه من استعلاء كولونيل (بوب) بعربة الطعام في الجموع المحتشدة أثناء خطاب خليل أبو زيد "بأن المصريين يهتفون منذ زمن ولكن بلا أفعال ثورية حقيقية على أرض الواقع، يا أهل مصر عليكم أن تفعلوا اليوم ما كان يجب عليكم فعله منذ زمن، فها هو القطار يجلس فيه قائد إنجليزي سليط اللسان لا يريد لمصر خيراً.
<!--صورة الشهيد عبد الرحمن حسن علي محمود سالم ابن عم قائد الثورة الحقيقي الشهيد الدكتور خليل أبو زيد
وقبل أن يكمل عبد الرحمن حديثه للجموع المحتشدة من حوله، ونظراً لإيمان الناس بهؤلاء الرجال الذين رأوا فيهم رمزاً ونوراً للحرية والاستقلال، هب الناس مندفعين صائحين لعربة الطعام بالقطار محاولين الفتك بالضباط الإنجليز. في هذه اللحظة كان (عرفة) أول من ترك مكانه قرب عربة القيادة مهرولا لعربة الطعام للثأر من الضباط الإنجليز. كان الفلاحون يهرولون في كل مكان محاولون الفتك بالضباط الإنجليز. كانوا فوق رصيف المحطة وعلى قضبان السكة الحديد، وفوق القطار وتحت القطار. وهنا قفز السائق الإنجليزي إلى غرفة قيادة القطار وتحرك بالقطار في طريق ذهابه للقاهرة، فدهس العشرات وتمزقت أجساد العشرات من الفلاحين تحت عجلاته. والمدهش أن في تطاير الأشلاء وبحار الدم التي مازال (يفرمها) القطار (فرماً) لم تنهزم عزيمة المصريين من الصعود للقطار والفتك بالضباط الإنجليز الذين لم تنفعهم أسلحتهم.
وفى محطة سكك حديد دير مواس، عندما سمعت الجماهير بقدوم قطار به (بوب) وجنود إنجليز متغطرسين، تم مهاجمتهم في محطة ديروط السابقة، فزحفت الحشود في انتظار القطار. وأتت حشود قوامها 4 آلاف متظاهر عازمة على قطع خطوط السكك الحديدية أمام قطار الجيش الإنجليزي، وهاجموا القطار، واستكملوا قتل الضباط والجنود الإنجليز، وهم “ المارجور جارفر ” والملازم “وللسي” و5 جنود آخرين، فيما انتحر مفتش السجون القائم مقام “بوب”، داخل مفحمة القطار، هربا من الموت بالعصي، بعدما رفض إرتداء ملابس السيدات كجنوده وضباطه. وبذا بوصل القطار لمحطة دير مواس كانت جموع الغاضبين قد قتلت كل الضباط الإنجليز ومزقتهم تمزيقاً عنيفاً. وتوقف القطار في دير مواس واستطاع الأهالي منع تقدمه إلى الشمال بعدما سحبوا أسطوانة التشغيل، وأخذوا يخطفون جثث الضباط والجنود من شبابيك القطار ومن بينها جثة (بوب) الضابط الإنجليزي وألقوها على الأرض، وأخذوا يهتفون: تحيا مصر، يحيا سعد، يسقط الإنجليز وكان ذلك في يوم 18 مارس 1919م.
الإستعداد لانتقام المحتل:
بعد تلك الأحداث العنيفة ومقتل رموز الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، توقع أبناء دير مواس قدوم الجيش الإنجليزي للإنتقام لقتلاهم ورد اعتبارهم أمام أهالي القرية بل ومصر كلها. وبالتالي حدث مشهد من مشاهد الوحدة الوطنية وكان تضامنا تلقائيا وحقيقيا بين المسلمين والمسيحيين، فقد نادت مآذن «دير مواس» على كل الأهالي بأن يجتمعوا في مسجد أولاد مح�
ساحة النقاش