مقدمة في التصور السياسى للحركة الاسلامية

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
وبعد..
فإن الحقيقة التي يجب أن نفهمها قبل طرح النظرية السياسية الإسلامية هي: أن الحركة الإسلامية هي وحدها القادرة على تكوين نظرية سياسية صحيحة.
ذلك لأن للنظرية السياسية شروطًا علمية، وهي تكوين النظرية مع بداية مرحلة إنشاء الأمة([1])«الدعوة»، ومن خلال المضمون الحضاري لهذه الأمة دون انقطاع للوجود التاريخي لها([2]).
والأمة الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تكونت نظريتها السياسية من خلال منهجها مع بداية نشأتها حتى تمام تلك النشأة.
والأمة الإسلامية.. هي الأمة التي لم ينقطع وجودها التاريخي لحظة واحدة على هذه الأرض.
والأمة الإسلامية.. هي الأمة ذات المضمون الحضاري المطلق.. وهو الحق.
والآن -ورغم ذلك- فإن المستقر في الأذهان أن الدعوة الإسلامية لا تملك تصورا سياسيًّا.. وقد جاء هذا الادعاء في الابتداء كأسلوب خطير من أساليب التنقص الجاهلي للدعوة.. ولكن الادعاء استقر في الأذهان في الانتهاء؛ لأن الدعوة لم تعلن عن تصورها السياسي بعد.
ولم يستطع هؤلاء الذين استقر في أذهانهم هذا الادعاء التفريق بين عدم وجود نظرية سياسية، وبين وجود نظرية سياسية لم تطرح بعد.
ويبقى السؤال: لماذا لم تطرح الحركة الإسلامية -في الواقع القائم- تصورها السياسي حتى الآن؟
والإجابة: إن طرح التصور السياسي للحركة هو ذاته عمل سياسي يجب أن ينضبط بأحكام النظرية السياسية ذاتها، ومن أهم أحكام هذه النظرية.. العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة، وتصبح القاعدة في طرح التصور السياسي للحركة هي أن تبلغ الحركة مرحلة القوة السياسية..
فهل بلغت الحركة الإسلامية هذه المرحلة؟
نبدأ بمناقشة هذا التساؤل، وأول حقائق هذه المناقشة: أن القوة السياسية تعرف بشواهدها، ومواقع الدعوة المنتشرة في العالم المستضعفة أمام الحكومات الجاهلية.. تتراوح بين الوصول إلى مرحلة القوة السياسية التي تنطبق عليها هذه الشواهد، وبين مرحلة الاستضعاف الأولى، التي يعبر عنها بالمرحلة الفردية، مرورا ببعض المواقع التي ينطبق فيها بعض هذه الشواهد دون غيرها.
ووصول واقع الدعوة إلى مرحلة القوة السياسية -والتي تتوافر فيها جميع هذه الشواهد- يقتضي أن يطرح أصحاب هذا الواقع تصورهم السياسي.. ويصيروا ملزمين بالدخول في مرحلة الممارسة السياسية لدعوتهم..
أما الشواهد العامة للقوة السياسية فأهمها: أن أعداء الدعوة يفكرون بمنطق التعامل مع أصحابها لا منطق القضاء عليها، وهذا هو الشاهد الأول؛ لأن نشأة القوة السياسية تأتي من خلال نظرة أعدائها لها وأسلوب التعامل معها.
وأن تكون قضية أصحاب القوة السياسية مؤيدة على مستوى الرأي العام اجتماعيًّا وفكريًّا، وأن يكون التعاطف مع أصحابها ثابتًا ومؤكدًا.
ويلاحظ في هذا الشاهد ألا يحسب فقط من خلال التأييد والتعاطف القائم، بل يشمل مدى قابلية غير المؤيدين لأن يكونوا مؤيدين.
وأن يمثل المعتنقون لقضية القوة السياسية كثرة عددية تبلغ مستوى القاعدة الجماهيرية، بحيث يصل مستوى تلك القاعدة إلى أنها تكاد تمثل موقف «الشعب» أو الأمة.
وأن تمثل هذه الكثرة نماذج متعددة من جميع المستوىات الاجتماعية بحيث لا يمكن تقييدها بمستوى اجتماعي معين أو فئة اجتماعية، ويشمل هذا الشاهد وجود عناصر اجتماعية متميزة من كل مجالات المجتمع.
وأن تحقق الكثرة العددية بعناصرها المختلفة اختراقًا واضحًا لمجال ومستوى السلطة القائمة([3]).
وأن تملك هذه القوة دائما رد الفعل المناسب إذا حاول أعداؤها التأثير في قوتها أو إضعافها؛ بحيث يتطلب رد الفعل المطلوب الإمكانيات المادية اللازمة والاستعداد للبذل والتضحية بصفة دائمة ويقظة([4]).
وأن يؤكد حجم القوة السياسية في الواقع: المفاوضات والمعاهدات والاتفاقات السرية والعلنية بين القوة السياسية وأعدائها أصحاب السلطة.
فإذا بلغ موقع من مواقع الدعوة مرحلة القوة السياسية بشواهدها المذكورة فإن على أصحاب هذا الموقع بدء الممارسة السياسية؛ ابتداء من طرح التصور السياسي لهم والمنطلق من واقعهم القائم ومرحلتهم العملية.
ومن هنا فإن الممارسة السياسية الجاهلية في مواجهتها للدعوة تقوم على منع الدعوة من تحقيق أيٍّ من هذه العناصر:
فترفض التعامل مع أصحاب الدعوة كطرف له وجوده وتأثيره..
وتسعى إلى منع الدعوة من الوصول بقضيتها إلى الرأي العام والتأثير فيه..
وفي هذا الصدد تحاول الجاهلية تشويه صورة أصحاب الدعوة إذا عجزت عن محاربة قضيتها..
وتسعى إلى منع وصول قضية الدعوة إلى المستوىات الاجتماعية القريبة من أصحاب السلطة والقرار السياسي..
أو وصول أصحاب الدعوة أنفسهم إلى هذه المستوىات بتضييق فرص هذا الوصول، سواء من الناحية المادية أو الأدبية..
كما تحيط الحكومات الجاهلية مواقع قوتها بسياج يحميها من أي اختراق،ابتداءً من دقة اختيار العناصر المرشحة للدخول في هذه المواقع، حتى لا يدخلها أي عنصر يُتوسم فيه الخير أو حتى مجرد الاستعداد أو القابلية.
كما تسعى إلى وصف أصحاب الدعوة بالقلة غير المؤثرة، والتأكيد دائما على سلامة «القاعدة» ورفض «الجماهير» ووقوف «الشعب» وراء «قياداته الحكيمة»..!!
وفي حال اضطرار الحكومات الجاهلية المعادية للدعوة إلى عقد أي اتفاق مع أصحابها فإن ذلك يكون في سرية تامة؛ حرصًا على «مهابة» الدولة.
وإذا كان طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية عند وصولها إلى مرحلة القوة السياسية.. شرطًا أساسيًّا فإن هناك شروطًا أخرى تمثل في الحقيقة حماية «مهمة الطرح» من عدة أخطاء أساسية:
الخطأ الأول: طرح التصور السياسي للحركة من خلال النظريات السياسية غير الإسلامية ادعاءً للصفة العلمية للنظرية المطروحة.
وهذا الخطأ ناشئ عن الهزيمة النفسية أمام المناهج الجاهلية التي يزعمون لها الصفة العلمية والأكاديمية.
وناشئ أيضًا عن نزع الصفة العلمية عن التصور الإسلامي وقضاياه، حتى إن الجاهلية ترفض وبصورة حاسمة إدخال هذه القضايا في مجال البحوث العلمية([5]).
الخطأ الثاني: طرح التصور السياسي للحركة من خلال تجربة إسلامية تاريخية، مثل مرحلة الدولة الإسلامية التاريخية للأمة([6])، فيتكلم صاحب هذا الخطأ دائما في شكل الدولة الإسلامية في الماضي بكل مصطلحاتها ونمطها الشكلي، حتى أصبح التعامل مع هذه المصطلحات هو المعنى الأساسي للرجوع إلى الحكم الإسلامي دون المضمون الشرعي الصحيح للحكم.
وهذا الخطأ ناشئ عن الوقوف بالتصور الإسلامي عند مرحلة تاريخية دون الامتداد بهذا التصور إلى الواقع القائم.
الخطأ الثالث: طرح التصور السياسي للحركة من خلال البرنامج الإسلامي للإصلاح، والذي سيكون عندما تقوم الدولة الإسلامية.
إن تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية من خلال المنطلق السلفي.. وتحديد النظرية السياسية بالحق الشرعي والدين الخالص.. هو الرد المباشر على أصحاب الخطأ الأول.
وتحديد التصور السياسي العام للحركة الإسلامية -من خلال المرحلة التي تمر بها الدعوة فعلا في كل موقع من هذه المواقع- تحديدا دقيقا.. هو الرد على أصحاب الخطأ الثاني.
أما الخطأ الثالث.. فهو الذي يتطلب مناقشة مباشرة.
فالبرنامج خطة تفصيلية موقوتة، منبثقة عن تصور، ومحقَقة في واقع، فكيف يتحدد برنامج بغير واقع؟
إن الجاهلية تريد أن تُحَمِّل التصور الإسلامي كل مشاكلها؛ لذا كان لابد من تعريف للمشكلة التي يجب أن نواجهها بالتصور السياسي الإسلامي.
فالمشكلة الإسلامية هي المشكلة التي تقابل الفكر الإسلامي في طريقه إلى الواقع الإسلامي.
وأي مشكلة خارج هذا الإطار وهذا المسار هي مشكلة جاهلية، لا يعالجها إلا التفجير الإسلامي للواقع وترتيبه من جديد حسب التصور الصحيح.
والاستفزاز الجاهلي للحركة الإسلامية بأنها لا تملك برنامجا سياسيًّا أمرٌ لا يجب الاستجابة له.
نحن نملك التصور السياسي..
نحن نملك النظرية السياسية..
أما البرنامج السياسي.. فلابد لكي يُطرح أن نملك الواقع، وكل من يريد برنامجنا السياسي عليه أولا أن يعطينا الواقع ويسلم قيادته، وليكن شعارنا في الرد على أصحاب هذا الاستفزاز: «أعطني واقعك أعطك برنامجي».
قيمة الممارسة السياسية «تمهيد»:
ولأجل أن نبدأ تقييم الممارسة السياسية يجب أن نقارن بين طبيعة هذه الممارسة مع أساليب الحركة الإسلامية.
وقد اتفقنا أن الأساليب الأساسية للحركة الإسلامية هي: التبليغ بالكلمة، واستخدام القوة، وإقامة السلطة.. أما الهجرة والعزلة فهي تصرف اضطراري يتحتم عند اليأس من الاستجابة، والفرق بينهما: أن الهجرة تصرف اضطراري جماعي، والعزلة تصرف اضطراري فردي... ولا تخرج أساليب العمل عن هذا الإطار العام.

***
أما العلاقة بين هذه الأساليب.. فيثبت فيها أن استفاضة البلاغ وإقامة الحجة والدعوة بالكلمة هي الخط الأصلي للحركة، وأن خط القوة هو في الابتداء لإنشاء فرصة الدعوة بالكلمة عندما تمنع الجاهلية هذه الفرصة.. وفي الانتهاء لإقامة السلطة وإنشاء الدولة.
أما موقع الممارسة السياسية من هذا الإطار فهو:
أن الممارسة السياسية تحقق ضبط العلاقة بين أساليب الحركة ذاتها من ناحية وأساليب الحركة بالنسبة للواقع من ناحية أخرى.
فهي التي تفرض أسلوب التبليغ بالكلمة بعد تحليل الواقع وموضع الدعوة.
وهي التي تفرض أسلوب القوة عندما تُمنع الدعوة من فرصة الاتصال بالناس.
وهي التي تحلل آثار القوة في الواقع وتؤكد تلك الآثار لتحقيق غاية الحركة الأصلية، وهي إقامة دولة الدعوة والهداية.
إذًا فالممارسة السياسية ليست أسلوبًا قائمًا بذاته.. ولكنها الضابط لكل أساليب الحركة.. بحيث يتحقق الهدف الأساسي للدعوة من خلال أي أسلوب.
فهناك مثلا أسلوب الدعوة وأسلوب القوة.
وهناك السياسة الضابطة للعلاقة بين هذين الأسلوبين التي تضمن بها الدعوة الاتجاه بالأسلوب المناسب نحو تحقيق الهدف النهائي.
فقد تفرض الممارسة السياسية إيقاف أسلوب استخدام القوة وقد تحتمه، وفي كلا الافتراضين يكون تحقيق الهدف هو الأمر القائم المطلوب.
هذه هي قيمة الممارسة السياسية على مستوى أساليب الحركة.
أما قيمة الممارسة السياسية على مستوى الكيانات المتعددة في الواقع الواحد.. فإنها قيمة ضخمة وهي إدخال الكيانات المتعددة للدعوة ضمن إطار الحركة الواحدة.. دون علاقة حركية مباشرة بين هذه الكيانات باعتبار صعوبة تلك العلاقة منهجيًّا وحركيًّا، بل إن فرض التصور السياسي الصحيح للحركة هو الذي سيعطي لكل كيان بمنهجه الذي يتبناه مساحته الصحيحة في الواقع الحركي، ويصبح ضبط هذه المساحة وتلك العلاقة بالزيادة أو التحجيم مرتبطًا بهذا التصور وتلك الممارسة.
فقد ينشأ في «موقع» واحد للدعوة «دولة أو إقليم أو منطقة» كيانات متعددة ومختلفة، وعندئذ يجب منع الصراع بتحديد العلاقة السياسية بين هذه الكيانات، أو بمعنى آخر: طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية الذي يرى فيه كل كيان منهجيته التي يتصورها وحركته التي يمارسها، بحيث ينشأ الموقف الواحد لجميع كيانات الحركة بصورة سياسية صحيحة.
وكذلك، فإن تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية سيسد ثغرات خطيرة في منهج الدعوة..
وأخطرها: ثغرة الخروج عن الأحكام الشرعية في ممارسة الدعوة بادِّعاء «مصلحة الدعوة»، حيث يسد التصور السياسي للدعوة بصبغته السلفية هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.
وأخطرها أيضا: الارتداد عن خط المواجهة بالقوة بادعاء العمل السياسي وتحديد التصور السياسي بأبعاده المتعددة -بما فيه بُعد الممارسة بالقوة- يسد أيضا هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.
وبذلك لا تصبح السياسة لافتة فوق أي موقف باطل أو مرحلة ضعف.. بحيث يصبح التصور السياسي للحركة الإسلامية ضابطًا لكل العبارات والمصطلحات التي تشكل خطرًا كبيرا على الدعوة إذا أصبحت عنوانا للأهواء والتراجع والخلل.
فلا تصبح عبارات عائمة.. بل تتحدد وتستقر وتنضبط.

======================

([1]) لأن لكل أمة مضمونًا حضاريًّا خاصًّا بها تنشأ عنه حركتها كرد فعل للحضارة المقابلة لها، وقيام الحضارات بمنطق الفعل ورد الفعل دليل على أنها حضارات مصنوعة بشريًّا …
فالحضارة اليونانية كان مضمونها الحضاري المثالية الخيالية. والحضارة الرومانية كان مضمونها الحضاري القوة البشرية والمادية كرد فعل للمثالية. والحضارة الفارسية كان مضمونها الحضاري الإله الحاكم (الذي يحكمهم من البشر) كرد فعل للقوة البشرية.. يسعى إلى نقل مفهوم القوة من البشر إلى الإله. والحضارة الكاثوليكية كان مضمونها الحضاري التعصب كرد فعل للحفاظ على الكاثوليكية أمام المذاهب المتعددة السابقة عليها والمواكبة لها. والحضارة القومية كان مضمونها الفرد كرد فعل للتعصب الاستفزازي للحضارة الكاثوليكية التي أهدرت العقل البشري واجتهاد الفرد وقيمته.
([2]) كما قال النبي ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» أخرجه البخاري (13/306/ح7311) وأخرجه الترمذي في الفتن، واللفظ للبخاري.
([3]) مثل مؤمن آل فرعون.
([4]) ومن هنا كان الاستعداد للتضحية مساويًا في القرآن للتضحية ذاتها، وذلك كما في قوله تعالى: **مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا}. فمن قضى نحبه هو الذي مارس التضحية، ومن ينتظر هم أصحاب الاستعداد لبذل هذه التضحية.
([5]) نقصد بذلك البحوث الرسمية مثل المناهج التعليمية ورسائل الدكتوراة.
([6]) مثل الدولة الأموية – العباسية...

المصدر: المصدر كتاب التصور السياسي للشيخ رفاعي سرور موقع الشيخ رفاعى سرور
  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 141 مشاهدة
نشرت فى 10 إبريل 2012 بواسطة IslamyyaMisr

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

25,330

اسلمى يا مصر

IslamyyaMisr
مصر وطن حضارته تسبق التاريخ ولم يذل ولم يهزم إلا على أيدي الطغاة الذين باعوا الوطن بقصر في شرم الشيخ وآخر في باريس. وقد قام الشعب المصري بثورته المباركة في 25 يناير 2011 ليثور على هؤلاء الطغاة، وقد سقط الطاغية الأكبر إلا أن أذنابه لم تسقط بعد، ونقول اسلمي يا »