الصفحات المُضيَّة من ترجمة الإمام ابن تيمية

http://www.alukah.net/Literature_Language/0/23518/

الصفحات المضية من ترجمة الإمام ابن تيمية

شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية الحراني

(661 - 728هـ )

رحمه الله تعالى

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمد لله نحْمَده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

 

أمَّا بعد:

"فهذه صفَحات مُضِيَّة من ترجمة الإمام  ابنِ تيميَّة".

حياة هذا الإمام مليئةٌ بالأمور الجليلة القدْر، كثيرة المعارِف، متشعِّبة المسالِك، بحيث يصحُّ أن تُفرَد كل مرحلة من مراحل حياته، أو يفرد كل جانب مِن جوانب شخصيته بمصنَّف مستقل، ودراسة فاحِصة لها، تبحث عن الدُّرِّ المكنون بيْن صدفاتها، لكن هذه إطلالة على بعضها - كما هو دأبُ الباحثين - وسيكون ذلك خلال ما يلي:

اسمه ولقبه وكنيته[1]:

هو الإمام الربَّاني، الفقيه المجتهد، المجدِّد، بحْر العلوم العقلية والنقلية، شيخ الإسلام، تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدِّين أبي المحاسن عبدالحليم بن الشيخ الإمام مجد الدين أبي البركات عبدالسلام بن أبي محمَّد عبدالله بن أبي القاسم الخَضر بن محمَّد بن تيميَّة بن الخضر بن علي بن عبدالله النميري.

 

لقبه: لُقِّب بشيخ الإسلام[2]، وبابن تيمية[3]، وغالبًا ما يُجمع بينهما فيقال: شيخ الإسلام ابن تيمية.

 

كنيته: كني بأبي العباس، مع أنه لم يتزوَّج[4]؛ ذلك أنَّه من السُّنة أن يكنى المسلِم، ولو لم يُولد له، أو كان صغيرًا؛ لحديث عائشة أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها -: أنها قالت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسول الله، كل نسائك لها كُنية غيري، فقال لها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اكتني بابنِك عبدالله [يعني: ابنَ الزبير] أنت أمُّ عبدالله))[5]، ولقول أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل فرأى ابنًا لأبي طلحةَ، يُقال له: أبو عُمَير، وكان له نُغَير يلعب به، فقال: ((يا أبا عُمير، ما فعَل النُّغَير؟))[6].

 

ولادته وأسرته ونشأته:

ولادته[7]: وُلِد الإمام ابن تيمية في يوم الاثنين 10 ربيع الأول سنة 661 هـ في حران.

 

أسرته: وهي أسرةٌ معروفة بالعِلم والصلاح؛ إذ إنَّهم يتوارثون العلم فيما بينهم، وكانت لهم الصَّدارة في المسجد الجامع، ومِن هذه الأسرة الطيبة الإمام مَجْد الدين بن عبدالسلام، وولده الإمام الشيخ عبدالحليم والد الإمام أحمد ابن تيمية، وكانتْ هذه الأسرة تسلك في التدليلِ على المسائل العقدية والفقهية مسلكَ الحنابلة، فشرِب الإمام العلمَ منذ نعومة أظفاره في حجْر أبيه، فكان للعلم تقديرٌ خاص لديه؛ بسبب إجلال أسرته للعلم، وشهرتها به، فدرس علومَ الشريعة المختلفة منذ صِغَره، حيث كان يحضر المحافلَ العامة، فكان يناقش ويردّ ويفتي وهو في ريعان الشباب، حتى إنَّه تولَّى الدرس بعد موت أبيه، وحضَر له كبارُ أئمَّة ذلك العصر، وأُعجِبوا من علمه، وسُرعة استحضاره، مما يشهد ببراعته منذ صِغره.

 

نشأته: لقد أثَّرتْ فيه بيئتُه أيَّما تأثير؛ ذلك أنَّ البيئةَ المحيطة به بيئةُ عِلمٍ وصلاح، "فنشأ بها أتمَّ إنشاءٍ وأزكاه، وأنبته الله أحسنَ النبات وأوفاه، وكانت مخايلُ النجابة عليه في صِغره لائحة، ودلائلُ العناية فيه واضحة، [وقد أثَّرت فيه هذه النشأة أيَّما تأثير، وجعلتْه منذ] صِغره مستغرقَ الأوقات في الجِد والاجتهاد، فختَم القرآن صغيرًا، ثم اشتغل بحِفظ الحديث و[دراسة] الفِقه والعــربية، حتى برع في ذلك، مع ملازمة مجــالس الذِّكْر وسمــاع الأحاديث والآثار"[8]، فنُموُّه في تلك البيئة جعله من المنهومين بطلب العلم، والناهلين من منابعِ المعرفة بعَينٍ فاحصة متخصصة، ثم ظهر ذلك من خلال كتاباته وتآليفه ومواقفه؛ دفاعًا عن الشريعة الغرَّاءِ بكل ما يستطيع من جهْد، وبكلِّ ما أُوتي من قوة، وهذه ثمراتُ نشأته الأولى، وبيئته وأسرته؛ إذ اكتحلتْ عيناه برؤية كِبار علماء عصره، وشنفتْ أذناه بسماع الحديث والآثار مِن أئمة عصره، فارْتشَف العلم منذ نعومة أظفاره، ممَّا كان له أكبرُ الأثر في تكوين مَلَكته العلمية، والتي أهَّلته للإمامة عبرَ العصور.

 

شيوخه وتلاميذه:

إنَّ نفْسًا عملاقة كنفْس الإمام ابن تيمية، تُنبئ عن تعدُّد مناهِل المعرفة، وتنوُّع روافد أصول العلم التي تلقَّى ثقافتَه ومعرفته مِن خلالها، وهذا بدوره يؤكِّد أنَّ الإمام ابن تيمية قد تلقى العلم على أيدي كثيرٍ من الشيوخ والشيخات، وتعددُ الشيوخ والشيخات راجعٌ إلى تعدُّد روافده، وتنوع العلوم التي درسَها، والمعارف التي تلقَّاها، واستوعبتْها ذاكرتُه الحديدية، وأدركها بعقله الكبير، وطبيعي أنَّ مَن هذه أحوالُه - إضافة إلى ترجمته الحافِلة بأنواع شتَّى من جهاد وتعليم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولهج بذِكْر الله، وحسن عِشْرة ومعاملة، وزهد في منصب وفي دنيا - أن يكون لـه تلاميذُ يحملون عنه عِلمَه الغزير، وهؤلاء الذين تلقوا عنه، أصبح كلُّ واحد منهم إمامًا.

 

أما شيوخه: وهم الذين تلقَّى على أيديهم أصولَ العلم والمعرفة منذ صِغره، بل ظلَّ كذلك يستفيد مِن أهل العلم في كِبره من الأئمَّة من شيوخ عصره وشيخاته، "وشيوخه الذين سمع منهم أكثرُ من مائتي شيخ"[9]، كما سمع من أرْبع شيخات[10]، فسمع الحديث من الإمام ابن عبدالدايم[11]، ومن شيوخه والده الإمام شِهاب الدين أبو المحاسن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، ومنهم الإمام عبدالرحمن بن محمَّد بن قدامة[12]، والشيخ علي الصالحي[13] ، والشيخ عفيف الدين عبدالرحمن بن فارس البغدادي[14]، والشيخ المنجا التيوخي[15]، والشيخ محمَّد بن عبدالقوي[16]، والشيخ شرَف الدِّين المقدسي[17]، والشيخ الواسطي[18]، والشيخ محمَّد بن إسماعيل الشيباني[19]، ومن الشيخات فعمَّتُهُ ستُّ الدار[20]، والشيخة أمُّ الخير الدمشقية[21]، والشيخة أمُّ العرب[22]، والشيخة أمُّ أحمد الحرانية[23]، والشيخة أم محمَّد المقدسية[24]، فهؤلاء الشيوخ والشيخات وغيرهم، تلقَّى على أيديهم وتعلَّم، وكان لهم أبرزُ الأثر في عِلمه وسلوكه، ونبوغه وعبقريته وألمعيته.

 

تلاميذه: إنَّ شخصيةً كشخصية الإمام ابن تيمية لا بدَّ وأن يكون لها آثارٌ بارزة؛ لهذا فقد تأثَّر به وبمنهاجه الكثيرُ، كما لازمه كثيرون، وأصبحوا من خواصِّه، وتتلمذوا على يديه، ونهلوا من مَعِينه الصافي، بحيث أصبح الواحدُ منهم بعد ذلك إمامًا في فنِّه، ومشكاةً يضيء للآخرين بما أُوتي من فَهْم ثاقب، وعلمٍ غزير، ومن هؤلاء التلاميذ: الإمام ابن قيِّم الجوزية، والإمام الذهبي، والإمام ابن كثير، والحافظ البزار، والإمام ابن عبدالهادي[25]، والشيخ الواسطي[26]، والشيخ ابن الوردي[27]، والشيخ ابن رشيق[28]، والإمام ابن مُفلِح[29]، وغيرهم الكثير والكثير، والذين قد حملوا عِلمَه، وسلَكوا منهاجَه في تبليغ الشريعة.

 

وبالنظر إلى تلاميذ هذا الإمام العملاق، تظهر منزلتُه، ويبين قدرُه، فإذا كان تلاميذه أئمة، ولهم من العلم ما لهم مِن تآليف، وتولٍّ لقضاء أو إصلاح، فكيف يكون قدرُ أستاذهم وشأنه؟!

 

إنَّه بحر لا ساحلَ له، وموسوعةٌ عِلمية ومكتبية متنقِّلة، مع العلم والعمل، والزهد وترْك المناصب، واللهج بذِكْر الله - عز وجل - والدعوة إلى نُصْرة شرْعه بنفسه ورُوحه وماله كله، وهذا معروفٌ وواضح من أحواله، بما ترجم له مَن رآه، أو رأى مَن رآه، وبما تواترتْ أخباره بيْن ناقليها مِن جميع فئات شعبي دمشق ومصر، وبما ترَك خلفَه من آثار: سواء في تلاميذ، أو كتب، أو إصلاح.

 

عقيدته ومذهبه:

عقيدته: عقيدة الإمام ابن تيمية التي يعتقِدها هي عقيدة السلف الصالح: أهل السنة والجماعة، المتمثِّلة في القرون الثلاثة الأولى، على ما كان عليه النبيُّ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((خير أمَّتي قرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))[30] ، فلا علاقة لمعتقده بشخصٍ معيَّن، ولا بمذهب معيَّن، لا حنبلي ولا غيره؛ بل بما جاء في كتاب الله - عز جل - وبما ثبَت في صحيح السنة النبوية المطهَّرة، وتفسير لما فيها بما ثبت عن الصحابة الكِرام، وعن تابعيهم بإحسانٍ من تلك القُرون الثلاثة الفاضلة، ومع أنَّ إمامه في الفقه هو الإمام أحمد بن حنبل[31]، فإنَّ الإمام ابن تيمية لم يَدْعُ أحدًا قط إلى الْتزام العقيدة على منهج الحنابلة؛ بل كان يدعو إلى الْتزام معتقد السلف الصالح، وقد أبان ذلك هو بنفسه إذ قال: "أما الاعتقاد، فإنَّه لا يُؤخذ عني ولا عمَّن هو أكبرُ مني؛ بل يؤخذ عن الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما أجمع عليه سلفُ الأمَّة، فما كان في القرآن وجَب اعتقادُه، وكذلك ما ثبَت في الأحاديث الصحيحة، مثل صحيحي البخاري ومسلم... وكان يَرِدُ عليَّ مِن مصر وغيرها مَن يسألني عن مسائلَ في الاعتقاد أو غيره، فأُجيبه بالكتاب والسُّنة، وما كان عليه سَلفُ الأمة"[32]، وقد كتَب الإمام ابن تيمية هذه العقيدةَ التي يَدين اللهَ بها حينما طُلِب منه أن يَكتبها، فكتبَها فيما بيْن الظُّهر والعصر[33]، وهذه العقيدة هي:

 

الإيمانُ بالله وملائكته، وكُتبه ورسله، والبعْث بعد الموت، والإيمان بالقَدر خيره وشرِّه، وإثبات معيَّة الله لخلْقه، وأنها لا تُنافي علوَّه فوقَ عرْشه، ورؤية المؤمنين لربِّهم يومَ القيامة.

 

ومِن الإيمان بالله تعالى: الإيمانُ بكلِّ الأسماء والصفات الواردة في الكتاب وصحيح السنة، ثم الإيمان بالقُرآن الكريم، وأنَّه كلام الله، منزَّل، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنَّ الله تكلَّم به حقيقة، وأنَّ هذا القرآن الذي أنزله على محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره.

 

ثم الإيمان باليوم الآخِر، وما يكون فيه من أمورٍ بعد هذه الفِتنة، إمَّا نعيم وإمَّا عذاب، إلى أن تقومَ القيامة الكبرى، فتُعاد الأرواح إلى الأجساد، ثم تقوم القيامة، فيقوم الناس مِن قبورهم لربِّ العالمين حفاةً عراةً غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويُلجمهم العرق، وتُنصب الموازين، فتوزَن بها أعمالُ العباد، وتنشَر الدواوين،  ثم الإيمان بالحِساب.

 

والإيمان بحوْض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي من شرِب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا، والإيمان بالصِّراط، وهو منصوبٌ على متْن جهنم: وهو الجِسر الذي بين الجَنَّة والنار، يمرُّ الناس على قدْر أعمالهم، فمَن مرَّ على الصِّراط، دخَل الجنة، فإذا عبَرُوا عليه وقفوا على قنطرة بيْن الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم مِن بعض، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجَنَّة، وأوَّل مَن يَستفتح بابَ الجنة محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأوَّل مَن يدخل الجنة مِن الأمم أمَّتُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في القيامة ثلاثُ شفاعات:

الأولى: يشفع في أهْل الموقف حتى يُقضى بينهم، بعد أن يتراجع الأنبياءُ عنها؛ آدم فمَن بعده، حتى تنتهي إليه - صلَّى الله عليه وسلَّم.

الثانية: يشفع في أهل الجَنَّة أن يدخلوها.

الثالثة: يشفع فيمَن استحقَّ النار، وهذه الشفاعة لـه ولسائرِ النبيِّين والصِّدِّيقين وغيرهم، فيشفع فيمَن استحق النار ألاَّ يدخلها، ويشفع فيمَن دخلها أن يخرج منها.

 

كما يعتقد أنَّ الإيمان قولٌ وعمل، يَزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو متَّبع لمعتقد أهل السُّنة والجماعة؛ الفرْقة الناجية، في عدم تكفير أهْل القِبلة بمُطلق المعاصي والكبائر؛ بل الأُخوَّة الإيمانية ثابتةٌ مع المعاصي.

 

ومما يعتقده: وجوب سلامة القلْب واللِّسان لأصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتولَّى آل بيت رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويحبُّهم، كما يتولَّى أزواج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمهات المؤمنين، وأنهنَّ أزواجه في الدنيا وفي الآخرة، كما أنَّه يُمسك عما شجَر بين الصحابة - رضي الله عنهم - لأنَّ الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كذب، ومنها ما قد زِيدَ فيه ونقص وغُيِّر عن وجهه.

 

والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مُصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، مع الاعتقاد بأنَّ كل واحد من الصحابة ليس بمعصومٍ عن كبائر الإثم وصغائره، لكن لهم من السوابق والفضائل ما يُوجِب مغفرةَ ما يصدر منهم إنْ صدر، حتى إنهم يُغفر لهم من السيئات ما ليس لمن بعدَهم، أو بتوبة أو شفاعة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي هم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتُلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحقَّقة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين؟!

 

وأنَّهم خيرُ الخلْق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمَّة التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله.

 

كما يؤمِن بكرامات الأولياء، وما يُجري الله على أيديهم من خوارقِ العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، إضافةً إلى إيمانه بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما تُوجبه الشريعة، وكذلك يرى إقامةَ الحج والجهاد والجُمع والأعياد مع الأمراء؛ أبرارًا كانوا أو فجَّارًا.

 

وهو تابع لأهل السُّنة بأنهم يَدينون بالنصيحة للأمَّة، والصبر عند البلاء، والشُّكر عند الرخاء، والرضا بمرِّ القضاء، ويدْعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والعفو عمَّن ظلم، ويدْعون إلى برِّ الوالدين، وصِلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، والبُعد عن الأخلاق السيِّئة؛ كل ذلك اتباعًا للكتاب والسنة، وتطبيقًا للشريعة التي بُعِث بها محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

وأما مذهبه، فقد نشَأ وتربَّى وتعلَّم على أصول المذهب الحنبلي، فأبوه وجَدُّه - بل أسرته - أعلامُ الحنابلة في دمشق والشام، ولكنَّه لم يقتصرْ في دراسته على المذهب الحنبلي؛ بل درس المذاهب الفقهية الأخرى، ثم آل أمره في آخر حياته إلى عدم التقيُّد بمذهب معيَّن، بل كان يُفتي بما يترجَّح له دليلُه، ومع ذلك فلم يكن يتعصَّب لإمام أو شيخ أو مذهب، بل يرى أنه مِن اليُسر اتباع الناس لأيِّ رأي من آراء العلماء؛ لهذا لما سأله تلميذُه الحافظ البزار تأليفَ نصٍّ في الفقه يجمع اختياراتِه وترجيحاتِه؛ ليكون عمدةً في الإفتاء، فقال له ما معناه: "الفروع أمرها قريب، ومَن قلَّد - المسلم - فيها أحدَ العلماء المقلَّدين، جاز لـه العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه"[34].

 

وكان يذكُر أنَّ اختلاف العلماء رحمةٌ واسعة، فقال: "ولهذا كان بعضُ العلماء يقول: إجماعهم حُجَّة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة"، وكان عمر بن عبدالعزيز يقول[35]: ما يَسرُّني أنَّ أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يختلفوا؛ لأنَّهم إذا أجمعوا على قول فخالفَهم رجلٌ كان ضالاًّ، وإذا اختلفوا فأخَذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا، كان في الأمْر سَعة، وكذلك قال غيرُ مالك من الأئمَّة: ليس للفقيه أن يحملَ الناس على مذهبه [ثم نقَل عن بعض الشافعية قولَ بعضهم:] وليس لأحدٍ أن يُلزم الناس باتِّباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحُجج العلمية، فمَن تبيَّن له صحَّةُ أحد القولين تبِعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكارَ عليه"[36]، ومع هذا هو مجِلٌّ للأئمة، فيحترمهم ويدافع عنهم، وينهى عن الطعن فيهم، وأنهم وإنِ اختلفوا في مسائل، فهذا الخلاف إنما نشأ عن اجتهادِ كلِّ واحد منهم، ثم أرجع أسباب الاختلاف إلى أعذار ثلاثة، هي[37]:

الأول: عدم اعتقاده [أي: العالِم] أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قاله.

الثاني: عدم اعتقاده إرادةَ تلك المسألة بذلك القول.

الثالث: اعتقاده أنَّ ذلك الحُكم منسوخ، ثم فصَّل القول على هذه الأعذار الثلاثة في رسالته: "رفْع الملام عن الأئمَّة الأعلام".

 

أخلاقه وسجاياه وبعض أقواله:

الكلام على أخلاق الإمام ابن تيميَّة وسجاياه، إنَّما هو كلامٌ على الآداب الإسلامية التي تجلَّت في شخصِه، وبرزت أخلاقه خلالَ اتِّباعه وتمسكه بالكتاب والسنة، فكان يُطبِّق ما فيها، حتى ظهرَ عليه في معاملاته وحُسْن عشرته.

 

والكلام على سجاياه يشمل الخِلْقية والخُلُقية: أما سجاياه الخِلقية، فيَصفه مؤرِّخ الإسلام الإمام الذهبي بقوله: "كان أبيضَ، أسودَ الرأس واللحية، قليلَ الشَّيْب، جَهْوَرِيَّ الصوت، شعره إلى شحمة أذنيه، فصيح اللِّسان، أعين كأنَّ عينيه ناطقتان، رَبْعة من الرِّجال، بعيد ما بيْن المنكبين، تعتريه حدَّة، لكن يقهرها بالحِلم"[38].

 

وأمَّا سجاياه الخُلُقية، فكثيرة كثيرة يصعُب حصرها في بحْث واحد، والأمر كما قال الإمام ابن الزملكاني:

"مَـاذَا يَقُـولُ الْوَاصِفُونَ لَـهُ    وَصِفَـاتُهُ جَلَّتْ عَـنِ الْحَصْـرِ"[39]

 

والحافظ البزَّار بقوله: "فإنَّه قلَّ أن سُمع بمثله"[40].

 

ومن هذه الأخلاق ما يلي:

1- "إيثاره مع فقره: فكان - رضي الله عنه - مع رفْضه للدنيا وتقلُّله منها، مؤثِرًا بما عساه يجده منها؛ قليلاً كان أو كثيرًا، ولا يحتقر القليلَ فيمنعه ذلك عن التصدُّق به، حتى إنه إذا لم يجد شيئًا يتصدَّق به نزَع بعض ثيابه فيصِلُ بها الفقراء، وكان يستفضِل من قُوته الرغيف والرغيفين، فيؤثر بذلك على نفسِه"[41]، وفي مرَّة رأى "الشيخُ محتاجًا إلى ما يعتمُّ به، فنزع عمامته من غير أن يسألَه الرجل ذلك، فقطعها نِصفين، واعتمَّ بنصفها، ودفع النصف الآخر إلى ذلك الرجل"[42].

 

2- كرمه: لقد عُرِف الإمام ابن تيمية بالكرم؛ لأنَّه "كان مجبولاً عليه، لا يتطبَّعه ولا يتصنَّعه؛ بل هو له سجية؛ فكان لا يردُّ مَنْ يسأله شيئًا يقدِر عليه مِن دراهم ولا دنانير ولا ثياب، ولا كتب، ولا غير ذلك، ولقد كان يجود بالميسور كائنًا ما كان، وقد جاءَه يومًا إنسانٌ يسأله كتابًا ينتفع به، فأمَرَه أن يأخُذ كتابًا يختاره، فرأى ذلك الرجل بيْن كتب الشيخ مصحفًا قدِ اشْتُري بدراهم كثيرة، فأخَذَه ومضى.

ومِن كرَمِه أنه كان ينكر إنكارًا شديدًا على مَن يُسأل شيئًا من كتب العلم التي يملِكها ويمنعها من السائل، ويقول: ما ينبغي أن يمنع العلم ممَّن يطلبه"[43]، ومن جُودِه في العلم أنَّه كان كريمًا في نشْره للعلم، وبثِّه بين صفوف المجتمع كله، كما ذكر ذلك تلميذُه النجيب الإمام ابن القيم: "ولقد شاهدتُ من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله رُوحَه - في ذلك أمرًا عجيبًا: كان إذا سُئل عن مسألة حُكمية ذَكَر في جوابها مذاهبَ الأئمة الأربعة إذا قدَر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكَر متعلِّقات المسألة التي ربَّما تكون أنفعَ للسائل من مسألته، فيكون فرحُه بتلك المتعلقات واللوازم أعظمَ من فرحه بمسألته، وهذه فتاويه - رحمه الله - بيْن الناس، فمن أحب الوقوفَ عليها رأَى ذلك، فمن جُودِ الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألةِ السائل؛ بل يذكر له نظائرَها ومتعلقها ومأخذها، بحيث يشفيه ويكفيه"[44]، وهذه حال هذا الإمام مع مَن يسأله كلها كَرَم.

 

3- ورعه: فكان مِن الغاية التي يُنتهى إليها في الورَع؛ لأنَّ الله - تعالى - أجراه مدةَ عمره كلها على الوَرَع، فإنَّه ما خالطَ الناس في بيع ولا شراء، ولا معاملة ولا تجارة، ولا مشاركة ولا مزارعة ولا عمارة، ولا كان ناظرًا أو مباشرًا لمال وقْف، ولم يقبل جراية ولا صِلةً لنفسه مِن سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مدَّخرًا دِينارًا ولا درهمًا ولا طعامًا؛ وإنما كانت بضاعتُه مدَّةَ حياته وميراثه بعدَ وفاته - رضي الله عنه - العلمَ؛ اقتداءً بسيد المرسَلين وخاتم النبيين سيِّدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى آله وصحْبه أجمعين، فإنَّه قال: ((إنَّ العلماء ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دِينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَثَّوا العلم، فمَن أخذ به، أخذ بحظٍّ وافر))[45].

والاتِّصاف بصِفة الورع من أبرز صِفات العالِم الربَّاني؛ ذلك أنَّه متطلع إلى ما عند الله، متسامٍ عن الدنيا، ومترفعٌ على مناصبها وزخارفها.

 

4- كراماته وفِراسته: لقد أظْهر الله - تعالى - على يدي هذا الإمام كراماتٍ، وأعطاه فِراسةً عُرِفت عنه، وشاهدها مَن رافقه؛ وذلك لاتِّباعه للكتاب والسنة، وهدْي السلف الصالح، ومنها ما حكاه الإمام البزَّار نفسه وشاهده، حيث قال: "جرى بيني وبيْن بعض الفضلاء منازعةٌ في عدة مسائلَ، وطال كلامنا فيها، وجعلنا نقطع الكلام في كلِّ مسألة بأن نرجع إلى الشيخ وما يرجِّحه من القول فيها، ثم إنَّ الشيخ - رضي الله عنه - حضَر، فلما هممنا بسؤاله عن ذلك سبقَنا هو، وشَرَع يذكر لنا مسألةً مسألةً كما كنا فيه، وقال: وكنت في خلال الأيام التي صحبتُه فيها إذا بحَث مسألة يحضر لي إيراد، فما يستتمُّ خاطري به حتى يشرَعَ فيورده، ويذكر الجواب من عدَّة وجوه، وحكَى عن رجل أنه قدم دمشق وأنفق ما معه فقابلَه الشيخ[46] ولم يعرفْه، فجاءَه وهشَّ في وجهه، ووضع في يده صُرَّة فيها دراهم صالِحة، فسأل: من هذا؟! قالوا: هذا ابن تيمية، وإنه لم يمرَّ بهذا الدرب منذ مدة طويلة.

 

وحدَّث عن شخص آخَر قال: إنَّه ذهب إلى مصر ومرِض، ولم يعرف أحد بحاله، واتَّفق أنَّ ذلك كان حين إقامة الشيخ بها، فما أحسَّ إلا بمن يناديه باسمه وكنيته، فدخل عليه ناسٌ وسألوه عن مرِضه ونقلوه، فقال لهم: كيف عرفتُم بقدومي وأنا قدمتُ في هذه الساعة؟ فذكروا أنَّ الشيخ أخبرَنا بأنك قدمتَ وأنت مريض!

 

وحكَى أنَّ من عادة الشيخ أنه كان يزور المرضى في البيمارستان بدمشق في كلِّ أسبوع، فجاء على عادته فعادَهم، فوصل إلى شابٍّ منهم، فدعا له، فُشفي سريعًا، وجاء إلى الشيخ يقصد السلامَ عليه، فلما رآه هشَّ لـه وأدناه، ثم دفع إليه نفقة، وقال: قد شفاك الله، فعاهِدِ الله أن تعجِّلَ الرجوع إلى بلدك، أيجوز أن تتركَ زوجتَك وبناتِك أربعًا ضيعةً، وتقيم ها هنا؟! فقبَّل يده وقال: يا سيِّدي، أنا تائب إلى الله تعالى، وقال الفتى: وعجبتُ ممَّا كاشفني به، وكنت قد تركتُهم بلا نفقة، ولم يكن قد عرَف بحالي أحدٌ من أهل دمشق.

 

وكراماتُ الشيخ - رضي الله عنه - كثيرة جدًّا، ومِن أظهر كراماته أنَّه ما سمع بأحد عاداه أو غضَّ منه إلا وابتُلي بعدَه بلايا، غالبها في دِينه، وهذا ظاهرٌ مشهور، لا يحتاج فيه إلى شرْح صفته"[47].

 

5- تواضعه وعدم تكبُّره: وهذا الخُلُق عرَفه كلُّ مَن رأى الشيخ، أو تعامل معه، فلم يُعهد عليه تكبُّر على أحدٍ مِن خلْق الله؛ بل كان دائمَ التودُّد إلى الناس، خاصَّة عوام الناس والمرْضى، والمساكين والمعوزين، فقد كان يختلط بهم، ويتكلَّم معهم، ويتعرَّف أخبارَهم، ويقضي لهم حاجاتِهم.

 

كما كان يذهب إلى الظَّلَمة ويردُّ إلى المسلمين الضعاف أموالَهم، كما حَدَث مع قطلو بك الكبير، وكذلك كان حريصًا على زيارة المرضى في البيمارستان كلَّ أسبوع، ولا يشغله عِلمُه وتعليمُه وجهادُه عن فِعْل تلك الأشياء، فكانت محبَّته في قلوب الصِّغار والكبار، حُكَّامًا ومحكومين، وعندما يقابل محتاجًا أو مسكينًا يهشُّ في وجهه ويُعطيه ما تيسَّر، وأحق الناس بالكلام عن تِلك الصفة مَن عاشره ولازَمه من تلاميذه، كما قال الحافظ البزار: "وأمَّا تواضعه، فما رأيتُ ولا سمعتُ بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والغني والصالح والفقير، وكان يُدني الفقيرَ الصالح، ويكرمه ويؤنسه، ويباسطه بحَديثه المستحلى زِيادةً على مثله مِن الأغنياء، حتى إنه ربما خدَمه بنفسه، وأعانه بحَمْل حاجته؛ جبرًا لقلْبه، وتقربًا بذلك إلى ربِّه، وكان لا يسأم ممن يستفتيه أو يسأله؛ بل يُقبِل عليه ببشاشة وجه، ولِين عَرِيكة، ويقف معه حتى يكونَ هو الذي يفارقه؛ كبيرًا كان أو صغيرًا، رجلاً أو امرأةً، حرًّا أو عبدًا، عالمًا أو عاميًّا، حاضرًا أو باديًا، ولقد بالَغ معي [القائل الحافظ البزار] في حال إقامتي بحضرتِه في التواضُع والإكرام، حتى إنه لا يذكرني باسمي؛ بل يُلقِّبني بأحسن الألقاب"[48].

 

كذلك كان يداعِب الصغار ويلاطفهم، وكان مِن تواضعه أنَّه إذا خرَج مع بعض تلاميذه لقِراءة الحديث "كان هو بنفسه يحمل الكِتاب، ولا يدع أحدًا يحمله، فلما قيل له في ذلك، وأنهم يخافون من سوء الأدب، فيقول: لو حملتُه على رأسي لكان ينبغي ألاَّ أحملَ ما فيه كلام رسولِ الله - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟ وكان يجلس تحتَ الكرسي ويدَع صدر المجالِس، فيعجب تلاميذه مِن تواضعه، ورَفْعهم عليه في المجلس"[49]، وكان هذا حالَه مع غيره ممَّن يتعامل معه، حتى كانتْ محبته في قلوب كلِّ مَن رآه، أو سمع به.

 

وأما أقواله: فهي عباراتٌ رقْرَاقة قالها فحُفظت عنه وانتشرت، وهي إما أن تكون تلخيصًا لفِكرة، أو دعوة لفضيلة، أو تشجيعًا لعبادة، أو توضيحًا لأمْر، وأحيانًا تخرج منه تلقائيًّا أثناءَ جوابه لسؤال، أو تعليقه على موقِف معيَّن، وهي نتيجة لتبحُّره في العلوم، وتمكُّنه منها، وإنَّ انتشار تلك العبارات دليلٌ على إخلاصه؛ حيث وسائلُ نقل المعلومات محدودة في تلك الأزمان، ولكنَّها انتشرت وعُرِفت عنه، ولا يمكن لباحثٍ جمعها كلها إلا بمشقة لتناثرها، ولو جُمعت لكانتْ في مجلدة ضخمة، و"لابن تيمية كلامٌ خاص يستميلُ العقول، وله عباراتٌ أخَّاذة مؤثرة تُعلم بالاستقراء أنَّها لابن تيمية، فمَن سبر كتبَه، وقرأ رسائله، وتبحَّر في علومه حفِظ له مصطلحاتٍ وجملاً وكلمات، كأنَّها من الأمثال عندَ الشعراء، أو من الشواهد عند البلغاء، حتى تصلح أن تُكتب في براويز، وأن تُعلَّق من جودتها ومِن سطوعها"[50].

 

ومن هذه العبارات:

1- "المـؤمن مأمورٌ بأن يفعـل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور"[51].

2- " الذِّكْر للقلْب مثل الماء للسمك"[52].

3- " إنَّ في الدنيا جَنَّةً[53] مَن لم يدخلها[54] لا يدخُل جَنَّةَ الآخرة"[55].

4- "المحبوس مَن حُبِس قلْبه عن ربه - تعالى - والمأسور مَن أَسَره هواه"[56].

5- "ما يَصنع أعدائي بي؟! أنا جَنَّتي وبُسْتاني في صدري[57]، أين رحتُ فهي معي لا تُفارقني؛ إنَّ حبسي خلوة، وقتْلي شهادة، وإخراجي مِن بلدي سياحة"[58].

6- "العبادة: اسمٌ جامِع لكلِّ ما يحبه الله ويرْضاه، مِن الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة"[59].

7- "النَّفْس لا تزكو وتصلح حتى تُمحَّصَ بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيِّده من رديئه، حتى يفتنَ في كِير الامتحان"[60].

8- "الطاعة والعبادة هي مصلحةُ العبد التي فيها سعادتُه ونجاته"[61].

9- "ما يقوم بالقلْب من الشعور والحال يُوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر مِن سائر الأعمال يُوجِب للقلب شعورًا وأحوالاً"[62].

10- "المشارَكة في الهديِ الظاهر تُورِث تناسبًا وتشاكلاً بيْن المتشابهين، يقود إلى موافقةٍ ما في الأخْلاق والأعمال"[63].

11- "كلُّ قائل إنَّما يُحتَجُّ لقوله لا به، إلا الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[64].

12- "ما ينبغي أن يُمنَع العِلمُ ممَّن يطلبه"[65].

13- "لن يخاف الرجلُ غيرَ الله إلا لمرَض في قلبه"[66].

14- "الإمامة في الدِّين موروثةٌ عن الصبر واليقين"[67].

15- "حصول العِلم في القلْب كحصول الطعام في الجِسم"[68].

16- "لا يُنال الهُدى إلا بالعلم، ولا يُنال الرَّشاد إلا بالصَّبْر"[69].

17- "العبادة مبناها على الشَّرْع والاتباع، لا على الهوى والابتداع"[70].

18- "كلُّ نقمة منه عدل، وكلُّ نِعمة منه فضل"[71].

19- "مَن أراد السعادة الأبدية، فلْيلزم عتبة العبودية"[72].

20- "لا تجعل قلْبك للإيرادات والشُّبهات مِثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعلْه كالزُّجاجة المصمَتة، تمرُّ الشبهات بظاهرها، ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته"[73].

21- "مَن فارق الدليل ضلَّ السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم"[74].

 

تولِّيه التدريس:

تولَّى الإمام ابن تيميَّة منصبَ التدريس، وهو شابٌّ في العشرين من عمره، وهو أمر ليس بجديدٍ على تلك الأُسرة المعروفة بالعلم، فحياة الإمام ابن تيمية، ونشأته الأولى بيْن يدي أُسرته المعروفة بالعِلم، ونهله العلمَ منها ومِن علماء عصره منذ صغره، وكذلك ما ظهَر عليه من نبوغ منذُ صِغره، أهَّله لتولِّي منصب التدريس، فقد كان المكان له مهيَّئًا، وكرسي التدريس كان شاغرًا، حيث كان لأبيه مشيخةُ الحديث، فلمَّا توفي سنة 682هـ، تولَّى مكان أبيه بعدَ موته بسَنة؛ أي: وعمره اثنتان وعشرون سَنة، ممَّا جعله جديرًا بأن يتبوَّأ أعْلى المناصِب العلمية، مع ما منَّ الله - تعالى - عليه ووَهبه من هبات تكوَّنت بها شخصيته، وهو مع هذا وذاك "كان يحضر المدارسَ والمحافل في صِغره، فيُناظر ويفحم الكِبار، ويأتي بما يتحيَّرون منه، وأفتى وله أقل من تسع عشرة سَنة، وشرَع في الجمع والتأليف وبعُدَ صِيته في العالَم، فطبق ذِكْره الآفاق، وأخَذ في تفسير الكتاب العزيز أيَّام الجُمع [في سنة 681هـ] على كرسي مِن حفظه، فكان يورد المجلسَ ولا يتلعثم، وكذلك الدرس بتُؤدة وصَوْت جهوري فصيح"[75]، يبهر مَن سمع أو حضر، وحاله هذه مع حضور كِبار علماء عصره له، ومع ذلك لا يَسعُهم عند انتهائه من درسه إلا أن يُثنوا عليه، وعلى درْسه، وكثرة فوائده، ويُبدون دهشتَهم من سرعة بديهته واستحضاره، ثم ظل يترقَّى "بهذه الصِّفات الشخصية، وهذه المواهِب، وتلك المدارس، وذلك العلم الغزير، فألْقى دروسه في الجامِع الكبير بلِسان عربي مبين، فاتَّجهت إليه الأنظارُ، واستمعتْ إليه أفئدةُ سامعيه، وانتقل كثيرون مِن المستمعين إلى تلاميذ مريدين متحمِّسين معجبين، وصار له مِن بينهم مخلِصون إخلاص الحواريِّين الصدِّيقين، وكانت دروسه تجمع الموافِقَ والمخالِف، والبدعي والسني، ومعتنق مذاهب الجماعة ومذهب الشيعة، فكثر تلاميذه، وكثُر سامعوه، وكثر التحدُّث باسمه في المجالس العلمية، ودروسه وإنْ تعددت نواحيها تجمَعُها جامعةٌ واحدة، واتجاه واحد وهو إحياءُ ما كان عليه الصحابةُ أهل القَرْن الأول، الذي تلقى الإسلام صافيًا لم يرنق بأفكار غريبة، ولم تدرس في نحل بائدة، [بل] كان ينهج النهجَ الذي يعود بالإسلام إلى عهْد الصحابة في عقائده وأصوله وفروعه"[76].

 

وإنَّ تولِّيَه تدريس العلوم الشرعية، والدعوة إلى دِين الإسلام، والرد على الطاعنين: كافرين ومبتدعين، ومقلدين جامدين، ظلَّ ملازمًا له، حتى صعدتْ رُوحه إلى باريها، ولقد درَّس الناس وأفتاهم في الشام ومصر، وأجاب عن أسئلة واستشكالات كانت ترِدُ إليه من سائر بقاع الأرض، ومع كثرة ما يُوجد في شُروحه مِن إيضاحات وفوائد ولطائف، إلا أنَّه لم يكن يستعدُّ لشَرْح شيء معيَّن، فإنه "كان لا يُهيِّئ شيئًا من العلم ليلقيَه ويورده؛ بل يجلس بعد أن يصلِّيَ ركعتين، فيحمد الله ويُثني عليه، ويصلي على رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - [إذ إنَّه] كان لا يذكُر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قطُّ إلا ويُصلِّي ويسلِّم عليه على صفة مستحْسَنة مستعذبة، ثم يشرع فيفتح الله عليه إيرادَ علوم وغوامض، ولطائف ودقائق، وفنون واستدلالات، بآيات وأحاديث، وأقوال العلماء، ونصر بعضها وتبيين صحَّته، أو تزييف بعضها وإيضاح حُجَّته، واستشهاد بأشعار العَرَب، وهو مع ذلك يَجري كما يَجري السيلُ، ويفيض كما يفيض البَحْر، وذلك كله مع عدم فِكْر فيه أو رويَّة، من غير تعجرُف ولا توقُّف ولا لحن، بل فيْض إلهي حتى يبهرَ كلَّ سامع وناظر، فلا

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 135 مشاهدة
نشرت فى 20 مايو 2011 بواسطة Islamisright

ساحة النقاش

محمود داود دسوقي خطابي

Islamisright
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

271,781