الموجز من علم مصطلح الحديث

http://www.alukah.net/Sharia/0/21986/

المقدمة

الحمد لله الذي نزَّل الكتاب تِبيانًا لكل شيء، وهدىً ورحمة وبُشرى للمسلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي نزل الله - تعالى - إليه الذكر؛ ليبين للناس ما نزل إليهم لعلهم يتفكرون، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

 

أما بعدُ:

فإنَّ من نِعَم الله - تعالى - العظام أنْ أرسلَ إلى الناس عبده ورسوله محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بشريعة معصومة غرَّاء، مَن تَمسك بها نجا، ومن ابتعد عنها هلك، وهذه السنة هي سلم الوصول إلى فَهم كتاب الله - تعالى - ورضاه؛ لأنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعلم خلق الله - تعالى - بمُراد الله - تعالى - وعليه نزل القرآن الكريم، وقد تكفل الله - تعالى - بحفظ هذا الدين، كما قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، فحفظ الله - تعالى - كتابه من التحريف والتبديل، كما جعله في صدور أوليائه من المؤمنين، الذين جعلهم أهلاً وخاصَّة له - سبحانه وتعالى - كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته))[1].

 

وإنَّ من حفظ الله - تعالى - لسُنَّةِ نبيِّه محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن سخَّر لها جهابذةً حُفَّاظًا لِمُتُونها، باحثين وجامعين لمتونها، ويُميِّزون صحيحَها من سقيمها، نُقادًا لألفاظها وعللِها، من خلال علمٍ عُرف بعلم "الجَرْح والتَّعْدِيل"؛ حيث إنَّهم يبحثون ويمحصون في النظر في متن الحديث وسنده (إسناده) وفيهما معًا، مع تتبُّع أحوال الرُّواة وأوطانهم ومواليدهم وَوَفَيَاتهم، حتى يصلوا إلى الرُّواة العُدُول، وتثبت هذه العدالة بأحد أمرَيْن[2]:

أ - إمَّا بتنصيص مُعدِّلين عليها؛ أي: ينص علماء التعديل أو واحد منهم عليها.

ب - وإما بالاستفاضة والشُّهرة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم، وشاع الثناء عليه، كفى ولا يحتاج بعد ذلك إلى مُعدِّل ينص عليها، وذلك مثل الأئمة المشهورين كالأئمة الأربعة[3]، والسُّفْيانَيْن[4]، والأوزاعي[5]، وغيرهم؛ انتهى.

 

هذا، ويقبل التعديل[6] مِن غير ذكر سببه على الصحيح المشهور؛ لأنَّ أسبابه كثيرة يصعب حصْرها؛ إذ يحتاج المعدِّل أن يقول مثلاً: لم يفعل كذا، لَم يرتكب كذا، أو يقول: هو يفعل كذا، ويفعل كذا وكذا...

 

أما الجَرْح فلا يُقبل إلا مُفَسَّرًا؛ لأنه لا يصعب ذكره؛ ولأن الناس يختلفون في أسباب الجرح، فقد يجرح أحدهم بما ليس بجارح.

 

قِسْمَا علم الحديث الشريف

ينقسم علم الحديث الشريف قسمَيْن[7]:

الأول: علم الحديث دراية، (وهو المعروف بـ"علم مصطلح الحديث").

الثاني: علم الحديث رواية.

ولكلٍّ من العِلْمَيْن مبادئ ينبغي معرفتها والإحاطة بها؛ ليكون الشارعُ فيهما على بصيرةٍ تامة.

 

مبادئ علم مصطلح الحديث:

دَرَجَ المصنفون في بداية مُؤلفاتِهم على ذكر مبادئ كل علم من العلوم التي يتحدثون عنها، وحيثُ إنَّ مصطلح الحديث يُعَدُّ فنًّا مُستَقلاًّ بذاته، شأنه كغيره من سائر الفنون، فإنَّ له مبادئ خاصَّة به، وهذه المبادئ عشرة، وقد جمعها العلامة أبو العرفان محمد بن علي الصَّبَّان[8] بقوله: "وقد نظمتُ العشرة فقلتُ:

إِنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍّ عَشَرَهْ

الحَدُّ وَالْمَوْضُوعُ ثُمَّ الثَّمَرَهْ

وَنِسْبَةٌ وَفَضْلُهُ وَالْوَاضِعْ

وَالِاسْمُ الِاسْتِمْدَادُ حُكْمُ الشَّارِعْ

مَسَائِلٌ وَالْبَعْضُ بِالْبَعْضِ اكْتَفَى

وَمَنْ دَرَى الْجَمِيعَ حَازَ الشَّرَفَا".

 

ولذلك فإنه "يُحَدُّ علم الحديث درايةً - وهو المعروف بعلم مُصطلح الحديث - بأنَّه: علم[9] يعرف به أحوال السند والمتن[10]، وكيفية التحمُّل[11] والأداء[12]، وصفات الرجال[13]، وغير ذلك[14].

وموضوعه: السند والمتن من حيث الصِّحَّة والحسن ونحو ذلك.

وثَمرته: معرفة الحديث الصحيح من غيره.

وأول من صنَّف فيه: القاضي أبو محمد الحسن بن عبدالرحمن الرَّامَهُرْمُزِي[15] - رحمه الله - وسُمِّي كتابه: "المُحَدِّث الفاصِل بين الراوي والواعِي".

واسمه: "علم الحديث دراية"، ويُسمى "مصطلح الحديث"... [وسميت هذا الكتاب: الموجز لتيسير مصطلح الحديث].

واستمداده: مِن تتبُّع أحوال رُواة الحديث.

وحكمه: أنه فرض عيْن على مَنِ انفرد به، وفرض كفاية عند التعدُّد.

ونسبته: إلى غيره من العُلُوم التباين.

وفضله: أنه مِن أشرف العلوم؛ إذ به يعرف المقبول والمرْدود.

ومسائله: قضاياه كقولنا: كل حديث صحيح يستدل به.

 

التعريف بعلم مصطلح الحديث:

ويعرف بأمرَيْن:

الأول: باعتباره لقبًا لفنٍّ معين.

الثاني: باعتبار مفرداته.

 

أما الأول: فيعرف على أنه: "علم بأصول وقواعد يُعرف بها أحوال السند والمتن، من حيث القَبول والرد[16]".

 

وأما الثاني: فيكون كما يلي:

العلم: وهو "إدراك الشيء على ما هو عليه، أو إن شئت فقل: معرفة الشيء على ما هو عليه[17]".

مصطلح: وهو لفظٌ لما يتَّفق عليه أهل كل فن بحسب اللُّغة العرفية.

الحديث: وهو "ما أضيف إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من قولٍ أو فِعْل أو تقرير أو صفة[18] ".

 

الهدَف من دراسة علم مصطلح الحديث[19]:

إنَّ الهدَف من دراسة علم مصطلح الحديث، وهو من علوم الآلة؛ ذلك لأنَّه من الوسائل التي تخدم هذا العلم العظيم، فالهدف من مصطلح الحديث معرفة المقبول والمردود من السنة، ووسيلة إلى معرفة ما يقبل وما يرد من السنن، لكن كيف نعرف المقبول لنعمل به، والمردود لنجتنبه، إلاَّ بواسطة هذا العلم؟

فهو من أهم المهمات، يُقاربه قواعد التفسير، أو أصول الفقه كذلك، كلها تخدم وإن كانت من علوم الآلة، ومثلها علوم العربيَّة بفروعها، إلاَّ أنَّها مما يضطر إليه طالب العلم.

 

نبذة[20] تاريخيَّة عنْ نشأة علم المصطلح، والأطوار التي مرَّ بها، وأول مَنْ صنَّف فيه[21]:

يُلاحظ الباحثُ المتفحِّص أنَّ الأُسسَ والأركان الأساسيَّة لعلم الرِّواية ونقل الأخبار موجودة في الكتاب العزيز، والسنة النبوية، فقد جاء في القرآن الكريم قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]، وجاء في السنة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نَضَّر الله امرأً سمع منَّا شيئًا فبلَّغه كما سمعه، فرُب مُبلَّغٍ أوعى من سامع))[22]، وفي رواية: ((فرُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه))[23].

 

ففي هذه الآية الكريمة وهذا الحديث الشَّريف مبدأ التثبُّت في أخذ الأخبار، وكيفية ضَبطها بالانتباه لها، ووعيها، والتدقيق في نقلها للآخرين.

 

وامتثالاً لأمر الله - تعالى - ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد كان الصَّحابة - رضي الله عنهم - يتثبَّتون في نقل الأخبار وقَبولها، لا سيما إذا شكُّوا في صدْق الناقل لها، فظهر بناءً على هذا موضوعُ الإسناد وقيمته في قَبول الأخبار أو رَدِّها، فقد جاء في مقدمة "صحيح مسلم" عن ابن سيرين: "قال: لَم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سَمُّوا لنا رجالَكم، فينظر إلى أهل السنة، فيُؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدَع، فلا يؤخذ حديثهم"[24]، وبناءً على أنَّ الخبر لا يقبل إلا بعد معرفة سنده، فقد ظهر علمُ الجَرْح والتعديل، والكلام على الرُّواة، ومعرفة المتصل أو المنقطع من الأسانيد، ومعرفة العلل الخفيَّة، وظهر الكلام في بعض الرواة، لكن على قلة؛ لقلة الرواة المجروحين في أول الأمر.

 

ثم توسَّع العلماء في ذلك، حتى ظهر البَحث في علومٍ كثيرة تتعلَّق بالحديث من ناحية ضبطه، وكيفيَّة تحمُّله وأدائه، ومَعرفة ناسخه من منسوخه وغريبه وغير ذلك، إلاَّ أنَّ ذلك كان يتناقله العلماء شفويًّا.

 

ثم تطور الأمرُ، وصارتْ هذه العلوم تكتب وتُسجَّل، لكن في أمكنة مُتفرِّقة من الكتب، مَمزوجة بغيرها من العلوم الأخرى، كعِلْم الأصول، وعلم الفقه، وعلم الحديث، مثل: كتاب "الرِّسالة"، وكتاب "الأم"؛ للإمام الشافعي.

 

وأخيرًا، لما نضجت العلوم، واستقرَّ الاصطلاح، واستقلَّ كلُّ فنٍّ عن غيره - وذلك في القرْن الرابع الهجري - أفرد العلماءُ علمَ المصطلح في كتاب مُستَقل، وكان من أول مَن أفرده بالتَّصْنيف القاضي أبو محمد الحسن بن عبدالرحمن بن خلاد الرَّامَهُرْمُزِي - المُتَوَفَّى سنة 360 هـ - في كتابه: "المحدِّث الفاصل بين الرَّاوي والواعي" - وسأذكر أشهر المصنفات في علم المصطلح من حين إفراده بالتصنيف إلى يومنا هذا.

 

حتى استقرَّ هذا العلم بوَضْع شروط خمسة لقَبول الحديث، وهذه الشروط هي[25]:

1 - اتصال السند (الإسناد).

2- عدالة الرواة.

3 - ضبط الرواة.

4 - عدم الشذوذ.

5 - عدم العلة.

 

وعلى هذا، فالحديث الصَّحيح هو: الحديث المسند الذي يتَّصل إسناده بنقل العَدْل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذًّا ولا مُعللاً.

 

ولقد جمع الشيخ البَيْقُونِي هذه الشروط الخمسة في منظومته المشهورة بقوله:

أَوَّلُهَا الصَّحِيحُ وَهْوَ مَا اتَّصَلْ

إِسْنَادُهُ وَلَمْ يَشُذَّ أَوْ يُعَلّْ

يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ

مُعْتَمَدٌ فِي ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ

 

إذًا فالحديث = متن + [سند (إسناد) = (أ + ب + ج + د + هـ...)]

 

وأمَّا المتن: نص الحديث.

وأمَّا السند: سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن.

 

الصَّحابي لغةً: الصحابةُ لغةً: مصدر صَحِبَ، بمعنى "الصُّحبة"، ومنه "الصَّحابي"، و"الصَّاحب"، ويُجمع على أصحاب وصَحْب، وكَثُر استعمال "الصحابة" بمعنى الأصحاب.

الصحابي اصطلاحًا: مَن لَقِي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُسلمًا ولو لَم يره - كابن أم مكتوم - رضي الله عنه - ومات على ذلك "الإسلام"، ولو تخللتْ ذلك رِدَّة على الأصح.

 

التابعي لغةً: التابعون جمع تابعي أو تابع، والتابع اسم فاعل من "تبعه" بمعنى مَشَى خلفه.

التابعي اصطلاحًا: مَن لقي صحابيًّا مسلمًا، ومات على الإسلام، وقيل: هو مَن صَحِبَ صحابِيًّا.

 

[لطيفة]:

ذكر الإمام الذهبي[26] أنَّ أَصْحَمَة (النَّجاشِي) - رضي الله عنه - صاحِبٌ وتابِعٌ في آنٍ واحدٍ؛ حيث قال: "كان ممن حَسُنَ إسلامه ولم يهاجر ولا انتهى له رؤية، فهو تابعيٌّ من وَجْهٍ، وصاحِبٌ من وَجْهٍ".

الحديث = متن (نص الحديث) + سند (إسناد) وهو سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن.

"...........................(المتن)............................................"

 

ملحوظات:

1- إذا صَحَّ الحديثُ - بشروطه كما سيأتي - من المصنف "الإمام الترمذي مثلاً" إلى (هـ)، ورفعه (هـ) إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقولٍ أو بفعل أو بصفة أو بتقرير، فهو صحيحٌ مرفوع، والمرفوع إمَّا أن يكون قوليًّا أو فعليًّا، أو تقريرًا أو وصفًا.

2 - إذا صح الحديث إلى (هـ) ولم يرفعه، بل حكى عنه، فهو صحيح موقوف، وإذا لم يعرف عن الصَّحابي الأخْذ عن أهل الكتاب، وقال قولاً لا مَجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلُّق ببيان اللغة، فله حكم الرفع.

3 - إذا صح الحديثُ إلى (د)، ورفعه إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو مُرْسَل[27].

4 - إذا سقط راوٍ مثل: (ب)، أو (ج)، أو (د)، فهو مُنْقَطِعٌ "ضعيف".

5 - إذا سقط راويان مُتتاليان مثل: (ب) و(ج)، أو (ج) و(د)، فهو مُعْضَلٌ "ضعيف".

6 - إذا قال المصنف مثلاً: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - (بأن يَحذف كلَّ السند): فهو مُعَلَّقٌ ضعيف، أو يَحذف (أ)، أو (أ) و(ب)، أو (ج)، فهو مُعَلَّقٌ "ضعيف".

 

[فائدة]:

مُعَلَّقاتُ الصَّحيحين يُحكم بصحتِها، وذلك إنْ كانت بصيغة الجزم؛ مثل: "قال"، و"ذَكَر"، و"حَكَى"، فيُحكم بصحتها عن المضاف إليه.

أمَّا ما ذُكِرَ بصيغة التمريض؛ مثل: "قيل"، و"ذُكِر"، و"حُكِيَ"، ففيه الصحيح والحسن والضَّعيف.

وأحسن مَنْ بحث في المُعَلَّقاتِ التي في صحيح الإمامِ البخاريِّ الإمامُ الحافظُُ ابنُ حَجَر العسقلاني في كتابه الماتع "تَغْلِيق التعليق" في 5 مجلدات.

 

وأما شرح[28] شروط تعريف الحديث الصحيح، فهي كما يلي:

1 - أمَّا اتصال السند (الإسناد)، فمعناه: أنَّ كلَّ راوٍ من رواته قد أخذه مباشرة عمَّن فوقه من أول السند (الإسناد) إلى منتهاه.

2 - وأمَّا عدالة الرُّواة؛ أي: إنَّ كل راوٍ من رواته اتَّصف بكونه مُسلمًا بالغًا عاقلاً، غير فاسق وغير مَخروم المروءة.

3 - وأما ضبط الرواة؛ أي: إنَّ كل راوٍ من رواته كان تامَّ الضبط.

 

[فائدة]:

الضبط قسمان:

أ - ضبط صدر.

ب - ضبط كتاب.

 

4 - وأما عدم الشذوذ فمعناه: ألا يكون الحديثُ شاذًّا.

والشذوذ: هو مُخالفة الثقة لِمَنْ هو أوثق منه.

 

[تنبيه]:

هناك فرقٌ بين شذوذ الثِّقة عن باقي الثِّقات، وبين زيادة ثقة عن باقي الثقات؛ أمَّا الأول: فمردودٌ شذوذه، وأما الثاني: فمقبولة زيادته، ويتَّضح ذلك من خلال ما يلي:

 

فلو أنَّ خمسًا من الثقات قالوا:

إنَّ هذا كوب زجاجي، وهو في الحقيقة كذلك، ثُم جاء ثقةٌ سادس أقل توثيقًا منهم، فقال عن الكوب نفسه: إنَّ هذا كوب زجاجي ومليء بسائل، فإنَّ هذه الزيادة تُسمى زيادة ثقة، وهي مقبولة.

أمَّا إن قال: إنَّه من البلاستيك، أو أي شيء آخر غير الزجاج، فإنَّ هذا يُسمَّى شذوذًا.

 

[تنبيه]:

إذا كان هذا السادس ضَعيفًا، وخالف الثقات، فإنَّه يُعرف بالمنكر، وليس بالشاذ.

وقال الحافظ ابن حجر[29]: "وقد غفل مَن سوَّى بينهما"؛ انتهى.

 

مثال الحديث الصحيح:

ما أخرجه الإمامُ البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن جُبَيْر بن مطعم عن أبيه، قال: سمعْتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قرأ في المغرب بالطور.

 

فهذا الحديث صحيح؛ لأن:

1 - سنده (إسناده) متصل؛ إذ إنَّ كل راوٍ من رواته سمعه من شيخه.

3 - رُواته كلهم عدول ضابطون، وهذه أوصافهم عند علماء الجَرْح والتعديل:

عبدالله بن يوسف: ثقة مُتقن.

مالك بن أنس: إمام حافظ.

ابن شهاب الزُّهْرِي: فقيه حافظ متفق على جلالته وإتقانه.

محمد بن جُبير: ثقة.

جُبير بن مُطْعِم: صحابي - رضي الله عنه.

4 - عدم الشذوذ؛ لأنَّه غير شاذ؛ إذ لم يعارض ما هو أقوى منه.

5 - عدم العلة؛ لأنَّه ليس فيه علة من العلل.

 

والعلة: هي سبب غامض خفي قادح في صحة الحديث.

 

ومعرفة العلل مِن أجلِّ علوم الحديث وأدقها؛ لأنَّه يَحتاج إلى كشف العلل الغامضة الخفية التي لا تظهر إلاَّ للجهابذة النُّقاد في علوم الحديث، وإنَّما يتمكن منه ويقوى على معرفته أهلُ الحفظ والخبرة والفهم الثَّاقب؛ ولهذا لم يَخُضْ غماره إلاَّ القليل من الأئمة؛ كابن المَدِينِي، وأحمد، والبخاري، وأبي حاتم، والدَّارَقُطْني، والباحث في علة الحديث يَتَطَرَّق إلى الحديث الذي ظاهره الصِّحَّة؛ لأنَّ الحديث الضعيف لا يَحتاج إلى البحث عن علله؛ إذ إنَّه مرْدود لا يُعمل به، ويكفيه أنه ضعيف.

 

[فائدة]:

يُقَسَّم الحديث الصحيح سَبْعَ مراتب، وهي:

1 - ما اتَّفق عليه البُخاري ومسلم (أعلى مرتبة في الصحة).

رواه البخاري ومسلم = متفق عليه = الشيخان = الصحيحان.

 

[تنبيه]:

رواه البخاري ومسلم = متفق عليه إلاَّ عند مجد الدين ابن تيميَّة (جد شيخ الإسلام)، فمعناها عنده: (أحمد + البخاري ومسلم)، ولو قال: أخرجاه فمن دون الإمام أحمد.

2 - ثم ما انفرد به البخاري.

3 - ثم ما انفرد به مسلم.

4 - ثم ما كان على شرطهما ولم يخرجاه.

5 - ثم ما كان على شرط البخاري ولم يخرجه.

6 - ثم ما كان على شرط مُسلم ولم يخرجه.

7 - ثم ما صح عند غيرهما من الأئمة مما لم يكن على شرطهما، كابن خُزيمة، وابن حِبَّان.

 

ذلك وقد نظم ذلك الإمام العراقي في ألفيَّته الماتعة بقوله:

وَأَرْفَعُ الصَّحِيحِ مَرْوِيُّهُمَا

ثُمَّ الْبُخَارِيِّ فَمُسْلِمٍ فَمَا

شَرْطَهُمَا حَوَى فَشَرْطَ الْجُعْفِي

فَمُسْلِمٍ فَشَرْطَ غَيْرٍ يَكْفِي

وحكم الصحيح: وُجُوب العمل به.

 

[لطيفة]: قال الشيخ الألباني[30]: "وجوب العمل بالحديث الصَّحيح، وإن لَم يعمل به أحد"؛ انتهى.

 

الحديث الحسن:

أمَّا ما يتعلق بالحديث الحسن، فهو كما يلي:

تعريفه: كتعريف الحديث الصَّحيح، لكن الضبط يَخف عن الصحيح، وقد عرَّفه الحافظُ ابن حجر بعد أن ذكر تعريفَ الحديث الصحيح قائلاً: "فإنْ خف الضبط فالحسن لذاته"؛ انتهى.

وعرفه الدكتور محمود الطَّحَّان - بناءً على تعريف الحافظ ابن حجر - بقوله: "هو ما اتصل سنده بنقل العدل الذي خَفَّ ضبطه عن مثله إلى مُنتهاه، من غير شذوذ ولا علة"؛ انتهى.

ونظم ذلك الشيخ البَيْقُونِي بقوله:

 

وَالْحَسَنُ الْمَعْرُوفُ طُرْقًا وَغَدَتْ

رِجَالُهُ لاَ كَالصَّحِيحِ اشْتَهَرَتْ

ومثاله:

ما أخرجه الإمام الترمذي في سُنَنه قال: حدثنا قُتيبة، حدثنا جعفر بن سليمان الضُّبَعِي، عن أبي عمران الجَوْني، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال: سمعتُ أبي بحضرة العدو يقول: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ أبواب الجنة تحت ظلال السيوف...))، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب؛ انتهى.

وكان هذا الحديث حسنًا؛ لأنَّ رجال إسناده الأربعة ثِقَات، إلاَّ جعفر بن سليمان الضُّبَعِي، فإنَّه حسن الحديث؛ لذلك نزل الحديث عن مَرتبة الصَّحيح إلى الحسَن؛ انتهى.

حكم الحديث الحسن: وجوبُ العمل به كالصحيح، وإن كان دونه في القوة.

 

وهذا ما يتعلَّق بالحديث الحسن لذاته:

قسما الحديث الحسن:

ينقسم الحديث الحسن قسمين:

أ - الحسن لذاته: وقد سبق الكلام عنه.

ب - الحسن لغيره: وهو الضَّعيف إذا تعدَّدت طرقه ولم يكن سبب ضَعفه فسق الرَّاوي أو كذبه، وهو دون الحسن لذاته في الرُّتبة، كما أنَّه أرفع من الضعيف منزلةً؛ ولهذا فقد يكون للحديث مُتابِعٌ أو شاهِدٌ[31].

فلو تعارض الحسنُ لذاته مع الحسن لغيره قُدِّم الحسن لذاته.

 

ومثال الحسن لغيره:

ما رواه الترمذي وحسنه، من طريق شُعبة عن عاصم بن عبيدالله عن عبدالله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه أنَّ امرأةً من بني فزارة تزوجتْ على نعلين، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟))، قالت: نعم، فأجاز.

قال الترمذي: وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي حَدْرَد؛ انتهى.

فعاصم ضعيف؛ لسُوء حفْظه، وقد حسَّن له الترمذيُّ هذا الحديث؛ لمجيئه مِنْ غير وجه.

 

الصحيح لغيره:

ويكون ذلك إذا روى الحديث الحسن لذاته من طريقٍ آخر مثله، أو أقوى منه، سُمِّي صحيحًا لغيره؛ لأنَّ الصِّحَّةَ لَم تأتِ من ذات السند، وإنَّما جاءتْ من انضمام غيره إليه، وهو أعلى مرتبةً من الحسن لذاته، ودون الصحيح لذاته.

 

ومثاله: ما رواه الإمام الترمذي من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لولا أنْ أشُقَّ على أمتي، لأمرتهم بالسِّواك عند كل صلاة)).

 

قال الإمام ابن الصلاح: "محمد بن عمرو بن علقمة من المشهورين بالصِّدق والصِّيانة، لكنه لم يكن من أهل الإتقان، حتى ضعفه بعضُهم من جهة سوء حفظه، ووثقه بعضهم؛ لصدقه وجلالته، فحديثُه من هذه الجهة حسن، فلَمَّا انضَمَّ إلى ذلك كونه رُوِي من أوجه أُخَر، زال بذلك ما كُنَّا نَخشاه عليه من جهة سوء حفظه، وانجبر به ذلك النَّقص اليسير، فصَحَّ هذا الإسناد والْتَحَق بدرجة الصحيح[32]"؛ انتهى.

 

الحديث المتواتِر:

ويكون إذا روى الحديث الصَّحيح عددٌ كثير من الرُّواة تُحيل العادةُ تواطؤهم على الكذب، فإن هذا الحديث يُسمَّى بالمتواتر.

ومعنى ذلك: أنَّ الحديث (أو الخبر) الذي يرْويه في كلِّ طبقة من طبقات سنده رُواةٌ كثيرون يَحكم العقلُ عادة باستحالة أن يكون أولئك الرُّواة قدِ اتَّفقوا على اختلاق هذا الحديث (الخبر).

 

وعلى هذا، فشروط الحديث المتواتر أربعة، وهي:

1 - أن يَرْوِيه عددٌ كثير.

2 - أن توجد هذه الكثرة في جميع طبقات السند.

3 - أن تُحيل العادةُ تواطُؤَهم على الكذب.

4 - أن يكون مستند خبرهم الحس؛ كقولهم: سمعنا، أو رأينا، أو لمسنا.

 

وحكمه: يُفيد العلم الضَّروري اليقيني الذي يضطر الإنسانُ إلى التصديق به تَصديقًا جازمًا، كمن يشاهد الأمر بنفسه، فلا يتردَّد في تصْديقه، فكذلك الخبر المتواتر؛ لذلك كان المتواتر كله مقبولاً، ولا حاجة إلى البحث عن أحوال رُواته.

 

قسما المتواتر: الحديث المتواتر ينقسم قسمين هما:

أ - المتواتر اللفْظي: وهو ما تواتر لفظُه ومعناه، ومثاله قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كذب عليَّ متعمِّدًا، فليتبوأ مقْعده من النار))[33].

ب - المتواتر المعنوي: وهو ما تواتر معناه دون لفْظه.

ومثاله: أحاديث رفع اليدَيْن في الدُّعاء، فقد ورد عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - نحو مائة حديث في قضايا مُختلفة أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - رفع يديه في الدُّعاء، وكل قصة منها لَم تتواتر، والقدرُ المشترك بينها - وهو الرفع عند الدعاء - تَوَاتَرَ باعتبار مَجموع الطُّرق، وهكذا حديث حوض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمسح على الخُفَّين، والعمامة، واللِّحية، ورفع اليدين في الصلاة، وحديث: ((نَضَّرَ الله امرأً))، ((ولا تزال طائفة من أمتي))، وهكذا.

وما سوى المتواتر آحاد، وهو ينقسم قسمين: مقبول ومردود.

 

وكلٌّ من الحديث المتواتر والصحيح والحسن يُعرَف بالخبر المقبول، وما سواه مرْدود، ويتَّضح ذلك من الشكل التالي:

 

 

 

والكلام على الحديث والخبر المقبول يشمل كلاًّ من: المشهور، والعزيز، والغريب، سواء كان صحيحًا لذاته، أم لغيره، وكذلك الحسن لذاته ولغيره، أو كان مردودًا.

 

أمَّا المشهور والعزيز والغريب، فهو كما يلي:

المشهور:

تعريفه:

أ - لُغَةً: هو اسم مفعول من "شَهَرْتُ الأمرَ"، إذا أعلنتُهُ، وأظهرتُهُ، وسُمِّيَ بذلك؛ لظهوره.

ب - اصطلاحًا: ما رواه ثلاثة - فأكثر في كل طبقة - ما لم يبلغ حد التواتر.

 

مثاله:

قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا))[34].

 

وأما المُسْتَفِيض فيعرف كما يلي:

أ - لُغَةً: اسم فاعل من "استفاض" مشتق من فاض الماء، وسُمِّيَ بذلك؛ لانتشاره.

ب - اصطلاحًا: اختلف في تعريفه على ثلاثة أقوال، وهي:

1 - هو مرادف للمشهور.

2 - هو أخصُّ منه؛ لأنه يشترط في المستفيض أن يستوي طرفا إسناده، ولا يشترط ذلك في المشهور.

3 - هو أعم منه؛ أي: عكس القول الثاني.

 

المشهور غير الاصطلاحي:

ويُقصد به ما اشتهر على الأَلْسِنة من غير شروط تُعتَبر، فيشمل:

أ - ما له إسناد واحد.

ب - وما له أكثر من إسناد.

التحميلات المرفقة

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 242 مشاهدة
نشرت فى 19 مايو 2011 بواسطة Islamisright

ساحة النقاش

محمود داود دسوقي خطابي

Islamisright
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

250,856