البعد الديني في السياسة الخارجية: جدالات الفكر والحركة

الجزء الثاني

د. عصام عبد الشافي

 

المطلب الثالث: البعد الدينى وتغير طبيعة دراسة السياسة الخارجية

كان لتزايد الاهتمام بالبعد الديني في دراسة وتحليل السياسة الخارجية، فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، العديد من التأثيرات على طبيعة هذه الدراسة على عدة مستويات، سواء ما يتعلق منها بالفواعل الرئيسة في السياسة الخارجية، وفي العمليات التي تقوم عليها، وكذلك في القضايا التى تتصدى لها، سواء كانت هذه القضايا قضايا جديدة ذات بعد ديني، أو قضايا تقليدية صلدة، تصاعد الاهتمام بالبعد الديني فيها:

أولاً: الفاعلون الدوليون:

فى إطار التعريف الحديث للسياسة الخارجية، وخاصة وفق مقولات منظور المجتمع العالمي، يتم تعريف وحدات هذه السياسة، أى الفاعلين المؤثرين فيها، طبقاً لمعيار الاستقلال، أي القدرة على صياغة وتطبيق برنامج عمل قادر على التأثير في مسار السياسة الخارجية، وبالتبعية في مجري العلاقات الدولية، وبشكل لا يمكن التنبؤ به بمجرد معرفة خصائص الوحدات الأخرى، وذلك في إطار تنظيمي معين(<!--).

واستناداً لمقولات هذا المنظور وغيره، وأمام التحولات النظرية والعملية التى شهدتها العلاقات الدولية بصفة عامة، والسياسة الخارجية بصفة خاصة، انتقلت النظرة للفاعلين غير الرسميين من حالة التهميش والتبعية إلى التأثير والاستقلال النسبي في السياسات الخارجية والداخلية (<!--). فالدول ليس الفاعل الوحيد في السياسات العالمية، كما لا تستطيع السيطرة علي مخرجات الفاعلين غير الرسميين، بل إنها قد تستخدم المنظمات غير الحكومية والفاعلين العابرين للقومية كأدوات لها أكثر من القوة العسكرية للحصول علي القوة(<!--).

وقد طرح ديفيد سينجر ما أسماه، "النموذج التنموى للسياسة العالمية"، والذي يقوم على أن النسق العالمي هو وحدة متكاملة تقوم على مجموعة من الأنساق والوحدات الفرعية التي تبدأ من وحدات داخل الدولة، ولكنها تؤثر في السياسة الخارجية بدرجات مختلفة، فالوحدات الداخلية قد تصبح، في بعض المراحل، وحدات للسياسة الخارجية(<!--).

وفي إطار هذا التعدد للفاعلين المؤثرين في السياسة الخارجية، برز تأثير البعد الدين من خلال وجود فاعلين غير حكوميين داخليين، وعبر قوميين، ممن لهم توجهات قيمية ودينية، كان لهم تأثير واضح ليس فقط على السياسة الخارجية للدول التي ينطلقون منها أو ينتمون إليها، ولكن في العديد من الدول، كما برز تأثير التيارات الدينية فى تشكيل توجهات ورؤى العديد من الوحدات الفاعلة في السياسة الخارجية، هذا بجانب تأثير المنظمات المعنية بحقوق الإنسان وحرياته، سواء الوطنية أو الدولية غير الحكومية، والتى تنطلق من اعتبارات قيمية، على سياسات العديد من الدول، وخاصة عند استخدام هذه القضية كورقة للضغط على بعض الدول لتغيير أو تعديل سياساتها الخارجية.

ثانياً: العمليات :

كان تصاعد الاهتمام بالبعد الديني في السياسة الخارجية أكثر بروزاً على مستوى العمليات التي تقوم عليها هذه السياسة، وفق المنظور الراهن لها، ومن أهم العمليات التى شكل البعد القيمي/ الديني، ركيزتها الأولى القوة المرنة، والدبلوماسية العامة والتدخل الإنساني.

القوة المرنة (الناعمة):

في تعريفه للقوة الناعمة يرى جوزيف ناي (Joseph S. Nye)، أنها: "القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديد أو الجزاء. وهذه القوة تعتمد على الثقافة، والمبادئ السياسية، والسياسات المتبعة"(<!--). وقد شكلت القوة المرنة أو الناعمة، واحدة من أهم عمليات السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وكانت محل اهتمام العديد من دول العالم، وكانت الولايات المتحدة في مقدمة الدول التى اهتمت بهذه القوة، على المستوي الفكري والعملي، حيث تعددت الأدبيات التي تناولت هذه القوة وأبعادها، كما تعددت الممارسات التي تناولتها الإدارة الأمريكية (2000 ـ 2008) للاستفادة من هذه الأبعاد في سياستها الخارجية.

وتمثل القوة المرنة الشكل الثالث من أشكال القوة، وفق جوزيف ناي، حيث يري أن منظومة قوة الدولة أشبه برقعة شطرنج ثلاثية الأبعاد تمثل مظاهر القوة الثلاثة في العالم وهي: القوة العسكرية والاقتصادية والثقافية. ويرى أن الولايات المتحدة تتمتع بقوة لا تقبل المناقشة على المستويات الثلاثة، لكنها تتجاهل البعد الثالث للقوة وهي القوة الثقافية أو (القوة الناعمة)، والجزء الأكبر من مشكلات العالم المضطرب تنبع من هذا المستوى الثالث للقوة الذي لا يهتم به أحد كثيرا. فالولايات المتحدة مازالت تصب اهتمامها على المستوى الأول من القوة أي القوة العسكرية (القوة الصلبة) رغم انفرادها بالسيطرة المطلقة على العالم من هذه الزاوية(<!--).

ومن مفهومها، وأدوات تأثيرها، يمكن القول أن القوة الناعمة، هى التجسيد الواقعي للأبعاد القيمية والدينية فى السياسة الخارجية، وبلغ من أهميتها وتأثيرها، النظر إليها على أنها تشكل الضلع الثالث لمثلث القوى التي تتمتع به أية دولة من دول العالم، وهو ما يعكس مدى الاهتمام بها كعملية محورية في السياسة الخارجية، وجاء هذا الاهتمام ترسيخاً لتزايد الاهتمام بالبعد القيمي والديني في السياسة الخارجية، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فكراً وممارسة.

الدبلوماسية العامة

يعد مفهوم الدبلوماسية العامة (Public Diplomacy) من المفاهيم القديمة التي اتخذت مدلولات حديثة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وتقوم الدبلوماسية العامة، وفقاً لتعريف مركز الولايات المتحدة للدبلوماسية الشعبية"، علي الطرق التي تستخدمها الدول، أو المنظمات الدولية، للاتصال بالمواطنين في المجتمعات الأخرى. والنظر للحوار على أنه الوسيلة المركزية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية (<!--).

وطبقاً لتقرير اللجنة الاستشارية الأمريكية للدبلوماسية الشعبية،1991، فإن الدبلوماسية العامة هي "التبادل المفتوح والحر للأفكار والمعلومات، والذى يعد سمة ملاصقة للمجتمعات الديمقراطية". كما أنها "الترويج للمصالح الوطنية عن طريق إعلام وإخبار المواطنين إلي جانب جذبهم والتأثير عليهم"(<!--).

وقد تعددت التحولات التى أدت لتطور الدبلوماسية العامة، حتى أصبحت من أهم عمليات السياسة الخارجية، ومن هذه المتغيرات: ثورة الاتصالات والمعلومات التي سهلت نقل المعلومات والأفكار بل والقيم، مما أدي لزيادة تنوع وكم المعلومات إلي جانب ارتفاع وعي الجماهير. كما أصبح الرأي العام يمثل قوة يعتد بها في الشؤون الدولية، وأصبح يؤثر بصورة كبيرة في اتخاذ القرارات والتأثير عليها، وكذلك ظهور فاعلين سياسيين إلي جانب الدولة القومية، مثل المنظمات الدولية، والشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية، والتي اعتمدت على التواصل مع الشعوب والمجتمعات المحلية، كأهم أدوات تحقيق أهدافها(<!--).

وقد كان لهذه المتغيرات تأثيرها في الاهتمام بالدبلوماسية العامة والعمل علي تفعيلها، بحيث تكون أداة للحوار والتفاهم وبناء علاقات صديقة بين الدول، إلي جانب كونها أداة لتنفيذ السياسة الخارجية. فالدبلوماسية العامة في جوهرها، هى العمل على نقل القيم والثقافات والحضارات، وترسيخها في الدول المستهدفة، لخلق قيم وتوجهات مؤيدة لسياسات ومواقف الدولة التى تقود هذه الدبلوماسية، وفى ذلك تعزيز وترسيخ للأبعاد القيمية والدينية والثقافية والحضارية في السياسات الخارجية لهذه الدول(<!--).

التدخل الإنساني:

شهدت مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تصاعداً في عمليات التدخل لاعتبارات إنسانية، التي قامت بها الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، في عدد من دول العالم، كما حدث بشأن التدخل الأمريكي فى الصومال، وفي هايتي، وفى العراق، وكذلك التدخل الفرنسى فى رواندا، حيث كانت الاعتبارات الإنسانية أحد المبررات التي تم رفعها في هذه الحالات وغيرها، بدعوى حماية حقوق الإنسان وحرياته، ونشر قيم الديمقراطية والحرية(<!--).

إلا أن رفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان لإضفاء المشروعية على التدخل، يتجاهل النقد التقليدى للديمقراطيات الليبرالية، كما يتجاهل مسألة المفاضلة بين حقوق الإنسان وأولوية بعضها على البعض الآخر، نظراً لأن الدعوة للتدخل من أجل حقوق الإنسان وفق المفهوم الغربى، تركز على الحقوق السياسية، دون الحقوق الاقتصادية التى تراها بعض الدول أكثر أهمية. كما أن التدخل الإنسانى ـ إذا ما أقرت مشروعيته ـ فسوف يستخدم فقط من دول قوية نسبياً، ضد دول ضعيفة نسبياً. وسيستخدم كذريعة لحماية المصالح الاقتصادية؛ أو لتبرير التدخلات التى تكون بواعثها ضد الإنسانية(<!--).

وإذا كان التدخل الدولي الإنساني، أصبح يمثل واحداً من أهم عمليات السياسة الخارجية، والتي يبرز فيها تأثير الأبعاد القيمية والدينية، فإنه يمكن القول أن الإشكالية ليست فى قبول أو رفض مبدأ التدخل الإنسانى، وإنما فى كيفية ممارسته على نحو منضبط، ومعاملة جميع الحالات التى تتطلب التدخل الإنسانى معاملة واحدة من حيث المبدأ. وأن يتم اتخاذ قرارات التدخل فى جميع الحالات من خلال الأمم المتحدة.

ثالثاً: القضايا:

ساعد الاهتمام بالأبعاد الدينية في دراسة السياسة الخارجية، على بروز مجموعة من القضايا الجديدة، التي تشكل هذه الأبعاد محوراً رئيساً في تكييفها، وتحديد طبيعتها وخصائصها، كقضايا حرب الأفكار والتغيير الثقافي، والدفاع عن الحقوق والحريات الإنسانية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد ساعد هذه الاهتمام، على إثارة منظري السياسة الخارجية للبحث عن موقع هذه الأبعاد في القضايا الصلدة التقليدية للسياسة الخارجية.

1ـ بروز قضايا جديدة ذات بعد ديني:

كان في مقدمة القضايا الجديدة التي شكلت محلاً لاهتمام منظرى السياسة الخارجية، والتي تشكل الأبعاد الدينية والقيمية، أهم الأبعاد التي تقوم عليها، قضايا حرب الأفكار والتغيير الثقافى، وحقوق الإنسان، وحوار الأديان، حيث تمحورت دراستها على البحث في المقومات الدينية والقيمية والثقافية والحضارية للشعوب، وبيان مدى تأثيرها على محددات وتوجهات وأدوات السياسة الخارجية للدول المختلفة.

أ) حرب الأفكار: مع ما أفرزته أحداث سبتمبر من تداعيات، ثار الجدل داخل المجتمع الأمريكي بشأن التأييد الشعبي في العالم الإسلامي لتنظيم القاعدة، والأفكار التى يدعو إليها، وكان من إفرازات هذا الجدل، بروز قضية حرب الأفكار، كأحد أهم قضايا السياسة الخارجية الأمريكية في مرحلة ما بعد هذه الأحداث، حيث انطلقت الإدارة الأمريكية من أن التغلب على تنظيم القاعدة، وغيره من التنظيمات التي تصفها بالإرهابية، لن يتحقق إلا من خلال شن حرب أفكار مضادة لما يقوم عليه من أفكار.

وتقوم هذه الحرب على عدد من الآليات، من بينها: الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاحات السياسية، وتغيير خريطة العالم الإسلامي، والغزو الثقافي عبر الفضائيات والإذاعات والاعتماد على الصورة بدلاً من الموضوع، كخطوة لتغيير مفاهيم شعوب المنطقة، خاصة فئة الشباب، وفرض مناهج تعليمية جديدة تعمل على تذويب الهوية الثقافية العربية والإسلامية والتراث التاريخي والديني لهذه الشعوب(<!--).

ومن خلال طبيعة هذه الحرب وآلياتها، تتضح محورية الأبعاد القيمية والدينية التي تقوم عليها، حيث تتجه بالأساس إلى هذه الأبعاد فى الدول المستهدفة، والتي تمثلت بالأساس، في مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر، فى الدول العربية والإسلامية.

ب) حقوق الإنسان: شكلت قضية حقوق الإنسان، أحد أهم قضايا السياسة الخارجية في العقدين الأخيرين، حيث تبنت الدول الكبرى هذه القضية، وجعلت من الدفاع عنها، وفق رؤيتها، وبما يتفق ومصالحها، أحد أولويات سياستها الخارجية. وفى هذا السياق نصت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، 2002، على أن الولايات المتحدة تأخذ على عاتقها الدفاع عن "الحرية" و"العدل"؛ فهذان المبدآن يسعى وراءهما جميع أجناس الأرض. فلا يوجد مجتمع إلا ونجده يأمل ويرغب في "تحرير" أبنائه من الفقر والظلم والعنف. ومن ثم يتحتم على الإدارة الأمريكية أن تقف بكل بصرامة ضد كل ما يهدد وجود الكرامة الإنسانية التي لا يختلف عليها اثنان، والدستور الأمريكي يتضمن كل ما تتطلبه الكرامة الإنسانية من حرية العبادة، وحرية الكلمة، والعدالة، والتسامح الديني والإثني، واحترام الملكية الخاصة، واحترام المرأة، وتحديد سلطة الدولة، وسيادة القانون".

وعن أدوات ذلك: إدانة كل اختراق أو انتهاك يهدد وجود الكرامة الإنسانية؛ وذلك من خلال المؤسسات والمنظمات الدولية، واستخدام المعونات الخارجية الأمريكية من أجل تدعيم "الحرية"، وتطوير المؤسسات الديمقراطية في إطار العلاقات الثنائية، وبذل جهود خاصة من أجل تدعيم حرية العبادة، وحمايتها من ضغوط الحكومات القمعية"(<!--).

وهذه النصوص وغيرها، تكشف عن طبيعة هذه القضية، ومنطلقاتها، وتأثير الأبعاد القيمية والدينية في تشكيلها، وصياغة توجهاتها، فالمعايير التي تنطلق منها سياسات الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، في تعاطيها مع هذه القضية، تستند إلى قيمها وتصوراتها ومخزونها الفكري والثقافي، دون مراعاة لخصوصية دول العالم الأخرى، الدينية والثقافية، والتي قد تتعارض مع هذه المنطلقات، فالهدف من وضع هذه القضية على أجندة السياسة الخارجية، هو فرض المعايير والتصورات الأمريكية، على هذه الدول، واستخدام هذه القضية كأداة ضغط بما يتفق ومصالحها الإستراتيجية، وهو ما يؤكد التداخل بين الأبعاد الدينية والمصلحية، في السياسة الخارجية الأمريكية، بصفة عامة، وتجاه الدول العربية والإسلامية بصفة خاصة.

(ج) حوار الأديان: شكلت قضية حوار الأديان، إحدى قضايا السياسة الخارجية للعديد من الدول، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وجاء الاهتمام بهذه القضية نابعاً من عدة اعتبارات، من بينها: سعي بعض الدول إلى نشر وترويج معتقداتها الدينية والقيمية، أو احتواء التوجهات الدينية لبعض الدول والتنظيمات التى ترى فيها تحدياً لمنظومتها القيمية، أو الرغبة في تحسين صورتها والتصدى للاتهامات التى توجه لها بدعم الإرهاب والفكر المتطرف، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية فى مقدمة هذه الدول، حيث تبنت الدولتان العديد من السياسات، ورعت العديد من الفعاليات فى إطار هذه القضية.

وفي هذا السياق تعددت مؤتمرات حوارات الأديان، كأحد الأدوات التي اعتمدت عليها هذه الدول في سياستها الخارجية، بل إن هذه القضية كانت محلاً لاهتمام العديد من المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة، التي أصدرت تقريراً بعنوان "تجاوز الانقسام ـ حوار بين الحضارات"، 2001، تناول نموذجاً للحوار بين الأديان، يقوم علي ترسيخ سياسات التوافق الإقليمي، والتفاهم والتعاون بدلا من السياسات الوطنية القائمة على المصلحة الذاتية (<!--).

وأمام هذه الأهمية، كانت قضية حوار الأديان  محلاً لاهتمام منظرى السياسة الخارجية، لوضع الأطر التحليلية والتأصيلية التي ترتكز إليها، وكيفية التعاطي معها، فكراً وممارسة. وخاصة من حيث أنماط تسييس هذه الحوارات وتأثيراتها على إدارة الصراعات المتصلة بها، وخاصة الصراعات بين العالم الإسلامي والغرب، وتحديداً فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث أضحى العالم الإسلامى مستهدفاً بجانب كبير من هذه المبادرات على نحو أفرز ردود فعل عديدة(<!--).

2ـ بروز الأبعاد الدينية لقضايا تقليدية:

كان من بين التأثيرات التى أفرزها الاهتمام بالأبعاد القيمية والدينية على دراسة السياسة الخارجية، تصاعد الاهتمام بهذه الأبعاد عند دراسة وتحليل القضايا التقليدية التي تقوم عليها هذه السياسة، كالصراع السياسي، واستخدام القوة في تسوية النزاعات، وحماية المصالح الوطنية، مع تغير طبيعة النظرة للصراع بمفهومه العام، والنظر إليه على أنه تعبير طبيعي عن الفروق والاختلافات الاجتماعية، وأنه جزء من النضال والكفاح الإنساني المستمر من أجل تحقيق العدالة وتقرير المصير، وأنه لا يمكن إلغاء الصراعات، بل وضع حد للطبيعة الدائرية للصراع، عن طريق الإقرار بوجود مصالح مختلفة، وأنه من الممكن أن يكون الصراع إيجابيًا، إذا تمت إدارته بشكل فعال، وأنه بالرغم من أن الصراع يشمل أطرافًا سياسية وعسكرية، إلا أنه يمكن أن يشمل البنى التحتية في المجتمع، وبالتالي، فإن تسوية الصراعات ذات الطبيعة الممتدة يجب أن تتم على كافة المستويات وبشكل متزامن(<!--).

ونتيجة لهذا التغير فى طبيعة الصراع، تغيرت النظرة لدور الفاعلين غير الرسميين في إدارته، وبرز مفهوم "دبلوماسية المسار الثاني" تعبيراً عن هذا الدور وترسيخاً وتأطيراً له(<!--). وجاء ترسيخ هذا المفهوم ضمن المنظور النفسي الإتصالي للصراعات، والذي يعتبر أن العوامل النفسية والإدراكية تلعب دورًا في تعويق أو تسهيل حل الصراع، أي أنسنة الصراع من خلال الاعتراف بالمظالم، وقبول الشكاوي والتعهد بإدارة العلاقات على أساس جديد وبشكل أخلاقي وخلاق وتعاوني (<!--).

هذه بالإضافة إلى عدة مسارات نوعية، تساهم فى بناء قدرات السلام بعد الصراع، وهي: مسار البحوث، ومسار التعليم، ويتعلق بإعادة النظر في النظام التعليمي، وتنقية التعليم من المعلومات والآراء التي تؤدي لتأجيج الصراع، وبث أفكار تؤدي لثقافة السلام. ومسار المجتمع المدني، ثم المسار الديني، ويضم رجال الدين من أطراف الصراع المختلفة، الذين يمكن أن يلعبوا دورا في دعم ثقافة السلام ومنع الصراع، خاصة إذا كان للبعد الديني دور في اشتعال الصراع(<!--).

 

خاتمة

من واقع هذا الرصد، لتأثير البعد الديني في السياسة الخارجية (فاعلين، وعمليات، وقضايا)، تأتي أهمية التأكيد على عدد النتائج الأساسية:

ـ أن السياسة الخارجية هي عنصر من عناصر السياسات الدولية، ليس بوصفها تعبيرا عن أهداف داخلية، إنما بوصفها نموذج من نماذج السلوك الدولي. فدراسة النشاط الداخلي في مواجهة العالم الخارجي هى من صميم السياسة الخارجية، ولكن دراسة هذا النشاط كنموذج من نماذج المواقف التي يعبر عنها المجتمع الدولي هى أحد أهداف دراسة العلاقات الدولية، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية فإن السياسة الدولية تفترض وجود علاقات تقاطعية وتفاعلية بين أكثر من دولة، ومع طبيعة ما شهده العالم من تحولات في العقود الأخيرة، فإن هذه العلاقات تتم عبر أكثر من مستوي، رسمي وغير رسمي، فالسياسة الدولية لا تقتصر على مجرد العلاقات بين الدول، أو بين الهيئات الحكومية والرسمية، بل تتعدى ذلك إلى العلاقات بين مختلف التنظيمات غير الحكومية طالما أخذت الصفة الدولية، والصفة الدولية لا تعني فقط الصفة الحكومية، وإنما تتعداها لترتبط بكل ما هو معبر عن أكثر من مجتمع سياسي واحد.

ـ أن السياسة الخارجية، كعملية، لا تقوم فقط على الشق الرسمي، الذى تضطلع به الجهات والهيئات والمؤسسات الحكومية، ولكنها تتضمن كذلك مواقف القوى المؤثرة في عملية صنعها، سواء كانت هذه القوى تيارات فكرية (دينية أو سياسية)، أو قوى اجتماعية فاعلة، أو مراكز بحثية، معنية بعملية صنع السياسة الخارجية، وهو ما يتطلب مراعاة طبيعة مواقف هذه القوى ودرجة تأثيرها، عند تحليل السياسة الخارجية لدولة من الدول، خاصة مع وجود العديد من المؤشرات عن بعض الحالات والتجارب التي تشير إلى أن تأثير هذه القوى يفوق، أحياناً، تأثير بعض الجهات والهيئات الرسمية.

ـ أن تأثير البعد الديني في السياسة الخارجية، تأصيلاً وممارسة لم يقف فقط عند دراسة الواقع الراهن للسياسة الخارجية، ومكوناتها، ولكنه امتد ليطرح العديد من الإسهامات سواء على مستوي التأصيل النظري للسياسة الخارجية (من خلال المداخل التحليلية والاقترابات المنهجية) أو على مستوى الممارسة (من خلال التأثير في مكونات هذه السياسة، وتقديم فاعلين جدد، وإثارة قضايا جديدة تشكل الأبعاد القيمية والدينية، أهم ركائزها ومنطلقاتها، وكذلك طرح عدد من العمليات ذات الطبيعة القيمية والدينية لتكون في مقدمة آليات دول العالم، خاصة الكبرى منها، في تنفيذ سياستها الخارجية).

 

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) Raymond Hopkins & R. Manasbach, Structure and Process in International Politics, (New York: Harper and Row, 1973), p. 4.

(<!--) محمد محمود ربيع، وإسماعيل صبري مقلد (محرران)، موسوعة العلوم السياسية، (الكويت، مطبوعات جامعة الكويت، ١٩٩٤)، ص ٤٨٦.

(<!--) د. محمد السيد سليم، تطور الإطار النظري لعلم السياسة الدولية، مجلة السياسة الدولية، (القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 161، يوليو 2005)، ص ص ٤٦ ـ 51.

(<!--)  David Singer, "The Global System and its Subsystems: A Development View", in: James Rosenau (ed.), Linkage Politics, (New York: Free Press, 1969), pp. 21-43.

(<!--)  جوزيف ناي، القوة الناعمة والكفاح ضد الإرهاب ترجمة: إبراهيم محمد علي، موقع بروجيكت سنديكيت، إبريل 2004.

(<!--)  Joseph S. Nye, Soft Power: The Means to Success in World Politics, (New York: Public Affairs, 1st edition, 2004)

(<!--) الموقع الالكتروني للمركز الأمريكي للدبلوماسية الشعبية : www.uscpublicdiplomacy.org

(<!--) The US Advisory Group on Public Diplomacy for the Arab and Muslim. "Changing Minds Winning Peace: A New Strategic Direction for U.S. Public Diplomacy in the Arab & Muslim World." US House of Representatives, October 1, 2003, p 13

(<!--) State Department Report, “Public Diplomacy for the 21st Century”, 1995. Available Online on: http://www.state.gov/r/adcompd/1995rep.html

(<!--)  Mark Leonard, "Diplomacy by Other Means." Foreign Policy, Vol. 132, Sep.- Oct. 2002, pp. 50- 51

(<!--) ياسر الحويش، مبدأ عدم التدخل واتفاقيات تحرير التجارة العالمية، رسالة دكتوراه في القانون، (القاهرة، جامعة عين شمس، كلية الحقوق، 2001)، ص ص 158 ـ 164.

(<!--) مسعد عبد الرحمن، تدخل الأمم المتحدة فى النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولى، رسالة دكتوراه فى القانون الدولى العام، (القاهرة، جامعة القاهرة، كلية الحقوق، 2001)، ص 99 ـ 100.

(<!--)  Robert Satloff, The Battle of Ideas in the War on Terror: Essays on U.S. Public Diplomacy in the Middle East, Washington Institute for Near East Policy, 2004), pp 3-9

(<!--) شيرين حامد فهمي، ملخص الوثيقة الخاصة بإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي البيت الأبيض، سبتمبر 2002. http://www.islam-online.net/arabic/politics/2002/10/article05.SHTML

(<!--) هانز كينج، الحوار بين الأديان والأمم، مجلة التسامح، (مسقط، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، العدد السابع عشر، شتاء 2007)، ص ص 204 ـ 208.

(<!--) د. نادية محمود مصطفي، جدالات حوار/ صراع الحضارات: إشكالية العلاقة بين السياسي ـ الثقافي في خطابات عربية وإسلامية، مجلة المسلم المعاصر، بيروت، العدد 121، سبتمبر 2006ص ص 7ـ 51.

(<!--) خالد حنفي، الدبلوماسية غير الرسمية: دور المسار الثاني في تسوية الصراعات الإقليمية الممتدة، سلسلة قضايا، (القاهرة، المركز الدولي للدراسات المستقبلية والإستراتيجية، مارس 2007)، ص ص 7 ـ 10.

(<!--) Oliver P.  Richmond, NGOs and an Emerging Form of Peacemaking: Post- Westphalian Approaches, working paper, International Studies Association 41st Annual Convention, Los Angeles, CA, March 14-18, 2000.

(<!--) William D. Davidson, Joseph V. Montville, “foreign Policy According to Freud", Foreign Policy, No. 45, Winter, 1981-1982, pp. 145-157.

(<!--) Becky Nesbit, The Role of NGOs in Conflict Resolution in Africa: An Institutional Analysis, Presented at the Institutional Analysis and Development Mini-Conference, (Indiana, Indiana University, May 3rd and 5th, 2003).

المصدر: مجلة السياسة الدولية، العدد 191، يناير 2013
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1472 مشاهدة
نشرت فى 10 يونيو 2013 بواسطة ForeignPolicy

ساحة النقاش

ForeignPolicy
موقع بحثي فكري، يعني بالعلوم السياسية بصفة عامة، والعلاقات الدولية، بصفة خاصة، وفي القلب منها قضايا العالمين العربي والإسلامي، سعياً نحو مزيد من التواصل الفعال، وبناء رؤي فكرية جادة وموضوعية، حول هذه القضايا، وبما يفيد الباحثين والمعنيين بالأمن والسلام والاستقرار العالمي. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

106,249

ترحيب

يرحب الموقع بنشر المساهمات الجادة، التى من شأنها النهوض بالفكر السياسي، وتطوير الوعي بقضايانا الفكرية والإستراتيجية، وخاصة في  العلوم السياسية والعلاقات الدولية