العدالة الانتقاليّة بعد الثورات الشعبية: قضايا وإشكاليات

د. عصام عبدالشافي

 

تقوم العدالة الانتقالية على عدة ركائز رئيسة لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية، هي: المحاكمات (سواء المدنية أو الجنائية، الوطنية أو الدولية، المحلية أو الخارجية)، والبحث عن الحقيقة وتقصي الحقائق (سواء من خلال تحقيقات رسمية وطنية مثل لجان الحقيقة أو لجان التحقيق الدولية أو آليات الأمم المتحدة أو جهود المنظمات غير الحكومية)، وجبر الضرر (سواء من خلال التعويض الرمزي أو العيني أو إعادة التأهيل)، والإصلاح المؤسسي (بما في ذلك الإصلاحات القانونية والمؤسسية وعزل مرتكبي هذه الانتهاكاات من المناصب العامة وإقامة تدريب حول حقوق الإنسان للموظفين العموميين)، وإقامة النصب التذكارية سعيا لتأسيس "الذاكرة الجماعية".

ويتمثل جانب من الأساس القانوني للعدالة الانتقالية في القرار الذي أصدرته محكمة الدول الأمريكية في قضية فيلاسكويز رودريجز ضد هندوراس عام 1988، والذي خلصت فيه المحكمة إلى أن جميع الدول تقع على عاتقها أربعة التزامات أساسية في مجال حقوق الإنسان، وهي: اتخاذ خطوات معقولة لمنع انتهاكات حقوق الإنسان، وإجراء تحقيقات جادة بشأن الانتهاكات عند وقوعها، وفرض عقوبات ملائمة على المسؤولين عن الانتهاكات، وضمان تقديم تعويض لضحايا الانتهاكات.

وقد أكدت المحكمة هذه المبادئ صراحة في قراراتها اللاحقة، كما تم التأكيد عليها في قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وهيئات الأمم المتحدة ذات الصلة كاللجنة المعنية بحقوق الإنسان. وكان إنشاء المحكمة الجنائية الدولية عام 1988 من التطورات المهمة في هذا الصدد أيضاً، إذ يكرس النظام الأساسي للمحكمة التزامات بالغة الأهمية تقع على عاتق الدول، مما يستوجب منها القضاء على ظاهرة إفلات الجناة من العقاب، وترسيخ احترام حقوق الضحايا.

واليوم، تمر معظم الدول العربية بالعديد من التحولات الجوهرية التى طالت بناها السياسية والإجتماعية والإقتصادية، تحولات نتجت عن حراك شعبي واسع النطاق في هذه الدول، حراك جاء متبايناً بين دولة وأخرى، فبعضه نتج عنه تغيير شبه جذري في قمة النظام السياسي، وبعضه دخل في صدامات داخلية بين الحراك الشعبي والنظام، وتطور بعضه إلى صدام مسلح، وفي حالات أخرى إندفع حكام بعض الدول الى الإعلان عن جملة إصلاحات إستباقية، تحسبا لإحتمالات تحركات شعبية يمكن أن تنال من شرعية هؤلاء الحكام واستقرار نظمهم.

وأيا كانت المتغيرات وطبيعتها ومحدداتها وسياقاتها، فإن أحد أهم مكوناتها يرتكز بدرجة رئيسة على العدالة الإنتقالية، وخاصة ما يرتبط منها بأوضاع حقوق الإنسان في البلاد التي شهدت هذه التحولات، وإلى أي مدى تتطابق القوانين القائمة مع مفاهيم العدالة والمنظومة الدولية الخاصة بها، وبنية وتركيبة النظم والمؤسسات الحاكمة للجهاز القضائي والعقابي، ومكونات وصلاحيات الأجهزة الأمنية والرقابة المدنية المفروضة على تلك الأجهزة.

ويتمثل الهدف الرئيس للعدالة الانتقالية في السعي إلى بلوغ العدالة الشاملة أثناء فترات الانتقال السياسي ومعالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي، ومساعدة الشعوب على الانتقال بشكل مباشر وسلمي وغير عنيف بهدف الوصول إلى مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية.

فالسياسة القضائية المسؤولة في المراحل الانتقالية يجب أن تتوخى هدفاً مزدوجاً: المحاسبة على جرائم الماضي، ومنع الجرائم الجديدة من الوقوع وفق استراتيجية تعتمد إعادة بناء وطن يسع الجميع، قوامه احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، دون إقصاء أو استبعاد، ودون غرس لأسس جديدة، تكون معولاً في هدم مستقبله.

وتنطلق فلسفة العدالة الانتقالية من أن المطالبة بالعدالة الجنائية ليست شيئا مطلقاً، ولكن يجب أن تتم موازنتها بالحاجة إلى السلم والديمقراطية والتنمية العادلة وسيادة القانون. ويعتبر كذلك أنه في السياقات الانتقالية قد تكون ثمة قيود عملية فقط على قدرة بعض الحكومات على اعتماد إجراءات قضائية خاصة. وقد تشمل هذه القيود نقصاً في الموارد البشرية والمادية أو نظاماً قضائياً ضعيفاً أو فاسداً أو سلاماً أو انتقالاً ديمقراطياً هشاً أو عيوب في الأدلة الجنائية أو وجود عدد كبير من مرتكبي الأفعال أو عدد كبير من الضحايا أو عراقيل مختلفة قانونية أو دستورية مثل قوانين العفو. غير أنه في إطار العدالة الانتقالية، لا تعتبر هذه القيود مبرراً لعدم القيام بأي شئ بل كلما تحسنت وضعية إحدى البلدان مع مرور الوقت، يتوقع من الحكومة التى جاءت بإرادة شعبية أن تحاول إصلاح المظالم الناجمة عن هذه القيود، والتخفيف من وطأتها، وتوصيل رسائل إطمئنان للجميع بأن الحق سيعود لأصحابه، مهما طال الزمن، ومهما كانت قوة من انتهكه.

ومن هنا تصبح القضايا الرئيسة، للعدالة الانتقالية، وللقائمين عليها، بصفة عامة، وفي التجربة المصرية بصفة خاصة، هي الإجابة على عدد من التساؤلات الأساسية، لعل في مقدمتها:

1ـ ما هي الأطر الحاكمة (التشريعية والتنظيمية والمؤسسية) للعدالة في الخبرة المصرية قبل الثورة؟

2ـ ما هي المعايير الرئيسة التي يمكن من خلالها تقييم طبيعة العدالة التقليدية في مصر قبل الثورة؟ وإلى اى مدى كانت هذه العدالة، بسماتها وخصائصها، دافعا ومحفزا لنشوب هذه الثورة الشعبية؟

3ـ ما هي انعكاسات نمط وسمات العدالة التقليدية في مصر قبل الثورة، على العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد الثورة؟

4ـ ما هي الإجراءات التي تمت في إطار تعزيز العدالة في المرحلة الانتقالية بعد الثورة، وإلى مدي تتوافق مع الركائز الرئيسة التي تقوم عليها العدالة الانتقالية المتفق عليها من الخبرات الدولية والعربية السابقة، ومن القوانين الدولية التي تحكمها؟

5ـ ما هي التحديات والمعوقات التى تحول دون تحقيق ركائز العدالة الانتقالية، في مصر بعد ثورة يناير؟

6ـ إلى أي مدي يمكن طرح نموذج لعدالة انتقالية ناجزة في مصر بعد الثورة، يراعي مدخلات البيئة المحيطة (الداخلية والخارجية)، ويتوافق مع متطلبات العدالة الانتقالية الراسخة؟

إلا أن الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها تصطدم بالعديد من الإشكاليات التي ينبغي وضعها عين الاعتبار، وإدراك تأثيراتها على مسارات العدالة خلال المرحلة الانتقالية، ومن بين هذه الإشكاليات:

1ـ إشكالية الاستمرارية والمرحلية: أى هل تكون الإجراءات المتبعة في إطار العدالة الانتقالية، مؤقتة ومحددة المدة، أم أنها تتسم بالثبات والاستمرارية؟

2ـ إشكالية التأثير والتأثر: هل العدالة الانتقالية متغير تابع أم مستقل للإصلاحات السياسية والتحولات الديمقراطية؟

3ـ إشكالية المحدودية والشمولية: هل العدالة الانتقالية جزء أم كل من العدالة الاجتماعية؟

4ـ إشكالية الداخل والخارج: هل العدالة الانتقالية ستراعي خصوصية المجتمع وسماته الأساسية، أم ستعتمد بالأساس على نقل النماذج والخبرات الدولية والإقليمية المتشابهة؟

5ـ إشكالية التواصل: هل العدالة الانتقالية ستنفصل كلياً عن العدالة التقليدية بكل مكوناتها (التشريعية، التنظيمية، المؤسسية)، أم ستشكل امتداداً لها في بعض الجوانب التي تصلح للبناء عليها؟

6ـ إشكالية الوقت: هل ستتأثر العدالة الانتقالية بعامل الوقت، وضغط التحولات والتغيرات المتسارعة، أم سيحرص القائمون عليها على العمل بعيداً عن هذه المتغيرات لضمان الفعالية؟

7ـ إشكالية الدعم: هل ستتأثر العدالة الانتقالية بمدى توفر الموارد البشرية والمادية فى الإجراءات والركائز التي تقوم عليها، أم ستكون الأولوية للإنجاز دون مراعاة هذه المتغيرات؟

الطريق طويل، والعمل شاق، ويحتاج لتضافر جهود كل الساعين نحو الحقيقة، كل المؤمنين بقيمة العدالة، كل المتوقين لغد أكثر تسامحاً .. لكن دون جور أو ظلم في الماضي أو الحاضر، أو المستقبل.

المصدر: د. عصام عبد الشافي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 368 مشاهدة
نشرت فى 10 أكتوبر 2012 بواسطة ForeignPolicy

ساحة النقاش

ForeignPolicy
موقع بحثي فكري، يعني بالعلوم السياسية بصفة عامة، والعلاقات الدولية، بصفة خاصة، وفي القلب منها قضايا العالمين العربي والإسلامي، سعياً نحو مزيد من التواصل الفعال، وبناء رؤي فكرية جادة وموضوعية، حول هذه القضايا، وبما يفيد الباحثين والمعنيين بالأمن والسلام والاستقرار العالمي. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

106,284

ترحيب

يرحب الموقع بنشر المساهمات الجادة، التى من شأنها النهوض بالفكر السياسي، وتطوير الوعي بقضايانا الفكرية والإستراتيجية، وخاصة في  العلوم السياسية والعلاقات الدولية