( أ ) من السيرة العطرة
سنختار من السيرة العطرة قصة سجلها القرآن المجيد فى آياته الغر قال جل جلاله " عبس وتولى أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من إستغنى فأنت له تصدى، وما عليه ألا يزكى، وأما من جاءك يسعى، وهو يخشى فأنت عنه تلهى، كلا إنها تذكرة" سورة عبس الآيات 1-11.
هذه السورة من السور المكية،ونزلت فى أيام الدعوة الأولى، ومن أسباب النزول، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى مجلس ضم رؤوس الجاهليةيعظهم ويدعوهم إلى الإيمان،فإن إستجابوا له آمن من وراءهم من الأهل والأتباع، وبينما هم كذلك، إذا دخل عليه رجل فقير، أعمى، هو الصحابى الجليل عبد الله بن أم مكتوم رضى الله عنه، جاء يستعلم عن الآيات التى نزلت فى غيبته، فلم يجبه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فألح فى السؤال وألحف فلم يجبه صلى الله عليه وسلم، وإنما عبس وأعرض … والأعمى لا يحس بالنظرة العبوس والجبين المقطب ولكن رب العزة لا تخفى عليه منا خافية، لأنه عليم بذات الصدور … وما هى إلا برهة وجيزة حتى نزلت الآيات المجيدة مسجلة هذه الحادثة التى جرت بين رسول الله عليه الصلاة والسلام ورجل من ذوى العاهات، وفيها العتاب الشديد.
ولقد بقى أثر هذا العتاب حياً فى ضمير المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان كلما رأى الأعمى هش له ورحب به وقال (أهلاً بمن عاتبنى فيه ربى).
إن فى هذا التوجيه القرآنى إشارة إلى القيمة الحقيقيةللإنسان فى نظرة الإسلام القيمةالتى تقوم على الخير والعمل الصالح والتى رفعت من شأن هذا الأعمى الفقير الذى جاء متلهفاً لنص قرآنى جديد، يشرق به قلبه المتفتح بنور الإيمان حتى أصبح بذلك فوق أولئك السادة الأشراف الأصحاء ذوى الثراء العريض الذين أصيبوا بعمى القلوب وموت الأرواح.
( ب ) ومن سيرة الصحابة
وفى السيرة الخالدة للصحابة الكرام رضوان الله عليهم، نقف على مشاهد تبرز القيمة الحقيقية للإنسان .. وهذه واحدة من تلك الشاهد "فقد وقع خلاف بين أبى ذر الغفارى وبلال بن أبى رباح رضى الله عنهما، خلاف بين إثنين لولا أخوة الإيمان لقلت أنه بين نقيضين الأول : حر، عربى النجاد، أبيض، سليم الجسد، والثانى: مولى، أصله من أرض الحبشة، أسود، أحدب.
إحتد أبو ذر فقال لبلال (يا إبن السوداء) فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقـال: (يا أبا ذر: طف الصاع ليس لإبن البيضاء على إبن السوداء فضل) فما كان من أبى ذر إلا أن وضع جبهته على الأرض وأقسم بالذى رفع السماء، ألا يرفعها حتى يطأها بلال تكفيراً عن قولته التى لا يرتضيها الإسلام).
( جـ ) من سير التابعين
وهذه صورةأخرى تبرز القيمة الحقيقيةللإنسان، فقد كان عبد الملك بن مروان يأمر المنادى أن ينادى فى موسم الحج : أن لا يُفتى الناس إلا عطاء بن أبى رباح إمام أهل مكة، وعالمها، وفقيهها.
أتدرون كيف كان عطاء هذا؟ لقد كان أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، مفلفل الشعر، ولا يأمل المرء منه طائلاً … كان إذا جلس فى حلقته العلمية بين الآلاف فى تلاميذه: بدا كأنه غراب أسود فى حقل القطن، هذا الأسود، الأعور، الأفطس، جعلته حضارتنا إماماً يرجع إليه الناس فى الفتوى، ومدرسة يتخرج على يده الألوف من البيض، وهو عندهم محل الإكبار، والحب، والتقدير.
( د ) المعوقين فى الحضارة الإسلامية
الآن سنقف على صورة مشرقة من سجل حضارتنا الإسلامية، تبين ما قدمه المجتمع المسلم لهؤلاء الأحبة من أبنائه، وهو ما لم تفعله الأمم الأخرى إلا بعد العديد من القرون حين تقدمت هى، وتخلفنا، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
ففى أيام الخليفة العظيم الوليد بن عبد الملك، بنى أول مستشفى لمعالجة المجذومين، وكان ذلك عام 588 – 707م وكان هذا أول مستشفى من نوعه فى العالم أجمع.
أما فى أوروبا فإن مستشفيات الجذام لم تُبن قبل القرن الثانى عشر، وقد نقلها الصليبيون عن مستشفيات بلاد الشام، ومع ذلك ففى عام 1313م أمر الملك فيليب الجميل بحرق جميع المجذومين فى فرنسا.
وليست تلك هى المأثرة الفريدة لهذا الخليفة، فقد ذكر إبن عساكر بأنه " أعطى كل مُقعد خادماً، وكل أعمى قائداً … وذكر بعضهم أن الوليد لما ولُى إسحق بين قبيصة الخزاعى ديوان الزمنى بدمشق قال: لأدعن الزمن أحب إلى أهله من الصحيح، وكان يؤتى بالزمن حتى توضع فى يده الصدقة.
كان هذا فى القرن الأول الهجرى، أما فى عصرنا الحاضر، فإننا لو طفنا أرجاء الأرض لما وجدنا أمة تخص المُقعد بخادم يلازمه ليلاً نهاراً وتخص الأعمى بخادم يخرج به متى يريد، وحيث يريد!
وقد ظلت هذه المنشآت الإنسانية قائمة حتى العصور المتأخرة على الرغم من تغير الدول، وتبدل الأيام، فمن أين كانت تتغذى ويُنفق عليها؟
لقد أشاد الخلفاء والأمراء، والأغنياء، والأطباء أيضاً، هذه المشافى، ورصدوا لها الأوقاف الكبيرة، والتى كانت تُدر مواردها، أموال تكفى للقيام بحاجات المستشفى من غذاء وكساء ومحروقات وأدورية.
وبعد … فتلك جولة فى ربوع شريعتنا ورياض حضارتنا كنا معاً ننعم بعبق المجد، وشذى المدنية، وأريج الإنسانية السامية.
فما أحرانا ونحن فى واقعنا الراهن إلى نظرة جديدة لهؤلاء الأحبة من أهل البلاء تحمل لهم السعادة والعيش الكريم.
ساحة النقاش