الإصلاح فى القرآن (1)
عبد العزيز مصطفى الشامى
الحمد لله رب العالمين، سبحانه وتعالى له الحمد الحسن والثناء الجميل، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد تعرَّض مصطلح (الإصلاح) إلى كثيرٍ من الخلط والعبث الفكري من قِبَل بعض المنهزمين أمام الحضارة الغربية؛ ففرَّغوا الإصلاح من مضمونه الشرعي وجعلوه غطاءً على (تحريف الدين) و (إبطال الشريعة)؛ حتى أصبح مصطلح (الإصلاح) يثير الريبة والتوجس والقلق بين عامة المسلمين.
ولا شك أن الصلاح هو الغاية المطلوبة من العباد في الاعتقاد والأقوال والأعمال؛ فبغير الصلاح لا يُقبَل أي عمل ولا تحصل أي قربى، ولا توضع البركة في الأموال والأنفس والثمرات. وإن من الأشياء العظيمة أن يكون الإنسان صالحاً في قوله وعمله، ولكن الأعظم من ذلك أن يكون مُصلحاً في قوله وعمله؛ فالصالح قد اكتفى بنفسه عن الخلق، وأما المصلح فقد حمل هموم الخلق، وتصدى لإصلاحهم، وإن الصلاح يُستجلَب به الخير والبركة والنماء، أما الإصلاح فيدفع الله به عن البشر الشرَّ والهلاكَ.
ولما كَثُـر الحديث عـن الإصلاح في هذا الزمـان، وصـار الكل يرفع رايته ويتحدث باسمه، وصار بعض من يرفعون راية الإسلام - للأسف - يتشدقون بالإصلاح غيرِ المنطلِق من القرآن الكريم وقيمه وفضائله، فضلاً عن غيرهم ممن يدَّعون الإصلاح وهم في كل وادٍ يهيمون ويتقممون فضلات الغرب تارة والشرق تارة أخرى، مع الخيبة والخسار بسبب إعراضهم عن القرآن ومنهجه في إصلاح الأمم، من أجل ذلك وغيره كانت هذه الكلمات اليسيرة.
الإصلاح في القرآن:
ورد لفظ الصلاح في القرآن مضاداً للفساد، والإصلاح مضاداً للإفساد، وكلٌّ من الصلاح والفساد مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل الصلاح في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة، وإصلاح الله - تعالى - الشيءَ يكون تارة بخلقه إياه صالحاً، وتارة بإزالة ما فيه من الفساد بعد وجوده، وتارة يكون بالحكم له بالصلاح.
ولفظ «الإصلاح» لفظ قرآني له دلالات عظيمة. جاء الإصلاح في القرآن والسنة بصيغ متعددة تدل في مجملها على أن دين الله - تبارك وتعالى - يهدف إلى إصلاح الإنسان في الاعتقاد والسلوك والعبادات والمعاملات، واعتَبَر القرآنُ في عدة آيات منه أن الإصلاح مهمة الأنبياء - عليهم السلام - ووظيفتهم الأساسية. قال الله - تعالى - على لسـان شعيب - عليه السلام -: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
ورغم ذلك لا يختلف الأمر قديماً عنه في العصر الحديث؛ فقد حاول المفسدون اختطاف هذا الشعار العظيم، ومنهم فرعون؛ حيث اتهم موسى عليه السلام - وهو من المصلحين للناس في عقائدهم، ومرشدهم إلى ربهم - اتهمه فرعون بإظهار الفساد؛ وكأن فرعون يشير إلى أنه يتبنى الإصلاح منهجاً ويخاف على الناس من الفساد؛ مع أنه من أكبر الطغاة والمفسدين، فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].
وكعادة المنافقين في كل زمان ومكان تشابهت قلوبهم فاتحدت مشاربهم، يظنون أنهم على خير، وأنهم حُمَاة الإصلاح وروَّاده؛ فقد ادَّعى المنافقون قديماً أنهم مصلحون، كما ادَّعاه إخوانهم في العصر الحديث. قال - تعالى -: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: ١١].
والضابط الذي يميز بين المصلح حقيقة وبين مدَّعي الإصلاح بالباطل هو رب العالمين؛ فهو وحدَه من يحدد المصلِح والمفسِد. قال - جل وعلا -: {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإن تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْـمُفْسِدَ مِنَ الْـمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]، ويقول - سبحانه -: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْـمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
إن أعظم إصلاح جاء به القرآن العظيم هو شريعةُ الله المحكمة وفرائضه الشرعية العادلة التي جاء بها القرآن في الحدود والمواريث، والأحكام، والتي تسعد المجتمعات وتهنأ إذا طبقتها، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96]، وفي المقابل تشقى المجتمعات عند تغييب الشرع المحكم أو إقصائه عن دنيا الناس وهذا يُحدِث خللاً واضطرابًا كبيرًا يمحق البركة ويجلب الشقاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدًا هذا المعنى: «يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم، أعوذ بالله أن تدركوهن.. وذكر منها: وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم»[1] نسأل الله أن يهدي الأمة إلى تحكيم كتاب ربها لتعيش واقعًا مباركًا تحل فيه الأمن والبركات.
يتبع .......