شهدت الساحة الإعلامية والترفيهية الأميركية في السنوات الأخيرة موجة غير مسبوقة من نجوم تلفزيون الواقع والمؤثرات على وسائل التواصل الاجتماعي ينتمين إلى كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة، المعروفة بـ "المورمن".
هذا الظهور الكثيف، الذي تزايدت وتيرته بشكل ملحوظ بالتزامن مع الحقبة السياسية التي ركزت على الأدوار التقليدية للمرأة في عهد ترمب، حوّل المرأة المورمنية من شخصية هامشية أو نمطية في القصص التاريخية إلى بطلة مركزية تُحرك الدراما على الشاشة، مقدمة صورة "متناقضة" بين الكمال والنقص، تثير الجدل وتجذب المشاهدين.
لم يعد تمثيل المورمنية محصوراً في الأعمال الساخرة أو الدراما التي تركز على تعدد الزوجات (الذي نبذته الكنيسة الرئيسية في عام 1890) شكلياً لكن لا يزال مطبقاً خلف الستار، بل انتقل إلى قلب برامج تلفزيون الواقع والإنترنت، وفق ما وثقت أخيراً صحيفة "نيويورك تايمز" التي ألقت مزيداً من الضوء على الظاهرة.
صعود "نساء الكنيسة"
ولاحظت "اندبندنت عربية" لدى تعميقها البحث في الملف بشأن "المورمن" أن الذي أحاطها بالجدل أكثر هو تنافس إحدى المنتسبات إلى الكنيسة ويتني ليفيت وجين أفليك في برنامج الرقص الشهير "الرقص مع النجوم"، بالتوازي مع إطلاق مسلسلهما الواقعي "الحيوات السرية لزوجات المورمن" موسمه الثالث على منصة "هولو"، وظهرت زميلتهما تايلور فرانكي بول كبطلة للإعلان الترويجي للموسم المقبل من برنامج "العزباء" على شبكة "أي بي سي"، في دلالة واضحة على تداخل ملكيات شركة "ديزني" (التي تملك الشبكة ومنصة البث) واستثمارها في هذه الظاهرة، بعد أن تجاوزت حالات تثير شهية المتابعين على السوشيال ميديا إلى موضوع يستهوي استثمار أرباب الصناعة الإنتاجية.
هذا الامتداد تخطى الشاشة الصغيرة، إذ حققت عضوة أخرى في طاقم العمل، مايسي نيلي كما توثق الصحافة الأميركية، "نجاحاً كبيراً بعد إصدار مذكراتها "قلت لك ذلك"، التي وصلت إلى قائمة الأكثر مبيعاً في "نيويورك تايمز". كل ذلك وغيره يرسخ مكانة هؤلاء النساء اللاتي لسن مجرد نجمات تلفزيون، بل هن أيضاً جزء من مجموعة المؤثرات الشهيرات التي تُشكل قصصهن وخلافاتهن المحور الدرامي لمسلسل "زوجات المورمن" بما يسهم في رفع مكانة الدين في الثقافة الشعبية، وإن كان ذلك في قالب الثورة عليه، بل هو في نظر الكثيرين نمط آخر من النسوية المحافظة.
سوق التناقضات المربح
هذه الظاهرة، التي وصفتها ريبي براسفيلد، مقدمة بودكاست "مورمن في الإعلام"، بأنها تُظهر أن "أفضل صادرات كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة هي نساؤنا"، تقف عند تقاطع مثير للاهتمام بين الإيمان والسعي الاقتصادي. تُظهر المؤثرات براعة تجارية فريدة؛ فهن يروّجن لـ "مشروبات غازية" مثلاً كبديل متواضع لاستهلاك الكحول الذي تحرّمه الكنيسة.
وتنتقل الممارسات اليومية، مثل البحث عن "أحدث الملابس الداخلية المحتشمة"، إلى محتوى يجذب ملايين المشاهدات على "تيك توك". وقد استثمرت العديد من هؤلاء النساء شهرتهن في تأسيس شركات أو علامات تجارية ناجحة؛ فقد قامت مؤثرة "الزوجة التقليدية"، نارا سميث، بإطلاق منتج "زيت الثوم" يحمل اسمها، وفق "التايمز".
تُفسر هذه الظاهرة على أنها تركز على قيم التميز والانضباط التي تغرسها الكنيسة. وكما ذكرت ليزا بارلو، وهي العضو الممارس الوحيد في برنامج "ربات بيوت سولت ليك سيتي الحقيقيات"، "هناك تركيز كبير على التعليم والمواهب وتحسين الذات في يوتا... أنت تعلم أنك إذا كنت ستوظف شخصاً مورمنياً، فهناك مستوى عالٍ من المعايير".
كذلك تُضيف ميراندا هوب، إحدى ممثلات "زوجات المورمن"، أن ثقافة الكنيسة قد تأتي مع "نغمة خفيفة من المنافسة" لكن "هذا الانضباط يجعل المورمن سبّاقين". هذا النجاح التجاري الممزوج بالتدين يمثل، بحسب الأستاذة ديان وينستون من جامعة جنوب كاليفورنيا، "اندماجاً مثيراً للاهتمام بين النسوية ومناهضة النسوية"، إذ "حوّلن نمط الحياة إلى علامة تجارية مزدهرة من خلال الاعتماد على أدوارهن التقليدية".
ربات بيوت "غير مثاليات"
على رغم الصورة العامة للمجتمع المورمني التي تتميز بالكمال، بدأت الأصوات الجديدة تكسر هذا القالب، مستغلة الشهرة الإعلامية لتسليط الضوء على التناقضات والعيوب. يُظهر الجمهور الأميركي الآن قبولاً متزايداً للشخصيات "غير المثالية" وتلك التي تركت الكنيسة.
أبرز مثال هو تايلور فرانكي بول التي أدت فضيحة طلاقها إلى انطلاق مسلسل "زوجات المورمن" بعد أن عُرضت لقطات اعتقالها بتهم الاعتداء والعنف المنزلي في الحلقة الأولى.
وتقود هيذر غاي، عضوة سابقة في الكنيسة وأحد نجوم "ربات بيوت سولت ليك سيتي الحقيقيات"، حملة لكشف التناقضات.
ففي عام 2023، كشفت غاي في مذكراتها "مورمون سيئة" عن تجربتها، قائلة: "كنت مثل الخادمة القسرية لعائلتي وزوجي وكنيستي... ومن الصعب حقاً قول ذلك عندما تدربنا طوال حياتنا على تجميل الأمور، تماماً كما تدربنا طوال حياتنا على تجميل منشوراتنا على إنستغرام".
وتابعت غاي جهودها بإنتاج وثائقي "النجاة من المورمنية" الذي تناول شهادات لأعضاء سابقين حول التحول ومزاعم إساءة. هذه الشهادات تُسلط الضوء على أن الانفتاح الإعلامي يخدم في كشف الجانب المظلم، بما في ذلك الأخطار الأصولية المرتبطة بالجماعات التي ما زالت تمارس تعدد الزوجات.
أصبحت المرأة المورمنية الحديثة رمزاً لـ "تمرد داخل السياق"، حيث تتقاطع القيم المحافظة المتجذرة مع التمرد على قيود الكهنوت الذكوري وغياب المناصب القيادية العليا للنساء في الكنيسة. هذا التوازن الدقيق بين الالتزام العقائدي ورفضه، إلى جانب القدرة على تحويل نمط الحياة إلى سلعة إعلامية ناجحة، هو ما يغذي الاهتمام العام ويزيد من تغلغل "المورمنيات" في المشهد الإعلامي الأميركي.
"تعدد الزوجات" يلاحق التيار
عن جذور تلك الحركة يوضح مايكل روث من مؤسسة "أي بي أس سي أو" البحثية العريقة، أن المورمنية، التي انبثقت من كنيسة قديسي الأيام الأخيرة التي أسسها جوزيف سميث عام 1830، تعد حركة مسيحية تجديدية فريدة ترتكز على "كتاب مورمن" والإيمان بضرورة استعادة الشكل الأصلي للمسيحية.
ومع أنها اليوم تؤكد على أهمية الأسرة الواحدة وتُمارس طقوساً مثل ختم العائلات الأبدي، فإن تاريخها مرتبط بقضية "تعدد الزوجات" التي شكلت نقطة تحول كبرى. ففي عام 1843، أعلن سميث عن وحي يسمح بهذه الممارسة ويشجعها، مما أدى إلى لجوء قادة بارزين مثل بريغهام يونغ إلى تطبيقها. هذا الإقرار الديني بتعدد الزوجات لم يكن مجرد ممارسة داخلية، بل كان سبباً رئيسياً في تصاعد الصراع والاضطهاد ضد المورمن، مما دفعهم للهجرة غرباً والاستقرار في ولاية يوتا الأميركية.
على رغم أن الممارسة كانت مأذوناً بها لفترة، فإن الضغوط الاجتماعية والسياسية المتزايدة دفعت الكنيسة الرئيسية (LDS Church) إلى حظر تعدد الزوجات رسمياً في عام 1890، لتقطع بذلك بحسب مايكل "الصلة بهذه الممارسة في التيار السائد".
غير أنه يقر بأنه مع هذا التحول الجذري، لا تزال هناك طوائف مورمنية أصولية صغيرة ومنفصلة عن الكنيسة الأم تمارس تعدد الزوجات في السر، مما يُبقي على هذا الفصل التاريخي حاضراً في الذاكرة الثقافية والإعلامية الأميركية حتى اليوم. وهكذا، أصبحت المورمنية تتأرجح بين عقيدة عائلية محافظة حديثة، وتراث تاريخي مثير للجدل لا يزال يشعل نقاشات حول حدود الإيمان والسلطة الاجتماعية.
تزايد "النفوذ الديني"
أمام الزيادة الواضحة في الوجود المورمني في الإعلام الأميركي والفضاء الرقمي، يوثق مركز بيو للأبحاث أن هذا الظهور ليس عشوائياً، إذ يأتي مع عودة عامة للاهتمام بالدين والقيم المحافظة في أميركا، خصوصاً بين الأجيال الشابة التي سئمت ما تراه فوضى ثقافية. وأظهر استطلاع مفصل للمركز نشر حديثاً أن الحياة في البلاد شهدت ارتفاعاً عاماً في التأثير الديني، بما في ذلك المورمن، مفيداً بأن "40 في المئة من الأميركيين في 2025 يرون الدين يكتسب نفوذاً أكبر في البلاد كذلك أعرب عدد أكبر عن وجهة نظر إيجابية بشأن دور الدين في المجتمع"، مفصلاً ذلك في تقرير موسع اطلعت عليه "اندبندنت عربية"، تناول مؤشر التدين بين الطوائف والأحزاب وفئات الأعمار المختلفة.
الدين لا يزال راسخاً في أميركا. تظهر بيانات موثقة أنه لم يطرأ تغيير يذكر منذ 2020(مركز بيو للأبحاث)
كان من بين ما خلص إليه أن الحزبين الرئيسين في البلاد الجمهوريين والديمقراطيين يؤمن أتباعهما في الغالب بأن العديد من الأديان قد تكون صحيحة (45 في المئة و51 في المئة على التوالي). لكن الجمهوريين أكثر ميلاً من الديمقراطيين إلى القول بأن ديناً واحداً فقط صحيح (38 في المئة مقابل 15 في المئة)، بينما الديمقراطيون أكثر ميلاً من الجمهوريين إلى القول بأن أي دين لا يحتوي على أي حقيقة تقريباً.
في الوقت نفسه، تتطابق القيم المورمنية إلى حد كبير مع الخطاب الذي يرفعه دونالد ترمب وفريقه حول "العودة إلى قيم الأسرة والحرية الدينية وحقوق الآباء"، في مقابل ما يصفه المحافظون بـ"الأجندة اليسارية المتطرفة" في عهد بايدن، التي ركزت على توسيع حقوق المثليين والمتحولين جنسياً وحمايتها قانونياً.
لذلك يجد كثير من المورمن في ترمب على رغم تحفظ البعض عليه شخصياً حليفاً عملياً يحمي نمط حياتهم وقيمهم، مما يخلق تحالفاً غير رسمي بين الحركة المورمنية الصاعدة إعلامياً وبين التيار المحافظ الذي يقوده ترمب.
ومع أن هذا النوع من الظواهر شأن أميركي داخلي، إلا أن تأثر المجتمعات الأخرى بها ظل واسع النطاق في عصر الذكاء الاصطناعي والسوشيال ميديا. فهل ستبقى ظاهرة "المورمن" معزولة أم سيكون للعرب أيضاً نسخهم المحلية على طريقة ظاهرة "الدعاة الجدد" التي طفت على السطح قبل سنوات؟.
مصطفى الأنصاري كاتب وصحافي @mustfaalansari


