الاقتصادية24 | | ‎ Economy24

الاقتصادية 24 منصة إعلامية استثمارية شاملة الأخبار الاقتصادية المحلية والعالمية

الجنوب العالمي.. ارتهان القطب واحد

ا. د. إبراهيم جلال فضلون

في قاعة فسيحة بمدينة تيانجين الصينية، اجتمع قادة أكثر من 20 دولة يمثلون نحو 40% من سكان العالم وربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لم يكن حضور الدول العربية مجرد مشاركة بروتوكولية، بل انعكاس لتحوّل استراتيجي عميق: البحث عن مكان مًظلل تحت شمس نظام عالمي جديد، لم يعد يُدار من واشنطن وحدها، فلم يعد انضمام السعودية للمنظمة تحولا في توازن العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة؛ فالرياض تقترب من بكين دون أن تحرق جسورها مع أميركا، لاسيما وأن السعودية لا تزال على بُعد سنوات من أن تصبح عضوا كامل العضوية في منظمة شنغهاي. وحتى هذه العضوية لا توفر للسعودية متطلباتها الأمنية الحيوية، لاسيما وأنه لا يمكن مقارنة منظمة شنغهاي للتعاون بحلف شمال الأطلسي على سبيل المثال، فالمنظمة ليست تحالفا عسكريا، بل اتحاد اقتصادي بثوب سياسي شفاف.

فمن القطبية الأحادية إلى التعددية، يطرق العرب أبواب الشرق، منذ تأسيس المنظمة عام 2001، لتتوسع لست دول إلى تسع أعضاء كاملي العضوية، و14 شريك حوار، بينهم ست دول عربية (مصر، السعودية، قطر، الإمارات، الكويت، البحرين). هذه الخطوة السريعة خلال عامين فقط تعكس، كما يوضح السفير المصري أحمد سلام، “وعياً عربياً متزايداً بضرورة تنويع الخيارات الاستراتيجية والانضمام إلى نادٍ يقوم على الاحترام والسيادة، بعيداً عن الإملاءات والافتراءات الأمريكية الغربية العجفاء، لأن الجنوب العالمي بحاجة إلى منصات فعلية، ومنظمة شنغهاي هي الإطار الأمثل لصوتٍ عربي فاعل يساهم في صياغة قواعد النظام الدولي بدلاً من تلقيها”، والأرقام تتحدث. ففي عام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية 407.4 مليار دولار، لتتصبح بكين أكبر شريك تجاري للعرب لأكثر من عقد. لكن تتربع دول الخليج وحدها، بحجم تجارى مع الصين في عام 2021 بنحو230 مليار دولار، وهو أربعة أضعاف تجارتها مع الولايات المتحدة، بل وأكثر من 60% من تجارة مجلس التعاون الخليجي الآن تتم مع آسيا، وهو ما يجعل الشراكة عبر “شنغهاي” امتداداً طبيعياً لهذه التحولات كالطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي واللوجستيات التي هي حجر الأساس لشراكة عربية-آسيوية طويلة المدى.

إن الطموحات العربية عالمية، تجد نفسها على مشاريع عملاقة، كالطاقة والاستدامة، فمبادرة الحزام والطريق ضخّت أكثر من 1 تريليون دولار استثمارات خلال عقد، والعرب يسعون لاقتناص نصيب أكبر لدعم رؤاهم الوطنية (مثل “رؤية مصر 2030” و”رؤية السعودية 2030").. لتأتي البنية التحتية واللوجستيات بتحول مصر (قناة السويس) والسعودية والإمارات إلى مراكز لوجستية عالمية تربط الشرق بالغرب. أما التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي من الأمن السيبراني إلى المدن الذكية، تلتقي خطط “رؤية الإمارات 2071” و”مصر الرقمية” مع أجندة شنغهاي للتحول الرقمي.. بينما يلتقي الأمن المشترك بمكافحة الإرهاب على الطريقة الآسيوية، إذ تمتلك المنظمة ذراعاً تنفيذياً، يتم سنوياً بعشرات المناورات المشتركة، وتُتبادل مئات البلاغات الاستخباراتية. لاسيما مصر، فهذه الشراكة تقدم “أدوات عملية لتعزيز أمنها القومي”،

وعن الدلالات الجيوسياسية فانضمام العرب لشنغهاي ليس مجرد بحث عن استثمارات. إنه إعلان غير مباشر برفض “القطبية الأحادية”، التي حكمت العالم منذ نهاية الحرب الباردة. فبينما لا تزال الولايات المتحدة الضامن الأمني التقليدي للخليج، إلا أن الثقة في مظلتها الأمنية تراجعت. من هنا تأتي أهمية البحث عن بدائل استراتيجية، خصوصاً أن الصين لم تعد مجرد “شريك اقتصادي”، بل وسيط سياسي كما ظهر في وساطتها بين السعودية وإيران عام 2023.

لكن العقبات ليس لها حدود، رغم هذه الفرص، فالمنظمة تفتقر إلى قوة مؤسسية صلبة مثل الناتو، وكما المصالح متناقضة بين أعضائها (الصين-الهند، روسيا-باكستان) تجعلها ساحة تفاوض أكثر من كونها تحالفاً موحداً يُُقابلها احتفاظ أميركا التي بدأت تتداعى بنفوذ عسكري وأمني لا تستطيع بكين أو موسكو تعويضه سريعاً إلا في حالة سحب العرب أموالهم منها واستثماراتهم ليغرق المركب الأمريكي والأوربي بلل والعالمي الماسوني، وسط عالم يتغير بسرعة، ولم يعد بمقدور الدول العربية أن تظل متفرجة. فهي تمثل نصف سكان العالم وثلث الناتج الاقتصادي العالمي ليس خطوة رمزية، بل استراتيجية. إنه انتقال من موقع “المتلقي” إلى “المشارك”، ومن الارتهان لقطب واحد إلى التحرك في فضاء متعدد الأقطاب.

في النهاية، لم يعد التوسع العربي في منظمة شانغهاي للتعاون مجرد خبر دبلوماسي عابر، بل هو انعكاس لتحول جيوسياسي عميق. فالعرب باختيارهم هذا التوجه يرسخون قاعدة جديدة: القوة اليوم لا تُقاس بحجم السلاح فقط، بل بشبكة التحالفات الاقتصادية والتكنولوجية والاستراتيجية التي تحمي المستقبل، فليست منظمة شنغهاي “تحالفاً ضد أحد”، بقدر ما هي إطارٌ “لأجل أعضائها”

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 4 مشاهدة

الاقتصادية24 | | ‎ Economy24

Economy24
الاقتصادية24 | | ‎ Economy24 »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

11,570