الانفراد الأميركي بقرار الحرب
في قراءة السيناريوهات القادمة من الضروري التفريق بين شن الولايات المتحدة الحرب على العراق منفردة، أو ضمن إجماع دولي، بعد حصول انتهاك عراقي للقرار رقم 1441. ذلك أن الموقف في بعض حيثياته سيكون مختلفا بين الحالتين. والحال أن سيرة التعامل العراقي مع مسألة التفتيش خلال الشهرين الماضيين تدفعنا نحو التعلق بأمل استمرار التعاون العراقي، وصولا إلى دفع الولايات المتحدة نحو الحرب منفردة في حال الإصرار عليها، وأقله الاندفاع إليها من دون مبرر يقنع جميع الفرقاء، أي أن يتحقق النجاح في إقناع بعض الأطراف بوسائل مختلفة، دون النجاح في إقناع الجميع.
إن استمرار العراق في تعاونه غير المشروط مع فرق التفتيش سيدفع العالم دولا وشعوبا نحو الاقتناع الكامل بأن الولايات المتحدة لا تبحث عن الأسلحة وإنما تبحث عن وسيلة لشن حرب بات الأطفال في شوارع أوروبا يحملون لافتات تقول إنها حرب من أجل النفط، في حين يدرك الراسخون في ألعاب السياسة أنها تتجاوز ذلك إلى كونها حربا على العالم من أجل تركيعه لسطوة "روما الجديدة" المصابة في كبريائها والساعية إلى انتقام يعيد لها مجدها وسطوتها آجلا وعاجلا.
إن قرار الحرب المنفرد يجعل من احتمال تصاعد الصراع الدولي مع الولايات المتحدة أكثر قوة، فالدول الكبرى (روسيا والصين وفرنسا وأوروبا عموما) تدرك تمام الإدراك مخططات الولايات المتحدة لما بعد العراق، غير أنها لا تملك الكثير مما يمكن أن تفعله في مواجهة إصرارها على الحرب. أما في حال خرق قرار مجلس الأمن وشن الحرب على انفراد فإن ذلك سيدفعها إلى التكاتف في مواجهة قوة عظمى لا تقيم اعتبارا للمعايير والمؤسسات الدولية.
الوضع العربي الذي يتنفس الهواء الدولي سيكون بأمس الحاجة إلى رفض دولي للحرب لكي يرتفع صوته في مواجهتها، ومن ثم رفض تداعياتها أو مخططات استثمارها تاليا، لأن تلك المخططات ستواجه أيضا برفض دولي، نظرا لأنها تتعامل وفق روحية احتكار المكاسب، الآجلة منها والعاجلة.
|
|
ثمة معطى على قدر كبير من الأهمية برز في الداخل الأميركي سيكون له شأنه، ليس في ما يتصل بتصعيد احتمال شن الحرب على انفراد فقط، وإنما على صعيد صياغة المخططات التالية لاستثمارها. ونعني به هيمنة فريق معروف بتشدده على الإدارة الأميركية. واللافت أن هذا الفريق الذي يتحرك بروحية ليكودية يمينية يهودية صهيونية متشددة يريد للولايات المتحدة أن تتصرف دون رحمة مع كل من تجرأ على قول "لا" في وجهها. والحال أنه بذلك إنما يركز بالدرجة الأولى على المصالح الإسرائيلية المأمولة في حرب العراق، عبر إعادة تركيب المنطقة وفق أسس جديدة أكثر من تركيزه على مصالح الولايات المتحدة. في سياق تعليقها على تعيين اليهودي الليكودي المعروف (أليوت أبرامز) مسؤولا عن قسم الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، وبعد استقراء للأسماء الأخرى في الفريق المشهور قبله (وولفوفيتز، ريتشارد بيرل، دوغلاس فيث ...)، تقول الكاتبة البريطانية المعروفة، التي تعيش في الولايات المتحدة (هيلينا كوبان) .. "إننا إزاء واشنطن جديدة تختلفت تماما عما كانت عليه قبل 2001، وهي تهدف (بالاشتراك مع الصديق العزيز شارون) إلى خلق شرق أوسط جديد تماما". وتصف (كوبان) المخاطر التي تنطوي عليها الحرب على العراق بالقول "نحن لا نتكلم حاليا عن مجرد الحرب على العراق وتغيير النظام أو أشياء متواضعة كهذه، لأن السيناريو الذي يتحدث ويكتب عنه (بيرل) وأصحابه منذ سنين، والذي استبقه سجل (أبرامز) في أميركا الوسطى في الثمانينيات، وحسب سجل (شارون) الطويل كشخص يبهجه استعمال القوة وركوب مخاطر لا سابق لها في الحجم، لا يقل عن أن يكون محاولة ليكودية محتملة لـ"إعادة تركيب" الشرق الأوسط حسب هوى (شارون) ..". ثمة إلى جانب هذا الدفع الصهيوني قوة دفع أخرى يمثلها اليمين الديني المتصهين أو ما يسمى اليمين الجمهوري المحافظ. والحال أن هوى (بوش) يتفق مع هؤلاء لسبب معروف هو أنه بحاجة ماسة إلى انتصار (العراق) ليكون مدخلا لمكاسب اقتصادية وسياسية كبيرة لا بد منها للخروج من عار سبتمبر/ أيلول وكل ما ترتب عليه سياسيا واقتصاديا ومعنويا، وقبل ذلك إعادة الولايات المتحدة إلى وضع الدولة الأقوى التي لا تسأل عما تفعل. وفي ما يتصل بدوافع (بوش) الشخصية فليس ثمة أجمل من تلخيص الكاتب الإسرائيلي (ب. ميخائيل) لها في صحيفة (يديعوت أحرونوت) وذلك في ثلاث نقاط، "الفشل الآخذ في الظهور في أفغانستان، وكبرياء الأب وضرب الرجل الذي أهان بابا بوش. الحرب أمر رائع لأن توقفها يكشف للعالم ضحالة فكره وتحرمه من ولاية جديدة".
ثمة آراء مهمة تصدر في الغرب والولايات المتحدة تقول أشياء لا نسمعها هنا بشأن الحرب واستثماراتها، وهي جديرة بالتوقف عندها قبل الوصول إلى آراء أخرى ربما لا تدخل كثيرا في حسابات أولئك لأن أكثرهم يجهلون الطبيعة الحقيقية لهذه المنطقة وشعوبها.
في مقال بعنوان "تفكيك الأسطورة" نشر في العدد الأخير من مجلة (فورين بوليسي) يقدم الكاتب (إيمانويل والترشتاين) توقعات مغايرة بشأن الحرب على العراق وتداعياتها، حيث يرى أن "قراءة الصقور خاطئة ولن تسهم إلا في سقوط أميركا التدريجي وحتى الانهيار وستفشل مقارباتهم لأسباب عسكرية واقتصادية وسياسية"، إذا تجاوزنا البعد العسكري، لأننا سنفترض الانتصار الكامل للولايات المتحدة، في حين لا يرى الكاتب ذلك محسوما، فهو يبدو متشائما حيال الاقتصاد الأميركي، حيث يرى أن تركيز اليابان والصين على الاقتصاد في حين تركز الولايات المتحدة على الحرب سيؤهلهما لوراثتها على الصعيد التكنولوجي. ويرى أن "الاقتصاد الأميركي يبدو ضعيفا نسبيا وسيتوالى الضعف إذا أخذنا في الاعتبار النفقات الباهظة التي تستدعيها إستراتيجيات الصقور". أما سياسيا فيرى أن الولايات المتحدة "ستظل معزولة من الناحية السياسية". ويصل إلى الاستنتاج بأن "أميركا ستواصل الانحدار كقوة حاسمة وكبرى في الشؤون العالمية خلال عشر سنوات. والسؤال الرئيسي ليس ما إذا كانت سيطرة أميركا ستتقلص، بل ما إذا استطاعت أن تجد طريقة للانحدار بهدوء، وبأقل كمية من الخسائر أو الأضرار سواء بالنسبة لها أم للعالم".
مسألة العزلة يشير إليها (باتريك جارو) في صحيفة (لوموند) الفرنسية، حيث يرى أن الولايات المتحدة في طريقها نحو العزلة الدولية. ويشير إلى كتاب لأكاديمي أميركي بارز عمل في السابق مستشارا للرئيس (كلينتون) وهو (شارل كوبشان)، وكان عنوان الكتاب الذي صدر في نيويورك هو "نهاية العصر الأميركي". وفيه يرى أن "الدور المنفرد والفاعل للإدارة الأميركية ربما سيجر الولايات المتحدة إلى عزلة عالمية خانقة"، في حين يختتم رؤيته بالقول "هناك أيضا العوامل الديموغرافية والسياسية التي تدفع الولايات المتحدة إلى هذه العزلة الخانقة.. كما أن مظاهر الزهو والغطرسة الحالية والتفرد بالسياسة الدولية كلها عوامل إضافية تدفع الولايات المتحدة الأميركية وبسرعة نحو معسكر وحيد هو معسكر العزلة".
خلاصة القول على هذا الصعيد هي أن الدول الكبرى التي تراقب ما يجري ولها الكثير من المصالح في هذه المنطقة، وتدرك تبعا لذلك مخاطر احتلال العراق أميركيا، ومخاطر المخططات التالية على مصالحها .. هذه الدول لا يمكن أن تبقى متفرجة على ما يجري، وهي لذلك ستصب جهدها في أي اتجاه يعطل الاستقرار الأميركي في العراق، ويعطل بالتالي إكمال المخططات التالية بعده، ولن تجد حرجا في دعم أي خيار يصب في هذا الاتجاه.
السؤال الأول في خطة ما بعد الاحتلال هو المتعلق بما يوصف أنه "المرحلة الأكثر صعوبة وتحديا"، وهي اليوم التالي بعد صدام حسين، "أو بعبارة أكثر دقة، العقد التالي لسقوط صدام حسين". والوصف هو جزء من رسالة مشتركة على درجة من الأهمية نشرها في صحيفة (واشنطن بوست) كل من السيناتور (جوزيف بيدين) رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي وزميله عضو اللجنة السيناتور (تشال هاغل).
حسب الرسالة فإن بقاء قوات التحالف بأعداد كبيرة بعد الإطاحة بالنظام العراقي لإحلال الاستقرار سيكون ضروريا لعدة سنوات، بسبب عدم قدرة المعارضة على ملء الفراغ، الذي يجب أن "يملأه زعيم عسكري عراقي جديد".
وبناء عليه يقول المسؤولان الأميركيان إن "التصرف بمفردنا وفرض حكومة عسكرية بقيادة أميركية بدل إدارة مدنية متعددة الجنسيات يمكن أن يحولنا من محررين إلى محتلين ويؤدي إلى تفاقم الاستياء في جميع أنحاء العالم العربي".
نحن إذن أمام احتلال واضح، أيا كان القناع الذي يختفي خلفه، فالولايات المتحدة لن تدع العراق للمعارضة الشيعية المرتبطة بإيران، لأنها تريد عراقا تابعا، وبالضرورة متخاصما مع محيطه العربي المستهدف تاليا. وإذا أضيف إلى ذلك ما يتطلبه الأمر بالنسبة لإيران التي تدرك، وهي المحاصرة من (أفغانستان) ومن الخليج، أن استقرار الحكم الأميركي في بغداد سيجعل دورها قريبا في قائمة الإخضاع، لا سيما ولوبي الصهاينة في واشنطن يضعها في رأس سلم الأولويات.
إذا أضفنا ذلك فإن مسألة استقرار الوضع الأميركي في العراق تغدو موضع استفهام، فالعراقيون بكل ألوانهم لا يمكن أن يتنكروا لعروبتهم وإسلامهم ليصبحوا أميركيين بين عشية وضحاها، وإذا كانوا يفعلون شيئا من ذلك اليوم لأنهم لا يرون على الأرض شيطانا أسوأ من الرئيس العراقي، فإن الأمر سيغدو مختلفا بعد ذلك. ولعل فتاوى العديد من علماء الشيعة والسنة والأكراد ضد التعاون مع الهجوم الأميركي ستتحول إلى فتاوى لاحقة ضد الوجود الأميركي أيضا، وقد يغدو العراق أسوأ بكثير من أفغانستان التي لايزال نزيف القوات الأميركية فيها مستمرا، وإن على نحو محدود. ولعل بإمكاننا أن نضيف إلى ذلك أن التحرك العراقي الداخلي ضد الوجود الأميركي قد يصبح أيضا محل دعم وإعجاب من الوضع العربي الرسمي وإن على نحو غير مباشر، ومن الشعبي الذي سيدخل مزاجه السياسي في مرحلة جديدة بعد الاحتلال.
إن عدم استقرار الوضع للولايات المتحدة في العراق يجعل كل الترتيبات اللاحقة بعده غير مؤكدة، بل أقرب إلى الأحلام، غير أن استقراره لبعض الوقت لن يعني بالضرورة أن الأمور التالية ستسير على نحو سلس ودون معيقات.
إن إدراك النهم الصهيوني لاستثمار معادلة ما بعد العراق يدفع إلى القول إن (شارون) وأجندته ستحتلان الأولوية بعد ذلك، ولما كانت فلسطين هي القلب من الأمة، والمقاومة هي ضمير أبنائها، فإن استهدافها بالإذلال سيدفع الوضع العربي، لا سيما الشعبي منه، إلى مزيد من الانفجار. والحال أن الولايات المتحدة ستدخل منطقة مدججة بالعداء لها، كما تثبت القراءة اليومية فضلا عن استطلاعات الرأي، والأهم من ذلك أنها تدخل منطقة لم تعرف في تاريخها مرحلة ساد فيها فكر الجهاد والاستشهاد والإقبال على الموت كما يحدث هذه الأيام، بدليل الشعبية الهائلة لأسامة بن لادن في أوساط الشباب بل وغير الشباب.
إن مرحلة من ازدهار الأعمال العدائية للولايات المتحدة ستندلع بعد احتلال العراق، وستزداد مع وصول البلدوزر الأميركي حدود فلسطين ليضرب مقاومتها ويفرض حلا مذلا على شعبها.
بالمقابل لن تكون الدول العربية قادرة على مواجهة ذلك كله بنفس الروحية القديمة، لأنها مستهدفة أيضا، ومن مصلحتها أن يلجم الغرور الأميركي، ويقف البلدوزر عند حدود العراق، إذا لم يكن بالإمكان إدخاله في حرب استنزاف هناك.
إذا كان الوجود الأميركي في السعودية قد فجر كل ذلك الغضب والإقبال على الشهادة في الشارع السعودي، فماذا سيحدث حين تستهدف الأمة كلها وعلى رأسها السعودية. وعلى هذا الصعيد يقول الكاتب الأميركي المعروف (ويليام باف) في (الهيرالد تريبيون) .. "إن كل قاعدة أميركية تحمل دنس التحديث "الكافر" كما تنقل أيضا الإيحاء القمعي للاحتلال العسكري الأجنبي".
صقور الإدارة الأميركية وصهاينتها على حد سواء لا يدركون حجم المغامرة التي يندفعون إليها في زمن "الإرهاب الرخيص"، وفي زمن تشيع فيه في شباب الأمة العربية والإسلامية روح من الرفض والتمرد لم تعرف من قبل. وإذا كان برنامج ما بعد (أوسلو) القائم على مشروع (بيريز) "الشرق أوسطي" قد فشل في إعادة رسم خريطة المنطقة مع معطيات أسوأ عربيا ودوليا بعد حرب الخليج وانهيار الاتحاد السوفياتي، فهل سينجح الآن والوضع الدولي أفضل، في حين أن العربي أكثر إدراكا للخطر القادم، وفي حين أن العداء للولايات المتحدة والاستعداد لمواجهتها في ذروة تألقه؟
نهاية الحقبة الوطنية العربية
|
لم يعد يبدو أن لدى العالم العربي إستراتيجيات ولا خططا ولا مشاريع وطنية أو إقليمية ولا مقترحات ولا حتى جدول أعمال فرديا أو جماعيا خاصا به لمواجهة التحديات التي تعترض طريقه. أي لم يعد يبدو أن فيه سياسة ولا تنظيما للحياة العمومية خارج إطار التأطير القائم على الصهر المؤلم لجميع الأفراد والقوى والاتجاهات في أتون السلطة الأمنية البغيضة التي تراهن على تعقيم الأفراد والمجتمعات ومنعهم من التفكير والتنظيم والمبادرة والعمل ومن باب أولى من الإبداع. وما يستولي على المراقب السياسي للأوضاع العربية اليوم هو الشعور المؤلم بانعدام الرؤية والافتقار للإرادة ومن ثم بغياب القيادة والاستسلام إلى المصير القدري.
حتى الآن ورغم كل التجاوزات التي بدأت بتوقيع اتفاقيات كامب ديفد الانفرادية، حافظت النظم العربية على حد أدنى من التواصل مع أطروحات وقيم وأفكار وآمال الحركة الوطنية العربية التي تمت وتصاعد نفوذها في الخمسينيات من هذا القرن وتمحورت حول قيم رئيسية ثلاث، الدفاع عن مفهوم قوي للاستقلال الوطني والسيادة, والحفاظ على التضامن العربي كموجه رئيسي في السياسات الوطنية والإقليمية, والتمسك بمفهوم شعبي أو شعبوي للشرعية حتى في الحالات التي كان فيها الشعب سجين آلة القهر البيروقراطية
هذه هي القيم التي يتوجب على النظم العربية التخلي عنها اليوم والتي هي في طريقها لقطع الصلة تماما بها. وهذا هو ثمن بقائها في الخدمة والشرط الضروري أيضا لاندماجها في إستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية الدولية والإقليمية التي تسيطر اليوم على مقاليد الأمور في المنطقة الشرق أوسطية.
سيشهد المستقبل القريب تنامي خيارين رئيسيين وتزايد نفوذهما في عموم المنطقة العربية:
- الخيار الأول تطوير سياسات الشل الكامل للمجتمع كوعي مستقل وإرادة حرة وبالتالي تحييد المجتمع وإبعاده عن أي قرار أو احتمال التأثير في قرار, ومن ثم قتله وتجميده.
- والخيار الثاني الالتحاق السريع والشامل لجميع النظم العربية بالسياسة الأميركية والانخراط الحماسي في الحرب ضد الإرهاب مع الميل إلى إثارة الفتن الداخلية لتحويل الساحات السياسية العربية الداخلية إلى مسارح مستقلة وإضافية للحرب ضد الإرهاب ترضي غرور النخبة الأميركية التي تعتقد أو أصبحت تعتقد أن العرب كمجتمعات, لا النظم السياسية, هم مصدر التفريخ الرئيسي للإرهاب العالمي بسبب ثقافتهم القرسطوية ودينهم التعصبي وأعرافهم البربرية.
فالالتحاق بالإستراتيجيات الدولية الأميركية, وفي سياق ذلك القبول بالتضحية بفلسطين والشعب الفلسطيني, هو الأمل الوحيد المتبقي عند النظم العربية التي تواجه أزمة داخلية طاحنة في علاقاتها الداخلية مع مجتمعاتها وفي علاقاتها الخارجية مع الدول الصناعية وفي مقدمها الولايات المتحدة, لإعطاء نفسها دورا وبالتالي مبرر وجود يسمح لها بالهرب بجلدها.
والسنوات القادمة ستكون مطبوعة ببناء سياسات الالتحاق العملية والنظرية بالسياسات الأميركية وبحث كل نظام لنفسه عن دور في هذه السياسات أو في تحقيق السيطرة الإمبراطورية الأميركية وتحول الجامعة العربية نفسها وجميع المنظمات العربية الفرعية إلى أدوات طيعة لخدمة الأهداف الأميركية الإقليمية والعالمية, وفي مقدمها ضبط الشعوب العربية وتقييدها. وسيكون جوهر السياسات المحلية لنظم الحكم القائمة هو مقايضة التعاون الشامل مع واشنطن بالبقاء في الحكم وغض نظر الأخيرة عن ممارساتها الداخلية.
ولدينا منذ الآن مؤشر مهم على الأسلوب الذي سيتم من خلاله تطويع النظم وتحقيق استسلامها, وهو التحول الهائل في موقف الدول العربية من الإرهاب. فبعد أن كان مطلبها الرئيسي تحديد الإرهاب وتعريفه والدعوة إلى مؤتمر دولي لتحقيق هذا الهدف كشرط للتعاون في أي سياسات ترمي إلى محاربة الإرهاب اختفت فكرة المؤتمر الدولي لتعريف الإرهاب تماما من جدول أعمال الدول العربية، وأصبحت هذه الدول تتنافس في ما بينها على انتزاع لقب الدولة العربية الأكثر تعاونا مع واشنطن في ضرب الارهاب وصارت تتبارى في ما بينها لتقديم أقصى ما تستطيعه لمساعدة المخابرات الأميركية على القبض على مواطنين عرب قد يكون لهم وقد لا يكون لهم ضلع في أي إرهاب.
بل إن النظم العربية لن تتردد في المستقبل في تقديم قوائم كاذبة عن إرهابيين محتملين إلى المخابرات الأميركية والأوروبية في سبيل إظهار أهمية مساهمتها في الحفاظ على الأمن والاستقرار داخل هذه الدول الكبرى وعلى الصعيد العالمي. إننا نسير نحو حالة تتحول فيها النظم المحلية إلى مليشيات تعمل لصالح الدول الكبرى وتستبيح لذلك, من دون خوف من العقاب, جميع الحقوق المدنية والسياسية لشعوبها.
لكن, بعكس ما يعتقد أصحاب هذه الإستراتيجية, لن تكون النتيجة بالضرورة تفتيت الشعوب والجماعة العربية وتكسير إرادتها وتركيعها, أي استمرار أو تعميق المصير الشرق أوسطي الذي أسست له اتفاقات سايكس بيكو ولكن, ربما بحظ أكبر, العودة إلى مناخات شبيهة بمناخات الخمسينيات التي شهدت نمو الحركات الشعبية القوية وتعاونها على مستوى العالم العربي في مواجهة أنظمة ونخب حاكمة جمعت هي أيضا في ذلك الوقت بين انعدام الكفاءة القيادية وغياب الشعور بالمسؤولية الوطنية والخنوع المذل والمهين لإرادات ومخططات الدول الأجنبية.
سيقع على كاهل الحركة الديمقراطية في المرحلة القادمة وحدها أو بشكل رئيسي قيادة الحركة الشعبية والوطنية الجديدة نحو النصر وبلورة الخطط والإستراتيجيات العملية التي تساعد على تحقيق الأهداف الشعبية والوطنية، تماما كما قادت الحركة القومية في الخمسينيات حركات الاحتجاج الشعبية والوطنية لمقاومة النخب المنحلة والفاسدة ومواجهة المخططات والمشاريع الاستعمارية التي كانت ترمي إلى إخضاع المجتمعات العربية لمصالح الدول الكبرى واستغلال مواردها بما يخدم أهدافها.
وتعني القيادة تحقيق مهام نظرية, أي بناء التصورات والرؤية الواضحة والإنسانية لطبيعة النظم المجتمعية التي سوف تخلف النظم القهرية الراهنة الرامية إلى تأمين مصالح النخب السائدة فحسب على حساب المجتمع بأكمله وضده. كما تعني تحقيق مهام عملية ترتبط بقدرة النخب الديمقراطية الجديدة على صوغ إستراتيجيات واضحة واتباع سياسات عقلانية وجريئة لا ترتعد أمام القوى الكبرى والأكبر ولا تهن أمامها ولا تهون من قدراتها أيضا, وعلى تبني أساليب عمل فعالة وناجعة, أي تأخذ بالاعتبار المعطيات المحلية والإقليمية والدولية ولا تستسلم لإغواء الخطابات والمواقف الغوغائية والانتصارات الكاذبة.
وهذا يعني أن المهمة الرئيسية التي ستواجه النخب الوطنية في السنوات القادمة هي بناء هذه الحركة الديمقراطية فكريا وعمليا. ولا يمكن بناؤها لتكون حركة شعبية ووطنية فاعلة ونشيطة إلا بالنجاح في تجاوز التناقضات العدائية التي خلفتها الحقبة السابقة بين التيارات الإيديولوجية المختلفة اليسارية والليبرالية والإسلامية. كما لا يمكن بناؤها ما لم تنجح النخب والقيادات الجديدة في تجاوز الروح والنزعات الشعبوية وعدم تكرار أخطاء الخمسينيات التي ضيعت الكثير من الفرص وهدرت طاقات هائلة من دون طائل لتحقيق الانتصارات الوهمية والرمزية وطورت قيما سلبية مضرة ومفقرة قائمة على الحماسية الشعاراتية الفارغة وغياب الحسابات العقلانية وإحلال الطليعة أو بالأحرى مفهوم الطليعة القائدة محل مفهوم الشعب لتجنب طرح مسألة بناء الوحدة الشعبية بناء حقيقيا يأخذ بالاعتبار الشعب من حيث هو مجموعة من المصالح المتميزة والإرادات الفردية المستقلة والتناقضات التي يحتاج تجاوزها وإفراز إرادة موحدة وطنية إلى بناء أطر قانونية وبلورة وسائل سياسية للقيادة والسلطة ديمقراطية وحية وفعالة.
بالتأكيد لن تكون الحركة الديمقراطية العربية وحيدة في الميدان، فدمقرطة الحياة الدولية والوطنية سوف تشكل المحرك الرئيسي لجميع حركات الاحتجاج العالمية المتصاعدة في مواجهة الدمار المتزايد والفوضى الشاملة التي تنتجها سياسات وإستراتيجيات السيطرة الأميركية العالمية وأزمة الرأسمالية المعولمة التي تفتقد للأدوات القانونية والحدود السياسية التي تضبط جنوحها نحو التراكم البدائي والتوسع الوحشي واستخدام وسائل الغش والمضاربة والتلاعب بالأسعار والبيانات الكاذبة لتحقيق أقصى الأرباح أو الحد من تقلص معدل الربح كما أظهرت ذلك الفضائح الأخيرة للعديد من الشركات الأميركية الكبرى.
وفي ما يتعلق بإمكانية التحالف مع حركات ديمقراطية دولية, من الواضح أننا مازلنا في بداية الطريق. لكن منذ الآن لا نستطيع أن ننفي الفرص الكبيرة التي يفتحها التعاون مع منظمات حقوق الإنسان والحركات الديمقراطية المناهضة للعولمة النيوليبرالية وحركات الاحتجاج الدولية على السياسات البيئية والاقتصادية والعسكرية للدول الكبرى.
لكن من المؤكد أن النظم العربية, بالتعاون مع النظم الصناعية المتقدمة, سوف تصنع المستحيل أيضا في سبيل الحد من احتمال تطور مثل هذه التحالفات وقطع طريق التواصل بين القوى الديمقراطية العالمية. وهذا يعني أن على هذه القوى والحركات أن تفكر منذ الآن في بناء أطر التضامن العالمي الجديدة وتزويدها بالإمكانيات والوسائل الكفيلة بتحويلها إلى أطر فاعلة وناجعة. وهو ما يشكل اليوم في نظري أكبر تحد تواجهه حركة التحويل الديمقراطي العالمية وعلى حله سيتوقف نجاحنا في التحقيق السريع للإصلاح العالمي.
ذكرت مجلة "نيوزويك" الأمريكية أن الإدارة الأمريكية تبحث حاليا في تغيير نظم دول عربية وإسلامية أخرى، بالإضافة إلى النظام العراقي الذي يقوده صدام حسين. وأكدت المجلة في عددها الصادر الثلاثاء 14-8-2002 أن بعض مسئولي الإدارة الأمريكية والحلفاء في واشنطن يؤيدون تغيير النظامين السياسيين في كل من إيران والسعودية. وأضافت: إن النقاش الدائر في الأوساط الأمريكية حول النظم الحاكمة يشمل أيضا مصر وسوريا، بالإضافة إلى كوريا الشمالية وبورما. ويأتي ذلك في وقت يشن فيه الرئيس الأمريكي جورج بوش حملة تهدف إلى عزل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. واستشهدت المجلة على ذلك بتصريحات متعددة لمسؤولين بالإدارة الأمريكية، ومنهم "زالمى خليل زاد" المستشار البارز بمجلس الأمن القومي الأمريكي الذي أعلن في خطاب بمعهد واشنطن لشئون الشرق الأدنى في بداية شهر أغسطس 2002 أن النظام الإيراني الحالي بشقَّيْه المتمثلَيْن في حكومة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي المنتخبة أو الملالى غير المنتخبين على الحياة العامة يُعد من الأنظمة "غير المجدية". إلا أن خليل زاد لم يطلب في خطابه بشكل صريح تغيير النظام الإيراني الحالي، كما أنه لم يعارض هذه الفكرة عندما ألمح أحد الحاضرين أن هذا هو هدف الإدارة الأمريكية. السكين في الظهر خاتمي بينما حذر ريتشارد ميرفى -مسؤول سابق لشئون الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الأمريكية- في تصريحات للمجلة.. الولايات المتحدة من احتمالية أن تخسر إيران كحليف تحتاج إليه، وقال: إن الإيرانيين سيكونون حذرين وهم يضعون أيديهم في أيدينا إذا علموا أننا نضع في نفس الوقت السكين في ظهورهم. ولم يُشر المستشار الأمريكي في خطابه إلى أي خطة لاستخدام القوة العسكرية، لكنه وعد بمساعدة الشعب الإيراني بشتى الطرق للوصول لحياة ديمقراطية حرة. كما كان ريتشارد بيرل رئيس مجلس تنسيق سياسات الدفاع الخاصة بالرئيس بوش قد دعا مؤخرا أحد الخبراء الفرنسيين للمشاركة في ندوة بوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" حول مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية. ووصف الخبير -ويدعى لوران مورافيتس- السعوديين بأنهم نشطاء على جميع المستويات بدءا من المخططين والممولين، ومرورا بالقياديين والجنود، وانتهاء بالمنظرين الأيديولوجيين والمؤيدين. ودعا مورافيتس في كلمته إلى استهداف السعودية، معتبرًا أنها نواة الشر والعدو الأكثر خطورة في الشرق الأوسط. وعندما تسرب هذا الخبر للصحافة ووسائل الإعلام أنكرت الإدارة الأمريكية بشدة رغبتها في تغيير النظام الملكي السعودي. إلا أن مجلة "نيوزويك" أكدت رغم ذلك على أنه ما زالت هناك بعض العناصر داخل الإدارة الأمريكية تتحدث عن احتمال تغيير النظام السعودي. وأكد "كينيث كاتزمان" الخبير بالشئون الإيرانية الذي يعمل ضمن خدمات الأبحاث التابعة بالكونجرس الأمريكي لمجلة "نيوزويك" أن الإدارة الأمريكية تركز حاليا في تفكيرها على فكرة تحقيق الديمقراطية، وإصلاح النظم العربية والإسلامية، بدلا من التعامل معها على وضعها الحالي. إلا أن بعض الخبراء في مجال الإستراتيجية أعربوا عن قلقهم إزاء تلك الأحاديث الدائرة بتغيير نظم بعض الدول؛ وذلك خشية من عرقلة خطط الولايات المتحدة لغزو العراق
|
ساحة النقاش