.

   ذكر الصوفية في كتبهم أن هناك نوعين من الثمرات لطالبي سلوك الطريق إلى الله تعالى؛ النوع الأول : هو الذي أسموه بالكرامات المعجلة؛ أي الأشياء التي تحدث للسالك أثناء سيره إلى الله تعالى، والنوع الثاني وهو المشاهدات والفتوحات .

أما النوع الأول وهو الثمرات المعجلة، فمنها :

1 – أن يأنس العبد بالخلوة والوحدة، ويألف الأماكن الخالية التي تهدو (*) فيها الأصوات والحركات .

2 – الأنس والمحبة الشديدة للصلاة؛ لأنها تسد أبواب الحواس وتجمع قواها في القلب .

3 – أن يستوحش من الخلق ومن نظرهم، ولا يخالطهم إلا في جمعة أو في جماعة أو ميعاد فيبقى أجنبيًا عنهم مستعينًا بالله تعالى وحده دون سواه .

4 – أن يفتح له بحلاوة العبادة في الصلاة والركوع والسجود فيحب أن يبقى يومه أجمع لا يشغله عن العبادة شاغل .

5 – أن يفتح له بحلاوة استماع كلام الله عز وجل وترديده على الأسماع والقلوب فيرزق في التلاوة بوارق الشعور بالمتكلم سبحانه وبفهم مراده من كلامه .

6 – أن يفتح له بعد ذلك - إن شاء الله - بالحياء من الله سبحانه وتعالى .

7 – أن يفتح له بحلاوة الذكر، فيرزق الفناء والاستغراق فيه حتى يغيب فيه ويدخل إلى عالم الغيب (1) .

أما النوع الثاني من ثمرات السلوك إلى الله تعالى؛ فقد أسموه "المشاهدات" ، ويقصد بها أن يكشف الله تعالى عن عبده السالك في طريقه "حجاب الوجود، ويطلع صبح التوحيد وقمره، وتبزغ شموس المعرفة، وينمحي ليل الوجود بطلوع فجر التوحيد؛ فيذهب في ذلك من لم يكن، ويبقى من لم يزل "(2) .

        ويقول الإمام الواسطي عن المشاهدة إنها " مشارفة العبد ولوج قلبه ملكوت السماء، والمكافحة بصريح الحق وعلم اليقين(3) وعين اليقين(4) وحق اليقين(5) ... كما لا ينضبط ما يبادي به الحق عز وجل عباده وأهل ولايته... "(6).

      والواسطي هنا لا يختلف عمن سبقوه من مشاهير الصوفية، فالغزالي– مثلاً- يصف المكاشفة بأنها " نور في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها؛ فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة؛ فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله، وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي ومعنى الوحي، ومعنى لقاء الله عز وجل، والنظر إلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه، والنزول في جواره ومعنى حصول السعادة، بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة، والنبيين ... "(7).

وفى نفس المعنى يقول القشيري: " لم يزد في بيان تحقيق المشاهدة أحد على ما قاله عمرو بن عثمان المكي (رحمه الله)، ومعنى ما قاله: إنه تتوالى أنوار التجلي على قلب المريد من غير أن يتخللها ستر وانقطاع كما لو قدِّر اتصال البروق، فكما أن الليلة الظلماء بتوالي البروق فيها واتصالها إذا قدرت تصير في ضوء النهار، فكذلك القلب إذا دام به دوام التجلي مَتَع(8)فلا ليل "(9).

    كما ورد عند الواسطي أن أهل الطريقة أنشدوا في أمر المشاهدة شعرًا، ومنه:

"ليلى بوجهك مشرق        وظلامه في الناس ساري

والناس في سدف الظلا   م ونحن في ضوء النهار "(10)

ونجد أن الواسطي حاول شرح بعض الأبيات التي نظمها بعض الصوفية؛ والتي تشير إلى بدايات السالك إلى الله عز وجل ونهاياته، ومن هذه الأبيات :

من كان في ظلم الليالي ساريًا رصد النجوم وأوقد المصباحا

حتى إذا ما البدر أرشد ضوءه  ترك النجوم وراقب الإصباحا

حتى إذا انجاب الظلام بأسره    ورأى الصباح بأفقه قد لاحـا

ترك المسارج والكواكب كلها البدر وارتقب السنا الوضاحا"(11)

  وقد شرح الواسطي الأبيات السابقة شرحًا جميلاً، تدرج فيه مع المبتدئ وأحواله في أول السير والسلوك، ومعاناته وما يصادفه من عوائق وعقبات، وتغلبه عليها حتى يصل إلى مطلوبه الأسمى، وكان يقول رحمه الله وهو يحث المريد السالك: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل؛ فحينئذ تذهب عن المريد كل ظلمة، ويصير – كما يقول الواسطي – في ضوء النهار حقيقة (12).

أقسام ثمرة المشاهدة :

      يقسِّم الواسطي (رحمه الله) ثمرات المشاهدة إلى ثلاثة أقسام تتضح في قوله:

" يقتضى ترتيب المشاهدة على مقتضى الترتيب العلمي ثلاثة أقسام : معرفة الله تعالى في أفعاله، ومعرفته في صفاته، ومعرفته به عز وجل :

الأول : أن يفتح للقلب التفكر في نِعَم الله تعالى وآلائه وصنائعه وصنعه وخلقه وأمره... فإذا استغرقت فكرته في هذا بدا على سرِّه نور المعرفة بواسطة الأفعال؛ فيسمى هذا معرفة الله عز وجل بأفعاله، وهو فوق الإيمان به..  .

الثاني : معرفة الصفات؛ وذلك ينكشف أيضًا على فضاء القلب عند تأمل الشريعة والتلاوة للوحي الإلهي... فإذا استغرق القلب في ذلك وغاب في تلك المعاني بدا على القلب مشهد الفوقية؛ فيوقن حينئذ بأن هذا الوحي نزل من عند الله يسمى مشهد الربوبية؛ ثم يرجى أن ينكشف للقلب مشهد المعية، يقول تعالى:" وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ "(13)، فيشهد إحاطة الرب العظيم بخلقه، وبعلمه، وسمعه، وبصره، وقربه منهم، وهذا يسمى مشهد المعية .

الثالث: المعرفة الكلية الجامعة بجميع معاني الأسماء والصفات، وهو مشهد الجمع؛ ويجتمع للعبد فيه المتفرقات والمشاهد ... "(14).

      وعندما يتم للعبد هذه الأقسام الثلاثة السابقة بعد سيره إلى معرفة الحق تعالى والقرب منه يصير في النهاية بين يديه؛ فيتولاه سبحانه وتعالى تولية كاملة في كل

أموره وشئونه وأحواله؛ حتى يصبح ربُّ العزة تعالى – كما ورد في الحديث القدسي– بمثابة يد العبد التي يبطش بها، وسمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به .

    وأهل المشاهدة – عند السراج الطوسي – على ثلاثة أحوال :

" الأول منها: الأصاغر، وهم المريدون، وهو ما قاله أبو بكر الواسطي (رحمه الله) : يشاهدون الأشياء بعين العبر، ويشاهدونها بأعين الفكر .

والحال الثاني من المشاهدة: الأوساط، وهو الذي أشار إليه أبو سعيد الخراز، (رحمه الله)، حيث يقول : الخلق في قبضة الحق وفى ملكه، فإذا وقعت المشاهدة فيما بين الله وبين العبد لا يبقى في سرِّه، ولا همِّه غير الله تعالى .

والحال الثالث من المشاهدة: ما أشار إليه عمرو بن عثمان المكي، (رحمه الله)، في كتاب المشاهدة، فقال : إن قلوب العارفين شاهدت الله مشاهدة تثبيت؛ فشاهدوه بكل شيء، وشاهدوا كل الكائنات به، فكانت مشاهدتهم لديه ولهم به، فكانوا غائبين حاضرين، وحاضرين غائبين، على انفراد الحق في الغيبة والحضور؛ فشاهدوه ظاهرًا وباطنًا، وباطنًا وظاهرًا، وآخرًا وأولاً، وأولاً
وآخرًا ... "(15).

ويصف الإمام الواسطي العبد المريد بعد وصوله إلى ما يبغي، وحصوله على ثمرات سيره وسلوكه في طريق الحق سبحانه وتعالى " إنه انتهى سيره وسلوكه واتصل قلبه بالله عز وجل اتصالاً لا انفصام له، واتصل ظاهره بالنسبة والمتابعة اتصالاً لا انفصام له، وذلك هو حقيقة المتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها من الله تعالى ولا من رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فيرث العبد قسطًا من حال الرسول (صلى الله عليه وسلم) الباطن كما ورث قسطًا من علمه الظاهر؛ فتكمل بذلك فطرته بجميع أجزائها، وتنور بجميع أرجائها، فلمثل ذلك فليعمل العاملون، وعلى ذلك فليتنافس المتنافسون " (16).

    ولقد ذكر الواسطي (رحمه الله) ثمرات السلوك والسير إلى الحق تعالى كثيرًا في كتبه ومصنفاته، والملاحظ أنها قد أتت متفرقة ومتناثرة بين كلامه، كما أتت مجتمعة في مواضع أخرى من كتبه (17)، ولكن الجدير بالملاحظة براعته في    تصويرها، وتنوُّع أشكالها، وطرق ورودها على المريد السالك؛ الشيء الذي يجعل ذلك المريد بصفة خاصة، والإنسان بصفة عامة يتشوق، ويسعى جاهدًا للحصول على هذه الثمرات الإلهية، والوصول إلى هذه الدرجة العليَّة من القرب من الله سبحانه تعالى.


<!--[endif]-->

*هكذا وردت في المخطوط، والصحيح : تهدأ .

(1) ينظر الواسطي : في السلوك – القسم الثاني لوحة 190ص ب .

(2) المرجع السابق، القسم الأول – لوحة 31 ص أ.

(3) ما علمه العبد بالسماع والخبر والقياس والنظر، وهو لأرباب العقول. الرسالة ص85.

(4) ما شاهده العبد وعاينه بالبصر، وهو لأصحاب العلوم. السابق نفس الصفحة.

(5) ما باشره العبد وذاقه وعرفه بالاعتبار، وهو لأصحاب المعارف. السابق نفس الصفحة.

(6) الواسطي: في السلوك ، القسم الأول – لوحة 13ص ب.

(7)  الغزالي: إحياء علوم الدين جـ1 ص 35 .

(8) مَتَع نهاره: كناية عن استمرار العطاء الإلهي والكشف الرباني بتمديد وقت النهار إلى الليل حتى ينعدم الليل .

(9)  القشيري: الرسالة القشيرية ص 75 – 76.

(10)  الواسطي: في السلوك، القسم الأول– لوحة 85 ص ب، ينظر القشيري: الرسالة ص76.

(11)  المرجع السابق، القسم الأول – لوحة 87 ص أ.

(12) ينظر الواسطي : في السلوك، القسم الأول – لوحة 87 ص أ.

(13) سورة الحديد : من آية 4.

(14) الواسطي : في السلوك – القسم الأول – لوحة 13 ص ب، 14 ص أ، ب .

(15) الطوسي : اللمع ص 101 .

(16) الواسطي : في السلوك – القسم الأول – لوحة 14 ص ب

(17) ينظر الواسطي: في السلوك، القسم الأول لوحة 13، 14، 22، 23، 24، 30، 31 وما بعدها، والقسم الثاني من لوحة 153 إلى لوحة 155، لوحة 159،158،157، ولوحة 70، 71، ومن لوحة 183 إلى لوحة 185، والقسم الثالث من لوحة 210 إلى لوحة 212، لوحة 223،222،221، والقسم الخامس 260 وما بعدها وغير ذلك .

 

المصدر: مصطفى فهمي:رسالة ماجستير-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 3901 مشاهدة

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

453,965