....على بُعد 350 كيلومتراً من محافظة مطروح، وتحديدًا بعد أكثر من 5 ساعات سيراً فى عمق الصحراء الغربية يكمن ما يمكن وصفه بـ«الكنز المائى»، حيث توجد بحيرة طبيعية ممتدة الأطراف، مصدرها عين جوفية تضخ مياهاً علمنا بعد تحليلها أنها أكثر عذوبة من نهر النيل.وبرصد استقصائى توصلنا إلى أن الأمر يُمكن أن يكون أكبر كثيراً من مجرد عين تفجرت منذ عشرات السنين دون أن تجد من يستغلها فحسب، خاصة بعد ما شاهدناه على الطبيعة وسمعناه من شهادات وآراء جيولوجية وتاريخية جميعها يتحدث عن أن مياه هذه العين نابعة من نهر جوفى فى باطن الصحراء الغربية، مدعمين هذا التفسير بوجود آبار أخرى موازية لهذه العين على مسافات متباعدة، تخرج منها مياه بنفس مواصفات وخواص مياه هذه العين.هذا التفسير كان المنطلق لرحلة خاضتها «المصرى اليوم» فى عمق الصحراء الغربية لرصد هذه العين وغيرها من الآبار الموازية، بغرض التأكد من حقيقة وجود ثروة مائية مخزونة فى باطن الصحراء، وغير ملتفت إليها، رغم ما تعانيه مصر فى الوقت الراهن من تهديدات بفقر مائى مستقبلى، فكانت هذه الرحلة.
الزمن: السادسة وعشر دقائق صباحاً
المكان: أمام أحد فنادق محافظة مطروح
المشهد: سيارتان نصف نقل بحالة ظاهرية تبدو متهالكة تقفان أمام البوابة الرئيسية للفندق، وأمام كل منهما رجل يرتدى الزى البدوى، أحدهما يدعى جبران صالح جبران، والآخر اسمه فرج سالم طاهر، وهما يشتهران بين قبائل مطروح بأنهما من «ثعالب الصحراء»، خاصة أن عملهما هو إمداد القبائل التى تتخذ من قلب الصحراء الغربية موطناً، بالمؤن اللازمة للحياة ومساعدة سكانها على بيع ما ينتجونه من محاصيل كالبلح والتمور والمصنوعات اليدوية، لأهالى مطروح وروادها، مما يعنى أنهما إحدى حلقات الوصل بين سكان القبائل الصحراوية وأهالى المدينة.
أمام الفندق، وفى هذا التوقيت (المحدد سلفاً)، التقيت أنا وزميلى المصور طارق الفرماوى، بهذين الرجلين وبعد التحية أطمأننت منهما على توافر كل ما نحتاجه من مؤن وتصاريح لرحلة فى قلب الصحراء الغربية، قاصدين خلالها مكاناً ظللت أجمع عنه معلومات على مدار شهر مضى، وتأكدت خلالها أننا مقبلون على رحلة شديدة الوعورة تنتهى بكشف خطير وقد كان.
قبل هذه الرحلة بيوم واحد كنت التقيت بجبران وفرج، بعد رحلة بحث عن أشخاص يعلمون دروب الصحراء ومسالكها ومدقاتها، يصلحون لمرافقتنا إلى ما نسعى إليه، وخلال اللقاء تحدثت معهما عما لدى من معلومات بشأن وجود ما يشبه بحيرة عذبة فى قلب الصحراء الغربية، منبعها عين جوفية تفجرت منذ عشرات السنين، ولم تتوقف عن الانهمار، فكانت المفاجأة أنهما أكدا لى صدق هذه المعلومات، بل قالا إنهما من روادها، ويعرفان الكثير عنها، وأن هناك أكثر من عين أخرى تقع على نفس الخط، بها مياه بنفس الخواص والضغط، فأيقنت أننا نسير على الطريق الصحيح، وقررت ألا أضيع الوقت، وتناقشت معهما حول الطريق المؤدى إلى هذه العيون، وما نحتاجه من مؤن وتصاريح، واتفقنا على الانطلاق صبيحة الغد بعدما حصلنا على التصاريح اللازمة لدخول هذه المنطقة، كما اتفقنا على السير بسيارتين بدلاً من واحدة بدعوى زيادة الأمان.
فى السادسة والربع صباحاً تحركنا من أمام الفندق متوجهين إلى قلب الصحراء الغربية وتحديداً إلى منطقه تدعى «عين كيفارة» تبعد عن مدينة مطروح بنحو 350 كيلو متراً، نسير منها نحو 100 كيلو متر على الطريق المؤدى إلى واحة سيوة، وهو طريق سريع ممهد، ثم نتجه إلى قلب الصحراء لنسلك «مدقات» شديدة الوعورة.
خلال سيرنا على طريق «مطروح - سيوة» هاجمتنا شبورة ممطرة شعرنا معها بأننا عدنا لمنتصف شهر فبراير، حيث الشتاء القاسى، وبعد أكثر من 20 كيلو متراً انقشعت الشبورة، وعدنا إلى «الحر»، فواصلنا السير إلى أن وصلنا إلى منطقة تسمى «بئر النص» وعندها ودعنا الطريق الممهد وبدأنا الرحلة فى عمق الصحراء.
السكون التام وثبات المشهد ظلا ملازمين لنا منذ تعمقنا داخل الصحراء لمدة تجاوزت الساعة تقريباً، لم يغيرهما سوى بعض الأودية الخضراء المزروعة طبيعياً بأعشاب صحراوية وأشجار الطلح، التى يتجمع حولها قطعان من الجمال التى لم نعرف من أين تأتى وإلى أين تتجه.
ظل المشهد هكذا إلى أن تبدد اللون الأصفر من على جانبى الطريق وحل مكانه بياض ناصع، راسماً لوحة إلهية جعلتنا نشعر بأننا انتقلنا فى دقائق معدودات من زمهرير الصحراء الغربية، إلى جليد «سيبيريا» فى روسيا، وأمام هذا المشهد الخاطف لم أتمالك نفسى وطلبت من الدليل «الشيخ فرج» التوقف لرصد هذا التغير، فضحك قائلاً: «هذا ملح طبيعى من الأرض، وهى ظاهرة نراها منذ نحو 40 عاما».
(بالعودة إلى جيولوجيين بعد الرحلة علمنا أن هذا الملح نتاج تغلغل المياه فى باطن الأرض على مسافة قريبة، مما تسبب فى تقلب عناصرها وبروز أملاحها من الباطن إلى السطح، مكونة طبقة صخرية فى بعض المناطق وأخرى رخوة جدا).
أمام هذا المشهد اقتربت من هذا الملح وبدأت أنبش أسفله فلاحظت أنه بمجرد أن أغرس يدى فى باطن الأرض أجد ماءً، وقتها شعرت بأننا اقتربنا مما ننشد، وهو ما أكده لى دليلى فى الرحله قائلا: «هذه الوديان من الملح الطبيعى والأرض أسفلها متشبعة بالمياه لأننا اقتربنا من منطقة عين كيفارة».
تحركنا بالسيارتين بعد ذلك، وقبل أن نتجاوز الـ20 دقيقة لمحت فى الأفق ما يشبه الحزام الأخضر ينتصفه انعكاس ظننت فى البداية أنه سراب، لكن بعدما اقتربنا أكثر وجدتها بحيرة كبيرة جداً، وفى أقل من 10 دقائق أخرى توقفنا، وقبل أن يتحدث أى من الدليلين المصاحبين لنا اندفعت وزميلى المصور صوب منطقة تكسوها خضرة كثيفة وبوص و«هيش»، وكنا كلما نقترب نسمع صوت اندفاع الماء إلى أن وصلنا لمنطقة البئر، فكان مشهد تتراقص له الأفئدة وتبكى منه الألباب.
حينما وصلنا إلى البئر وجدنا مياها تندفع بقوة رهيبة من بين جدران تهالكت بفعل الضغط المائى، عائدة إلى الأرض، مُشكّلة جداول وشلالات طبيعية يتصاعد منها البخار، وبمجرد أن اقتربنا من الماء ولمسناه وجدناه ساخناً جداً، لدرجة تقترب من الغليان، فسارعت بسؤال «الشيخ جبران» عن سر سخونة هذه المياه، فقال: «لأنها خارجة من باطن الأرض، لكنها تبرد سريعاً».
(وقتها تذكرت بداية الخيط الذى دلّنى على هذا الكشف، وكان تقرير رسمى صادر عام 1985، عن معمل بحوث الأراضى الملحية والقلوية التابع لمديرية الزراعة بالإسكندرية، أكد أن سرعة تدفق هذه المياه يتجاوز 20 ألف متر مكعب يومياً أى ما يعادل 7 ملايين و300 ألف متر مكعب سنوياً، ودرجة حرارتها نحو 65 درجة مئوية، ومعدل عذوبتها يفوق مياه نهر النيل بعد تنقيتها).
قمت بالتسلق بين الصخور المتشبعة بالطفيليات إلى أن وصلت لجدران منبع المياه، فوجدت داخلها «محبساً» ضخماً يتجاوز طوله المترين مخصصاً لآبار البترول، يبدو أنه انفجر منذ فترة طويلة بسبب ضغط المياه التى تنهمر من كل اتجاه مُشكّلة جدولاً عشوائياً غاية فى الجمال، حيث تحيطه الخضرة من كل اتجاه، وتصعد منه الأبخرة الدالة على ارتفاع حرارة المياه، سائراً إلى نقطة التجمع وهى البحيرة.
أمام عين كيفارة قال الشيخ فرج: «آتى إلى هنا من قبل 1985 ومنذ هذا الوقت والعين تضخ المياه بنفس الغزارة، وكل ما أعلمه أن هذا المحبس وضعته شركة بترول تدعى كيفارة، منذ نحو 50 عاماً، حينما عثرت على الماء أثناء تنقيبها عن البترول، لكن لم يتعد وقت طويل إلا وانفجر المحبس نتيجة شدة ضغط الماء، ومنذ هذا الوقت كلما مررت أجد العين تضخ الماء بهذه الشدة».
وأضاف: «لم يأت إلى هنا أى مسؤول أو أى جهة منذ هذا الوقت، إلا مرات نادرة لم تفعل خلالها أى شىء، ولا أعرف لماذا لم يتم استغلال هذه المياه عن طريق ضخها إلى مطروح وضواحيها التى هى فى أشد الحاجة إلى المياه».
وتابع الشيخ فرج: «أشرب دائماً من هذه المياه، بل آخذ منها إلى المنزل فى جراكن لأنها مياه نظيفة جداً جداً، وأحسن من المعدنية، ولذلك أناشد المسؤولين أن يستغلوا هذه المياه لتعمير صحراء مطروح».
وقال الشيخ جبران: «آتى إلى هنا منذ عام 1992، ويقال إن هذه العين تضخ الماء منذ عام 1948 أو 1955 تقريباً، لكن هذه البناية المحيطة بالبئر جديدة أنشأها جهاز تعمير الصحارى»، مؤكداً أن المياه طعمها «لذيذ جداً»، وبها معادن كثيرة.
وحول محاولات استغلال هذه المنطقة، قال الشيخ جبران: «فى إحدى السنوات جاء رجل أعمال وأقام مزرعة سمكية، لكنه لم يستطع تجميع السمك بسبب البوص والهيش المحيط بالمياه، وفى مرة أخرى جاء أحد المستثمرين بعرض لاستغلال المنطقة زراعياً وسمكياً لكن ما عرفته أن المحافظة وضعت له عوائق كثيرة منها فرض رسوم عالية على استهلاك المياه، فلم يوافق».
وأضاف: «مياه عين كيفارة هى نفس المياه الموجودة فى عين تبغبغ وغزالة وأم الصغير وهو ما يؤكد أن هذه المياه ليست مجرد بئر جوفية، لكنها أشبه بالنهر».
بعد الوقوف كثيراً أمام منبع هذه المياه قررنا القيام بجولة واسعة حول هذه العين حتى الوصول إلى البحيرة فكان أكثر ما لفت الانتباه هو ألوان الصخور التى تسير فوقها المياه، والأرض الطينية والزراعات الصحراوية الكثيفة، إضافة إلى بقايا حيوانات برّية وطيور بحرية لا نعرف كيف أتت إلى هذه البقعة.
اقتربنا بالسيارتين من البحيرة ثم توقفنا لأن الأرض أصبحت طينية مشبعة بالمياه، مما يعوق السير صوب البحيرة بالسيارتين، وأمام هذا المشهد اقتربت مسرعاً نحو المياه عابراً أنواعاً غريبة من المزروعات والبوص الشائك دون خوف من تحذيرات الدليلين من الحشرات والزواحف الخطيرة، إلى أن وصلت قرب البحيرة التى لم أستطع الوقوف على شاطئها لأن الوصول إليه كان يعنى الغوص فى الطين.
ومن البحيرة قررنا الذهاب إلى أقرب عين من «كيفارة» للوقوف على ما لدينا من معلومات حول كون ما وجدناه من مياه ليس نابعاً من مجرد بئر، فاتخذنا الطريق إلى منطقة أخرى تسمى قارة أم الصغير.
بعد رحلة تجاوزت الساعتين وصلنا إلى هذه «القارة» فوجدناها قرية آهلة بالعشرات من البدو الذين تجمعوا حولنا مرحبين بنا بشكل ينم عن فطرة وطيبة قلما وجدت فى هذا الزمن، وهناك التقينا بشيخ القارة، وهو كهل يدعى الشيخ مهدى، وطلبنا منه الوصول إلى البئر، فأخذنا بنفسه إليها.
بمجرد الوصول إلى هذه البئر وجدنا طلمبات وماكينة رفع عملاقة علمنا أن المحافظة بالتعاون مع هيئات مانحة قامت بتركيبها لكى يستفيد منها أهل القارة، حيث تخرج المياه من البئر بنفس درجة حرارة «عين كيفارة» ومنها تتجه إلى مجرى مؤد لحوض كبير لتبريدها، على أن تسير بعد ذلك إلى المنازل والزراعات.
أمام هذه البئر التقينا شخصاً يدعى مصطفى محمد خليفة، علمت من الشيخ مهدى أنه مسؤول البئر، الذى يتولى عملية فتحها وغلقها فى أوقات معينة.
قال خليفة: «المياه الساخنة اللى بتخرج من العين، بنوديها على مبرد إحنا عاملينه، عشان يبردها شوية، وهى مياه نظيفه بتبرد فى وقت قليل، وبعدين بتروح على الجناين، لكن لو هنستخدمها فى الشرب، بتطلع على خط تانى غير خط التبريد، هو خط موصل بعدادات استهلاك لكل بيت فى القارة، عشان المحافظة تحاسبنا عليه، وللعلم البير ده ممنوع يتقفل، لكننا ممكن نقفل المحابس فقط وده لما كل خزانات المياه اللى فى القرية بتتملى، ساعتها بنقفل المحابس ونوجه المياه للأرض».
وهنا تدخل الشيخ مهدى قائلاً: «حوض التبريد ده بياخد المياه اللى جاية من الخزان، ويفرغها فى حوض، وبعدين تروح للحوض الثانى عن طريق ماسورة، وبعد التبريد بنسيب المياه على الأراضى المخصصة للزراعة».
وحول التشابه فى خواص وقوة مياه بئرى القارة وكيفارة، قال الشيخ مهدى: «نعم هى مياه واحدة، وهناك أكثر من بئر أخرى على نفس الخط تخرج هذه المياه منذ عشرات، بل مئات السنين، لكننا لم نستفد منها، لبعدها الكبير عن القارة».
وأضاف: «نحن كنا نعيش لفترة طويلة على مياه كيفارة، وذلك قبل اكتشاف هذه البئر المجاورة لنا، ولأننا شربنا من الاثنتين، نؤكد عدم وجود أى اختلاف بينهما سواء فى درجة حرارتها أو فى طعمها».
بعد هذه الجولة سعينا إلى الوصول لبئر ثالثة، لكن بُعد المسافة ووعورة الطريق، وقرب نفاد ما معنا من مؤن حالت دون ذلك، فاكتفينا بما رصدنا، وقررنا العودة إلى مطروح، حاملين معنا ما يمكن تسميته بـ«كشف مائى» خطير، نقدمه خالصاً للمسؤولين، أملاً فى استغلاله، ونحن فى أشد الحاجة إليه.