بقلم د. عصام صابر عبد السيد

استاذ باحث مساعد بقسم السليلوز و الورق

المركز القومي للبحوث

يعود اختراع الورق إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد (حوالي 2700 ق. م) عندما اخترع المصريون القدماء مادة صالحة للكتابة سهل الحصول عليها وفى متناول الأيدي من ورق البردي. وتعد صناعة الورق من أعظم الاختراعات في تاريخ البشرية، وقبل ذلك كانت الكتابة (التي ظهرت في الألفية الرابعة) مقصورة على الحجر أو اللوحات الطينية، التي استخدمها السومريون.

وبهذا تكون صناعة الورق من البردي قد حلَّتمشكلة الكتب الحجرية والطينية؛ ذلك لأنه و لكتابة نص أدبي أو علمي طويل نسبيًّا كان يحتاج إلى أكوام من قطع الحجر المصقولة أو اللوحات الطينية التي كانت تحرق -المهمة منها- في أفران، وتحفظ في أغلفة طينية بعد أن ينثر عليها قليل من مسحوق الطمي الجاف ليمنع التصاقها بغلافها، ذلك الغلاف الذي كان يجب كسره بطبيعة الحال قبل قراءة لوحته الداخلية.

فإذا أراد شخص أن يقرأ هذا النص أو ذاك كان يتحتم عليه أن يقلب أكوامًا من الحجارة حتى يأتي على محتويات النص أو الكتاب، ودعك من حمل هذه الكتب ونقلها من مكان لآخر وهي بالطبع مهمة شاقة.

فقد روي أن الإسكندر الأكبر - بعد أن استولى على بابل- أمر بنقل آلاف اللوحات الطينية البابلية الخاصة بالعلوم إلى المدن اليونانية على ساحل البحر الأبيض المتوسط لترجمتها إلى اللغة اليونانية؛ وقد حملت هذه اللوحات على قوافل كبيرة من الجمال، ولولا ورق البردي لضاع جزء كبير من التراث العلمي والثقافي لأشهر الحضارات القديمة -الحضارة المصرية- ولتغير تاريخ الثقافة والعلوم تغيرًا كبيرًا.

وقد صنع الفراعنة الأحبار من مسحوق المعادن، وصنعوا الأقلام من أشواك نباتات مناسبة، وقد خلد التاريخ جهود الفراعنة في اسم الورق في أغلب اللغات العالمية المشتقة من كلمة "papyrus" وهو اسم البردي، أما اسم الورق في اللغة العربية فهو من كلمة الرق (بفتح الراء) أي الجلد المرقوق.

وظل استعمال ورق البردي في الكتابة حتى القرن الحادي عشر الميلادي؛ فقد كتبت المنشورات الباباوية على ورق البردي حتى عام 1032م.

أما الورق الحالي، الذي يُصنع معظمه من عجائن من لباب الشجر فهو اختراع صيني، ويرجع إلى القرن الثاني بعد الميلاد، وهو يختلف في طريقة صنعه عن الورق الفرعوني؛ لكن الفكرة واحدة وهي تصنيع شرائح أو رقائق من مادة مرنة تصلح للكتابة عليها.

بين الحرير والغاب

كانت الخطوة الأولى في هذا الاختراع العظيم هي كشف مادة تكون الكتابة عليها أسهل مقارنة بالحرير أو الغاب اللذين قنع بهما الصينيون زمنًا طويلاً؛ ذلك أن الحرير غالي الثمن، والغاب ثقيل الوزن؛ حيث كان الكاتب يحتاج إلى عربات نقل يحمل عليها الكتب المدونة على شرائح الغاب، وكان على القارئ أن يقلب عشرات أو مئات الأرطال من قطع الغاب كي يطلع على نص علمي أو أدبي.. وفي عام 105 بعد الميلاد صنع (تسي آي لون) ورقًا من لحاء الشجر وشباك الأسماك، وبعد ذلك طوَّر الصينيون هذه الصناعة باستخدام مادة ماسكة من الغراء أو الجيلاتين مخلوطة بعجينة نشوية ليقووا بها الألياف ويجعلوا الورق سريع الامتصاص للحبر.

ويبدو أن الورق الصيني كان محدود الانتشار ولم يذع خبره في العالم القديم أو الوسيط، حتى إن العرب لم يأخذوه في أعمالهم التجارية، وكانوا يتاجرون مع الصين والهند منذ قرون موغلة في القدم، ويبدو أن أوروبا لم تسمع عن الورق الصيني هذا إلا بعد أن طوره المسلمون، مما يوحي بأن الورق الصيني لم يكن جيدًا أو مناسبًا تمامًا للكتابة.

الورق في الحضارة الإسلامية

وعرف العرب أسرار صناعة الورق الصيني من خلال سمرقند التي فتحوها في عام 93هـ = 712م، وفي عام 178هـ = 794م أسس الفضل بن يحيى في عصر هارون الرشيد (170-193هـ= 786-809م) أول مصنع للورق في بغداد؛ ومن ثَمَّ انتشرت صناعة الورق بسرعة فائقة في سائر أنحاء العالم الإسلامي، فدخلت سوريا ومصر وشمال إفريقيا وإسبانيا، وكان الناس حتى ذلك الوقت يكتبون على الرق والعسب واللخاف، ثم أمر هارون الرشيد -بعد أن كثر الورق- ألا يكتب الناس إلا في الكاغد (الورق).

وطور المسلمون صناعة الورق وأنتجت المصانع الإسلامية أنواعًا ممتازة من الورق، وأدى ذلك إلى تسهيل إنتاج الكتب بطريقة لم تكن موجودة قبل العصر الإسلامي؛ ففي أقل من قرن من الزمان، أنتج المسلمون مئات الآلاف من نسخ الكتب العلمية والأدبية والدينية والفنية؛ التي ازدانت بها مئات المكتبات العامة والخاصة في أرجاء العالم الإسلامي من قرطبة إلى سمرقند وصولاً إلى الصين.

وكان الأوروبيون في ذلك الوقت يكتبون على رقوق من جلود الحيوانات؛ بل اعتاد الرهبان على حكِّ مؤلفات عظماء اليونان المدونة على الزق؛ ليكتبوا بدلاً منها مواعظهم الدينية؛ مما أدى إلى ضياع الكثير من تراث اليونان العلمي والثقافي.

دور الورق في انتشار العلم

وترتب على تطور صناعة الورق انتشار الكتب في كل مكان؛ ولا سيما في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية (الرابع الهجري= العاشر الميلادي)؛ حيث كان يوجد مكتبة بكل مسجد، وكان الحكام والأغنياء يتباهون ويفاخرون بجمع الكتب واقتنائها، وكان بعضهم يجري الأرزاق على العلماء وطلاب العلم في هذه المكتبات، وكانت بغداد تضم ستة وثلاثين مكتبة قبل أن يدمرها المغول، وكان الحَكَمُ صاحب الأندلس يبعث رجالاً إلى جميع بلاد الشرق ليشتروا له الكتب بمجرد ظهورها، وكان فهرس مكتبته يتألف من أربع وأربعين كراسة كل منها عشرون ورقة، ولم يكن بهذا الفهرس إلا أسماء الكتب، أما في مصر فكان للخليفة العزيز (ت 386هـ= 996م) خزانة كتب كبيرة تحتوي تقريبًا على كل الكتب المعروفة آنذاك، وجمع القاضي أبو المطرف (ت 402هـ=1011 م) في قرطبة مكتبة لم يكن لها مثيل في الأندلس.

<!--<!--<!--
المصدر: ‏[1] تاريخ العلوم والتكنولوجيا.. في العصور القديمة والوسطى ومكانة الحضارة الإسلامية فيه: الدكتور مصطفى محمود ‏سليمان ص 503، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 2008م.‏ ‏[2] الشرق الأدنى القديم.. مصر والعراق: الدكتور عبد العزيز صالح، مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة ـ 1976 م.‏ ‏[3] تاريخ العلوم والتكنولوجيا: مرجع سابق ص 503-506‏ ‏[4] تاريخ العلم: جورج سارتون: ترجمة لفيف من العلماء بإشراف الدكتور إبراهيم بيومي مدكور ـ دار المعارف ـ مصر، ‏‏1976م.‏ ‏[5] حضارة الإسلام وأثرها في الترقي: جلال مظهر، مكتبة الخانجي ـ القاهرة، 1974م.‏
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 832 مشاهدة
نشرت فى 15 يوليو 2018 بواسطة Cellulose

تسجيل الدخول

ابحث

قسم السليلوز والورق والأخشاب

Cellulose
رسالتنا - ربط البحث العلمى بصناعات الورق والمشتقات السليلوزية والاخشاب عن طريق تبادل الزيارات مع المصانع العامله فى تلك المجالات ومتابعة مشاكل الصناعة والعمل على حلها - اجراء البحوث والدراسات العلمية والتطبيقية التى تهدف إلى رفع كفاءة الخامات المحلية وتعظيم الاستفادة منها . - تكوين الكوادر العلمية فى مجال صناعات »

عدد زيارات الموقع

16,824