رمضان شهر القرآن والخير والبركات.. وهو أيضًا شهر الجهاد والانتصارات؛ ففيه انتصر المسلمون في بدر أول معركة بين الحق والباطل، وفيه كان فتح مكة ومعارك عديدة وكثيرة خاضها المسلمون في شهر رمضان؛ فهو مفجر طاقات المقاومة الكامنة في نفوسنا، وعلى امتداد تاريخنا الإسلامي كان الصوم محركًا ودافعًا للمسلمين لكي تزداد مقاومتهم، وتتوهَّج روح الجهاد في قلوبهم، فثمة علاقة وطيدة بين صيام رمضان وبين الجهاد في سبيل الله، فالصيام جهاد النفس بمنعها عن مألوفها، والجهاد هو بذل النفس والنفيس لله تعالى، فمن صام صيامًا حقيقيًّا كما أراد الله تعالى روَّض نفسه ووقف ضد رغباتها وطبائعها فذلَّت له وانقادت له، فلولا جهادُ النفس ما استطاع المسلم مجاهدة العدو، لذا قال العلماء: إنَّ جهاد النفس مقدَّم على جهاد العدو، فإنه ما لم يجاهدْ نفسه أولًا لتفعل ما أُمرت به وتترك ما نُهيت عنه، لم يمكنه جهاد عدوه من الخارج، فكيف يمكن جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلِّط عليه؟ فالصيام من أهم وسائل مجاهدة النفس التي هي السبيل لمجاهدة العدو، فعندما يدعو داعي الجهاد: أن حي على الجهاد تطاوعه نفسه فلا تعصيه فيبذلها صبرًا وقتلًا في سبيل ربه سبحانه وتعالى.
ولكنَّ هناك مَن يجعل الجهاد والمقاومة في الدرجة الثانية ويجعله جهادًا أصغر، وفي هذا السياق يتناول الناس على نطاق واسع حديث (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر).. وهو من الأحاديث المدسوسة والتي تردَّدَت على لسان جهلة الصوفيَّة، فالجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام، كما في الحديث الصحيح: (ألا أدلكم على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) ومنزلة الشهيد هي أعظم المنازل وقد منحه الله من المنح والمنازل ما يفوق الحصر ومنها أنه يشفع في سبعين من أهل النار من بين أقاربه ومعارفه وأصدقائه.
والصوم كان وسيبقى محركًا للأمة الإسلاميَّة لكي تبقى مقاومةً مجاهدة لا تلين لها قناة ولا تستسلم أبدًا مهما بلغ ضعفها، وهذا ما يفسر لنا سر خوف الغرب من أمتنا رغم ما تعيشه من حالة ضعف وتفتت، فهم يعلمون أن قوة الأمَّة موجودة وهي كامنة ومستترة، لأن القرآن موجود، والإسلام لم يمت.
إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبيِّن لنا أن النصر على الأعداء يأتي مكافأةً للانتصار على أنفسنا، فالإنسان الذي ينتصر على نفسه عمليًّا خلال المعسكر الإيماني في رمضان، الذي يتدرب فيه على الطاعات والبعد عن المعاصي، ولا يكتمل صيامه إلا بنجاحه في كل ما يختبر فيه من ناحية الطاعة أو المعصية، مؤهل لأن ينتصر على عدوه في ميادين القتال.
فالصيام إذًا أشبه بإعلان التعبئة العامَّة القصوى في ميدان جهاد النفس، فكان مناسبًا أن يكلَّف المسلمون بالجهاد الآخر وهم في حالة تعبئة إيمانيَّة عامة بمثابة المقدمات للنصر في مشهد إيماني ينصرون فيه دين الله وينفذون تعاليمه، إذن فجواب الشرط وهو الانتصار حان وقته وأوانه.
وإذا كان الدفاع عن المال يعد من الجهاد فما بالنا بالدفاع عن الأرض والعرض؟ فهما من أعلى درجات الجهاد.
فالصوم يعلِّمنا الصبر، وممارسة الشدائد، ومجانبة الترف والرذيلة، ويعودنا على الحياة الخشنة، والظروف القاسية، وهي عناصر لا بدَّ منها لتكوين الشخصيَّة العسكريَّة، ولن تستطيع أرقى الكليات العسكرية في العالم أن تدعم هذه الأخلاق في نفس الجندي كما يدعمها الصوم الحقيقي.
الصوم باقٍ إلى يوم الدين كمرحلة إعدادية للجهاد، والجهاد كذلك باق إلى يوم الدين كمرحلة عمليَّة للصوم تستثمر فيها التدريبات السابقة وتبرز قدرات الصائمين.
وملمحٌ آخر في الصوم وهو أن روح العطاء والبذل موجودة في نفوس المسلمين بشكلٍ واضح، فالخير أنهار في هذه الأمَّة ولكنه يحتاج إلى مَن يفجِّرها.
فالمسلمون البسطاء حينما يثقون في آحادهم الذين يسعون لتخفيف معاناة فقراء الأمة فإنهم يعطونهم بكرم، ومن خلال عملي في هذا المجال فإنني أجد أقوامًا من المسلمين يعطون الكثير والكثير في هذا الشهر.
وأنا أفسِّر هذا البذل وهذا العطاء على أنه نجاح في محاربة النفس والانتصار عليها وعلى شحها وبخلها، فالمسلم في هذه الحالة تحلَّى بروح مقاومة نفسه وحبها للمال وحبها للدنيا، ونجح في الانتصار عليها لصالح الأمَّة كلها.
ولو شاعت هذه الروح في الأمة فهي بداية للقضاء على الفقر فيها، فالمسلمون أغنياء، ولكن تتفاوت بينهم الثروات بشكلٍ كبير، ولو نجحت مشروعات جمع الزكاة وعمل صناديق لها، ومشروعات تكافل كبرى، فسوف يكون لذلك تأثير هائل في تغيير حياة المسلمين.
ولرمضان في أيامنا هذه بعد مقاومة واضح، تترسَّخ فيه ثقافة المقاومة، ويتعمَّق فيه "فقه المقاومة" في الشخصيَّة الإسلاميَّة، فمن المتفق عليه أن أعداء الإسلام من اليهود والصليبيين بقيادة الأمريكان، يشنون الحرب الصهيونية الصليبيَّة على الإسلام نفسه، وعلى القرآن والسنة، وعلى كل مسلم ومسلمة، باسم الحرب على الإرهاب والتعصب والتطرف، وهم كاذبون في ادِّعاءاتهم، فالمستهدف بحربهم الشيطانية هو الإسلام بكل ما يمثله من حق.
وميدان مجال مقاومة الحملة الصهيونيَّة الصليبيَّة واسع عريض، وليس مقصورًا على حمل السلاح وإطلاق النار، فالمقاومة العسكرية هي أفضل أنواع الجهاد، لكنها ليست الأسلوب الوحيد، ولكن هناك ميادين أخرى للمقاومة وهي ميادين نشر ثقافة المقاومة، والتفقه بفقه المقاومة، ولتكن البداية من هذه الأيام الرمضانية المباركة.
فالصوم نفسه جهاد ومقاومة، والالتزام بالصلوات جهاد ومقاومة، والابتعاد عما حرم الله جهاد ومقاومة، وأداء ما أوجب الله جهاد ومقاومة، والالتزام الجاد الصادق بالإسلام جهاد ومقاومة، وتثبيت الأقدام على طريق الحق جهاد ومقاومة.
ولقد عرفت الأمة الإسلامية بأنها الأمة المجاهدة، فهي أمة تستفيد من مدرسة الصوم لمدرسة الجهاد، ويوم يضعف فيها وازع الصوم ستنحل فيها عزيمة الجهاد، وطالما هي صائمة فهي محاربة، ولهذا كانت معظم انتصارات المسلمين في رمضان، ولا عجب في ذلك، فالصوم تدريب على الجندية والجهاد وتطبيق لهما، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تحصل هذه الانتصارات في شهر الصيام.
ففي السنة الثانية من الهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى في رمضان، وفي أول رمضان يصومه المسلمون تم أعظم انتصار حاسم على الشرك في أول مواجهة بينه وبين الإسلام، كان هذا النصر منعطفًا في خط سير الدعوة انتقلت به من مرحلة إلى مرحلة، وبدأ الوجود الدولي للمسلمين يتحقق؛ لأنهم أصبحوا دولة تملك القوة العسكريَّة، وتنمى جيشها بالسلاح والتدريب المستمرّ.
وفي رمضان من السنة الخامسة للهجرة كان استعداد المسلمين لغزوة الخندق التي وقعت في شوال من السنة نفسها، وفي رمضان من هذا العام وجَّه الرسول السرايا لهدم الأصنام.
وفي رمضان من السنة الثامنة للهجرة تم الفتح الأعظم، فتح مكة، واستسلم سادتها بعد طول عداوة ودخلوا في دين الله أفواجًا.
وفي رمضان من السنة التاسعة حدثت بعض أعمال تبوك وعاد الرسول من هذه الغزوة في رمضان نفسه.
وفي رمضان من السنة العاشرة بعث الرسول علي بن أبى طالب على رأس سرية إلى اليمن وحمل معه كتابًا إليهم، وفي رمضان عام ثلاثة وخمسين من الهجرة فتح العرب رودس، وفي رمضان عام واحد وتسعين من الهجرة نزل المسلمون إلى الشاطئ الجنوبي للأندلس وظهرت بشائر النصر، وفي رمضان عام اثنين وتسعين من الهجرة انتصر القائد المسلم طارق بن زياد على الملك رودريك ودام بقاء المسلمين بالأندلس ثمانية قرون نشروا فيها علومهم وأبرزوا مواهبهم وصنعوا فيها حضارة للعالم كله.
وفي رمضان عام أربعة وثمانين وخمسمائة كان البطل المسلم صلاح الدين قد أحرز انتصارات كبيرة على الصليبيين، وفي رمضان عام ثمانية وخمسين وستمائة من الهجرة هزم المسلمون جنود التتار في عين جالوت، وفي رمضان عام 1383 هـ انتصر الجيش المصري على الجيش الإسرائيلي انتصارًا عظيمًا استرجع به أرضه ورفع به وزره واستردَّ كرامته.
ساحة النقاش