ذكريات دعوية لا أنساها.. أسير 11 كم من أجل قرشين يروي الشيخ يوسف القرضاوي قائلاً: ومن الوقائع التي لا تنسى في مجال الدعوة:

 

 

ذكريات دعوية لا أنساها.. أسير 11 كم من أجل قرشين يروي الشيخ يوسف القرضاوي قائلاً: ومن الوقائع التي لا تنسى في مجال الدعوة:

ما وقع لي في أحد (الرمضانات) وقد كنت في الإجازة الصيفية مقيما في القرية، وأرسل إليّ الإخوة في طنطا: أن الإخوان في كفر الشيخ يطلبونك لخطبة الجمعة في أحد البلاد هناك، وسينتظرك أحدهم في موقف الأوتوبيس القادم من المحلة إلى كفر الشيخ، ونهضت مبكرا لأسافر إلى المحلة، ثم أذهب إلى موقف الأوتوبيسات الذاهب إلى كفر الشيخ، لأستقل واحدا منها إلى تلك المدينة. وقد كان، ووصلت إلى الموقف، فوجدت أحد الإخوة، وركبنا أتوبيسا آخر إلى قرية بجوار (سخا) وكان الحر شديدا، وجسمي يتصبب عرقا، ولكنا في عصر الشباب لم نكن نبالي بهذه المتاعب الصغيرة، بل لا نكاد نحس بها كما يحس الآخرون.

وقد ألقيت الخطبة في القرية التي احتشدت لذلك، ثم كلمة قصيرة بعد الصلاة. ثم استأذنا في الانصراف، فلا مجال لضيافة، فنحن في رمضان، وقد طلب إليّ أهل القرية أن أبقى عندهم إلى الإفطار، فاعتذرت. وقد نسيت اسم هذه القرية، وهي تابعة لمركز كفر الشيخ.

وبعد ذلك قال لي الأخ المرافق: يمكنك أن تعود إلى كفر الشيخ، وتركب أوتوبيسا من هناك، إلى المحلة كما جئت، ويمكنك أن تمتطي قطار الدلتا من هنا، من سخا إلى المحلة مباشرة، قلت له: كم ثمن التذكرة من هنا إلى المحلة؟ فقال: نسأل عنها، ثم سأل، وقال لي: ثمنها ستة قروش. قلت: الحمد لله. ذلك أن كل ما كان معي من نقود هو ستة قروش ونصف.

فقلت: أسافر إلى المحلة، ويقضي الله ما يشاء، فقد خرجت من البيت بكل ما أملك من النقود في ذلك الوقت. وكان المفروض أن يرسل لي الإخوة من طنطا نفقات هذه الرحلة، فأنا طالب ولست موظفا، ويبدو أنهم اتكلوا على الإخوة في كفر الشيخ، والإخوة هناك اتكلوا عليهم، وضعت أنا في الوسط. فالأخ الذي رافقني من كفر الشيخ خالي الذهن تماما عن هذا الموضوع. وركبت قطار الدلتا من محطة (سخا) وهو قطار صغير بطيء، كان الناس يتندرون به، ويقولون: تستطيع أن تشير إليه فيقف لك!

وقد وصل القطار المتهادي إلى مدينة المحلة، قبيل الغروب بقليل، وكنت معتمدا ـ بعد الله تعالى ـ على قريب لي يسكن في المحلة لأفطر عنده، وآخذ منه أجرة سفري إلى صفط قريتي. وقد صحبني إلى بيته مرة واحدة، قبل ذلك، وعلامة البيت أنه قريب من مسجد التوبة.

وذهبت إلى هذا الحي، وعند مسجد التوبة، وذرعت المنطقة يمينا وشمالا، لأهتدي إلى البيت، أو أستدل عليه، فلم أوفق. وأذن المغرب، فلم أجد بدا من أن أذهب إلى المسجد لأصلي فيها المغرب، وأفطر على الماء.

ثم ذهبت بعد ذلك إلى دار الإخوان بالمحلة، وبعد قليل حضر عدد منهم، فرحبوا بي وطلبوا لي (الكازوزة) لأشرب، وعلام أشرب وبطني فارغ، ومعدتي خاوية؟ كدت أقول لهم: إنني لم أفطر بعد، ولكن منعني الحياء، وهو خلق فطري عندي. وقد وصف الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها. فهذا الخلق المحمدي هو الذي حال بيني وبين مصارحة الإخوة بأني خالي البطن بعد يوم حافل بوعثاء السفر، وشدة الحر، ومتاعب الطريق، وهو الذي منعني أن أطلب من مرافقي في كفر الشيخ أن يقطع لي هو تذكرة السفر من سخا إلى المحلة كما تقتضيه الأصول، حتى لا أظهر بمظهر من يتكسب بالدعوة. وحاولت أن أغالب حيائي وأطلب من الإخوة في شعبة المحلة أجرة السفر إلى صفط ـ وهي قرشان ـ فلم أستطع، وكان حيائي أقوى من حاجتي. ولم تكن صلتي بأحدهم وثيقة.

وودعت الإخوان، وخرجت إلى الطريق، عازما على أن أقطع مسافة أحد عشر كيلومترا ماشيا، إن لم أجد من يركبني معه احتسابا. وفي منطقة تسمى (الشون) في أطراف المحلة، حاولت أن أجد من أصحاب السيارات من يركبني معه، وبخاصة أن لدي اجتماعا مهما في القرية بعد انتهاء صلاة التراويح. ولكن عرضت على سيارتين من سيارات النقل، فلم يستجيبا، ولاحظ أحد الرجال ذلك، وأنا ألبس الجبة والعمامة، فسألني: مالك لم تركب؟ قلت: بصراحة، ليس معي أجرة الركوب، قال: وما هي؟ قلت: قرشان. فقال: هاهما. فقلت له: جزاك الله خيرا، فقد نفّست كربتي.

وعدت إلى القرية، وأنا شديد الجوع، فكان أول ما فعلته أن آكل. ولكني كنت قوي العزم لحضور الاجتماع، فلم يؤثر في تعب النهار، ليحجزني عن عمل الليل. وكان الاجتماع مهما، وذلك للتشاور في تأسيس شعبة للإخوان في صفط تراب، وكان المفروض أن يكون ميلاد هذه الشعبة في تلك الليلة من شهر رمضان المبارك، ولكنها تأخرت لبعض الظروف، وقامت الشعبة بعد ذلك على كواهل عدد من شباب البلدة المخلصين، على رأسهم الشيخ عبد الستار نوير، ومعه الإخوة إبراهيم حبيب وغازي الزغلول، وأبو اليزيد عسقول، ومحمد الزكي، وبهجت الشناوي، وحمزة العزوني، وآخرون لا أذكر أسماءهم الآن.

وقد حوكم بعضهم بعد ذلك في عهد الثورة وحكم عليهم بالسجن سنوات متفاوتة، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين. وكانوا رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 70 مشاهدة
نشرت فى 9 أغسطس 2011 بواسطة BADRFOUDA

ساحة النقاش

ابو استشهاد

BADRFOUDA
ندعوا الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والى تكوين الفرد المسلم والاسرة المسلمة والمجتمع المسلم والى الحكومة المسلمة والى الدولة المسلمة والخلافة الاسلامية والى استاذية العالم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

121,155