حين يقبض الجيش كمؤسسة على أمور الدولة بسبب (أو فى أعقاب) ثورة شعبية أو تمرد يهدد سلامة الدولة فنحن أمام احتمالات أربعة. الاحتمال الأول أن يقرر الجيش أن يحكم بنفسه (ومصر بعد 1952 مثال على ذلك). الاحتمال الثانى أن تكون قيادات المؤسسة العسكرية موالية للنظام السابق وتسعى للزود عنه من خلال استخدام القمع المباشر (مثلما فعل الجيش الصينى مع الثوار فى عام 1989، وما يحدث الآن فى دول عربية مجاورة).
الاحتمال الثالث هو أن يكون الجيش راغبا فى وضع القواعد السيادية للدولة (مثل تحديد شروط السلم والحرب، والقيم العليا للدول مثل مدنيتها) ولكنه لا يرغب فى إدارة الشئون السياسية اليومية، أو ما شاع فى الأدبيات بمنطق أن الجيش «يُقعد القواعد» (Rule) والسلطة المدنية «تدير السياسة» (Govern). وفى هذه الحالة تقوم القوات المسلحة بمهام إدارة شئون البلاد لحين تتمكن السلطة الحاكمة سابقا من إعادة تنظيم صفوفها بعد أن تكون تخلصت من بعض الأسماء القديمة التى ارتبطت على نحو مباشر فى الفساد، أو باستنساخ قوى أخرى تترجم قرارات القوات المسلحة السيادية إلى إجراءات سياسية وحزبية. وكان هذا هو دور الجيش فى رومانيا بعد مقتل تشاوشسكو حيث تحولت رومانيا من بعده إلى نمط من الديكتاتورية الأقل تسلطية تحت حكم أيين اليشكو. أى أننا أصبحنا أمام نظام غير ديمقراطى فى جوهره، ولكنه يشهد مساحة كبيرة من حرية الرأى والتعبير التى لا تنال من جوهر تسلطية النظام. وهذا فيه مزية من وجهة نظر الجيش وهو أن يظل الجيش قابضا على قواعد العمل العام، ولكن من خلف الكواليس.
والاحتمال الرابع أن يتراجع الجيش تماما عن الحياة السياسية ويترك الأمر برمته للمدنيين، كما هو الحال فى الدول الديمقراطية. ويبدو أن هذا هو السيناريو المعلن من قبل قيادات القوات المسلحة المصرية. ولكن حتى فى هذا الإطار فإن دول العالم المختلفة سعت إلى التفكير فى العلاقات المدنية ـ العسكرية بمنطق احترام المؤسسة العسكرية وتطمين قياداتها على أن صفحات الماضى قد طويت وأن المستقبل لابد أن يقوم على شراكة مهنية، لا تتدخل فيه السلطة العسكرية فى الشئون السياسية. وهناك صيغ متعددة مثل وجود نص دستورى يحمى من حمى الثورة (نموذجى شيلى وبوليفيا) أو وجود مجلس أمن قومى يشارك فيه رئيس الدولة والحكومة ووزير الداخلية والخارجية وقيادات القوات المسلحة، لإدارة الشئون السياسية والعسكرية. كما يمكن أن يقرر دور خاص للقوات المسلحة فى حماية مبادئ الدولة الأساسية (الديمقراطية، المدنية، حقوق الإنسان الأساسية) عبر استدعاء من المحكمة الدستورية العليا بناء على طلب من أغلب أعضاء البرلمان أو رئيس الجمهورية.
ولكن هذه الترتيبات المؤسسية لا بد أن تسبقها «توافقات سياسية» قائمة على «التعدد فى إطار الوحدة» و«الوحدة فى إطار التعدد». وكى نساعد أنفسنا على التحول الديمقراطى الحقيقى فنحن بحاجة لتعدد فى الأحزاب، وتوحد فى القيادة.
أما تعدد الأحزاب والائتلافات وتنوع التوجهات، فهذا أمر غير مقلق فى ذاته لأن الشباب الثائر والقيادات الحزبية والسياسية هم فى الأصل يأتون من خلفيات متنوعة اتفقت على أهداف محددة دون أن ينفى ذلك عنهم اختلافهم فى الأصل. اختلافاتهم البينية اختفت لصالح التناقض الأكبر مع النظام، وكان متوقعا أن تعود هذه الاختلافات البينية إن عاجلا أو آجالا.
لكن المهم ألا ينال تعدد وتنوع الثائرين من وحدة أجندتهم واتفاقهم على ما لا يقبلون.
بمعنى أن الحد الأدنى من المطالب لا بد أن يكون واضحا ومتفقا عليه، ثم يفاوض من يفاوض، ويأتلف من يأتلف، ويتحزب من يتحزب طالما أن الجميع متفق على ماهية الأسئلة الكبرى الموجودة على الأجندة، وما هى الإجابات الخطأ التى لا يريدونها (لأنه من الممكن وجود أكثر من إجابة صحيحة ومقبولة من أغلبية الثائرين).
أزعم أن أى إجابة تؤدى إلى سيطرة الحزب الوطنى هى إجابة خطأ. وأى تسامح مع فاسد هى إجابة خطأ، أو أى عفو عمن تلوثت أيديهم بدماء الشهداء والمصابين هو إجابة خطأ. وأى تغاض عن «التعبيريين» من الإعلاميين بلا محاسبة مهنية وسياسية (وربما قضائية لهم) هى إجابة خطأ. وأى تعديل للدستور لا يوفر انتخابات حرة نزيهة هى إجابة خطأ. وأى حجر على حق المصريين فى الترشح للمناصب العامة (محلية، تشريعية، رئاسية) بقيود وضمانات معقولة هى إجابة خطأ. وأى اعتقالات أخرى أو عدم إفراج عن المعتقلين إجابة خاطئة. وهكذا. إذن الاتفاق على الخطوط الحمراء سيسمح بهامش معقول من المناورة والتعدد. وهذا هو المقصود بالتعدد فى إطار الوحدة.
أما الوحدة فى إطار التعدد، أى وحدة القيادة، فتعنى أن ننطلق من الاتفاق على الحدود الدنيا إلى وجود قيادة مدنية تتحدث باسم المصريين جميعا فى هذه المرحلة الانتقالية حتى نصل إلى تثبيت قواعد العمل السياسى التى ستفضى بنا إلى انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة.
مصر الآن بحاجة لتحالف، يبدأ بعيدا عن الأضواء أولا لكسر الجليد الشخصى ولتقريب المسافة النفسية، من الأسماء المقبولة شعبيا للتأكيد على مدنية الدولة وديمقراطية مؤسساتها وقطع الطريق على الأسماء القديمة من احتلال الساحة مرة أخرى. هذا التحالف عليه أن يقوم بوظيفة رباعية:
وظيفة سياسية تسعى فى النهاية لضمان عدم انحراف الثورة عن أهدافها ولضمان مرور هذه الفترة الحرجة بلا انفجارات تردنا إلى الوراء. وفى القلب من الوظيفة السياسية هو تحديد الإطار العام الضابط لمستقبل البلاد، حتى تكون لجنة كتابة الدستور أقرب إلى لجنة تصوغ ما تراضى عليه المصريون.
وظيفة تثقيفية بمعنى تقوية مناعة الإنسان المصرى ضد القابلية للاستبداد والفساد و«الاستحمار» وفقا لمصطلح المفكر الإيرانى على شريعتى، وهذا ما يعنى أن تتم ترجمة هذه الوظيفة فى شكل قيادة تلتزم بقيم النهضة والديمقراطية والمؤسسية واحترام القانون.
وظيفة تأسيسية تعيد بناء قواعد العمل العام على قيم العدل والعلم والمواطنة. ولابد أن يكون واضحا لبعض المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية بأن جوهر هذه الشريعة هو العدل. وهو المعنى الذى أكده ابن القيم عندما أراد أن يعرف الشرع، فبدأ بالعدل وانتهى بالشرع قائلا: «إن العدل هو الأساس الذى قام عليه ملكوت السموات والأرض فأينما ظهر العدل وأسفر عن وجهه فثم شرع الله ودينه وإن لم ينزل به وحى أو ينطق به رسول». إذن إقامة العدل ستخدم عدة قضايا متشابكة منها إعادة الاعتبار للشرع لاسيما تفسيراته المستنيرة، ومنها تطبيق قواعد الحكم الرشيد التى استقرت عليها دراسات الإدارة والسياسة والقانون. أما العلم فهو الساحة التى تراجعت مصر فيها كثيرا، ولا عجب أن نهضة جميع مجتمعات العالم المعاصر ارتبطت صراحة ومباشرة بقدرتها على الأخذ بأسباب العلم والنهوض بأحوال العلماء. والمواطنة هى المساواة أمام القانون رغما عن الاختلاف فى النوع والديانة.
وظيفة نهضوية تقتضى من القيادة الجديدة أن تستفيد من خيرة علماء مصر فى الداخل والخارج، بأن تؤكد على أنها جاءت لتعيد مصر لأبنائها وتعيد أبناءها لها، وهو ما يقتضى رسم السياسات التى تعظم من المزية النسبية للمصريين فى الداخل والخارج. وقد كتبت فى هذا المكان من قبل مقالا بعنوان: «كيف نجح الناجحون اقتصاديا» مستقرئا فيه الجوانب الإجرائية فى عملية التنمية الاقتصادية وفقا لعدد من الدراسات الأكاديمية.
تفاءلوا، فوطنيو مصر كثيرون وفاعلون ويتحركون.
ساحة النقاش