حتى الآن أنجز أمر واحد، وإن لم يكتمل بعد، وهو هدم حاسم لمتعفن نظام مستبد، وإسقاط لا عودة عنه لمرحلة انحدار طالت، وتشييع حازم لحالة نضحت بالمهانة، لتغدو مصر من بعد وجهاً لوجه مع سؤال مصيري لا يؤجل مثله يقول، وماذا بعد؟ وأي بديل ننشد؟
هنا تتقافز الأولويات وتتزاحم في تراتبيتها، بيد إنها تظل العناوين الواضحة لدى العرب المصريين التي لا خلاف عليها وإنما من الطبيعي أن تتعدد الاجتهادات حول كيفية الوصول إليها... تثبيت الأسس التي ستبنى الديموقراطية عليها، وترسيخ مكتسب مبدأ حقوق الإنسان المصري، واستعادة قرار مصر المستلب وكرامة المصريين المهدورة، العدالة الاجتماعية، التنمية البشرية، البناء الاقتصادي، والثقافي. ثم يأتي الإعلام، وإعلاء روح الحوار، اجتثاث الفساد المعتق الضارب جذوره في شرايين الدولة، استتباب أمن الناس، إعادة بناء الشرطة... إلخ، من هذه الأمور غير القليلة عدداً وأهميةً... تلك التي تتزاحم كل واحدة منها مع الأخرى لتتصدر القائمة الطويلة والملحّة، ولكن واسطة عقدها تظل استعادة الدور القومي والإقليمي والأممي، الذي فُرّط به في العقود الأربعة البائدة فتم من ثم التفريط بمعنى ومضمون وتأثير مصر التاريخي. إنها عناوين يمكن اختصارها في مفهوم واحد هو ما يعنيه مضمون كلمتي: مستقبل مصر.
إذن، حتى الآن، يمكن أن نسجل، وبالأحرف الأولى، إن الثورة قد انتصرت، وإن مسيرة التغيير قد بدأت، وإن تداعيات التحول قد غدت تترى. وبالمقابل، علينا القول بأن التحديات قد بدأت، حيث يصبح القلق على المآلات مشروعاً، وحيث ضرورة اليقظة الثورية مسألة حياة أو موت. إذ من الطبيعي توقع ولوج حالة جارفة كهذه غابة العوائق ومتاهة الصعوبات، لأن الوعاء المصري المضغوط قد انفتح على آخره، وعليه، لا بد، والحالة هذه، من مواجهة ظواهر ما بعد انهيار البائد بأمواجها المتلاطمة... فلول النظام ومنتفعيه، رواسب الاستبداد، ومنها المناخات الطائفية الموروثة عنه، قوى الجهالة المنفلتة من عقال الوعي، بؤر التبعية، جراد الانتهازية المغير لألوانه مع كل هبة ريح، غياب الدولة، أو الفراغ الأمني شبه المبرمج...
هذا داخلياً، وخارجياً، فليس هناك من مجادل حول جدية وافر المخاطر التي سوف تنجم لا محالة عن عامل خارجي له امتداداته. فاجأت مصر المتحولة أصحابه. فوجئوا فارتبكوا، وتفكروا فتحولت المفاجأة إلى قلق حقيقي لهم، يترجم تحسّباً للآتي المصري غير المرغوب لديهم، والذي بدأت تلوح إرهاصاته... كان فقدان النصير أو التابع، أو "الكنز الاستراتيجي" وفق التوصيف الإسرائيلي، يعد خسارة لا تحتمل إسرائيلياً وأميركياً وأيضاً أوروبياً. وبوادر تحولات السياسية الخارجية المصرية المختلفة والمعقدة، والتي تستوجبها حتمية استعادة القرار ومن ثم المكانة القومية والدور العربي والإقليمي والأممي، بدأت تطل برأسها، ولم يعد الغرب بقادر على هضمها، أو ما يمكنه التغافل عنها... حتى الآن طفت على سطح الآني شذارات قليلة تنبئ بهذا الآتي وتؤشر عليه...
القول بوجوب إعادة النظر في اتفاقية الغاز، التوجه نحو إقرار فتح معبر رفح، أو التخلص من عار إقفاله الذي ألحقه بمصر العرب نظامها البائد المتعاون مع أعدائها، إعادة العلاقة المنطقية والمفترضة مع إيران باعتبارها جاراً للعرب يمكن حل ما يختلف عليه معه، لا عدواً زائفاً نستبدل به عدونا الحقيقي الصهيوني، والتلميح لمستوجب إعادة النظر في بعض بنود اتفاقية "كامب ديفيد". أو مس هذا المقدّس الأميركي الصهيوني، والغربي إجمالاً، الذي تكفر به جموع الشعب العربي المصري، والذي فرضت أوثانه على مصر، وتسبب في مذبحة الإرادة العربية، تلك التي استمرت لعقود سبقت الانتفاضة البوعزيزية، وملحمة ميدان التحرير.
لهذا لوح صهاينة الكونجرس بقطع المعونة "الكامب ديفيدية" لمواجهة بشائر الوعد المصري الذي يلوح... واشتدت مظاهر أشكال الثورة المضادة المتنوّعة بوجهيها الداخلي والخارجي المتعاضدين... وبدأت الألغام الطائفية تنفجر هنا وهناك، وتتضافر وتتقاطع وتتوازى ظواهر ما بعد انهيار النظام، فلولاً ومنتفعين وقوى جهالة وطوابير تبعية وجرذان انتهازية، وسائر ما قد يستدعي عودة مصر إلى ميدان التحرير... في مصر العرب ثورة لم تكتمل، فبعد أن غدت مصر ما بعد 25 يناير ليست مصر ما قبله ولن تكون، ليس من قوة بقادرة على إيقاف عملية استكمالها... ليست من قدرة لقادر على الأرض على وقف ما خرج من القمقم المصري المضغوط، ولا من قدرة على إعاقة تحوّلٍ تاريخيٍ عربي بدأ، أو ما يوقف زخم تغيير حقيقي انطلق... المهمة ليست هيّنة... مصر بدأت تستعيد مصر، وباستعادتها لنفسها تستعيد، بل هي استعادت من الآن، أمتها، وبمصر فحسب يمكن أن تستعيد الأمة عروبتها.
ساحة النقاش