صحيفة القبس الكويتية
الدّفان -بتشديد حرف الدال- كلمة دارجة في أدبيات اهل البحرين، وتعني ردم مياه البحر ودفنها لتسويتها باليابسة، وقد شاع صيتها واستعمالها منذ نحو عشر سنوات تقريبا، حين بدت تلك الأعمال على نطاق ضيق، اليوم يتحدثون عن حالة مختلفة تماما، «فالدفان» أحدث تغييرا دراماتيكيا في المساحة والبيئة البحرية.
اللجنة البرلمانية التي شكلت لهذا الغرض ذكرت أن مساحة البحرين زادت بنسبة 76.3 في المائة خلال سبعة عقود، إذ كانت مساحة اليابسة عام 1931 نحو 410 كلم2 وصلت في عام 2000 إلى 717 كلم2، اي ان هناك 310 كلم2 اضيفت إلى أرخبيل الجزر المكون من 33 جزيرة.
وبلغة الأرقام ايضا يتحدثون أن الدفان في محافظة المحرق سيصل إلى %55 من مساحتها الحالية والمتوقع أن تبلغ مساحتها الاجمالية 11466 هكتاراً، مقارنة بـ5121 هكتاراً، وهذا ينسحب على المحافظة الشمالية تحديدا، والوسطى بشكل أقل. ووفق البيانات المنشورة، فإن التراخيص التي منحت منذ عام 2002 كانت لأفراد ومؤسسات خاصة، وان هناك 23 كيلو مترا مربعا من المياه دفنت، بينما تذكر جهات أخرى 34 كيلو مترا مربعاً.
وإذا ما توسعنا قليلاً بتقديم صورة أدق عن الظاهرة، يشار إلى ان مساحة دفان منطقة الجفير أصبحت بواقع 30 ضعفاً عن المساحة الأصلية للقرية القديمة، إذ ان المساحة الكلية لمدينة الجفير أصبحت 30 مليون قدم مربعة بعد ان كانت عشرة ملايين قدم مربعة!
عمليات تجريف السواحل وشفط الرمال أدت إلى انقراض ما يقدر بأكثر من 400 نوع من الأحياء البحرية وانخفاض كمية الأسماك المعطاءة من 14 ألف طن إلى 8 آلاف طن وحرمت مئات الصيادين من مصادر رزقهم إضافة إلى المخاطر البيئية الناجمة عن ذلك والاختلال بالتوازن البيئي الذي ترك أثره السلبي والمباشر على الثروة السمكية.
مشاريع الدفان ألقت بثقلها على الشارع البحريني الذي انعكس بدوره على العلاقة القائمة ما بين مجلس النواب والحكومة التي تلقت العديد من الأسئلة والمواجهات الساخنة إلى ان وصلت إلى طريق مسدود... فالتقارير النيابية وتوصياتها مازالت في إطار الحملات المتبادلة بين النواب والكتل السياسية من جهة وبين عدد من الوزراء ذات الصلة.
الموضوع كشف عن أبعاد اقتصاديه وسياسيه من الصعب الحديث عنها وبمسمياتها لأنها قد تطال متنفذين كبارا يجري التكتم حولهم والمواقع التي يشغلونها.
الوجه الآخر لعمليات «الدفان» انها ساهمت باحتقان الشارع واشاعت اجواء من الاشمئزاز لدى المواطنين وذوي الدخل المحدود الذين يواجهون مصاعب ومعاناة كبيرة بالحصول على مسكن وبمواصفات متواضعة وصلت الطلبات الى اكثر من 40 الف طلب.. المشكلة ان هذه الظاهرة دخلت مرحلة التسييس وتصفية الحسابات وهو ما يبعدها عن المعالجة الواقعية دون تعرضها للتجاذبات السياسية التي باتت الملح اليومي للشارع البحريني..
الخبراء المختصون يرجعون اسباب الظاهرة الى التزايد السكاني في دولة ارتفع فيها معدل الزيادة بنسبة 6 في المائة خلال السنوات العشر الاخيرة اذا ما اضيفت اليهم اعداد المجنسين، فبعدما كان عدد سكان الجزر 300 ألف نسمة اقترب الآن الى المليون وهؤلاء يحتاجون الى مدن اسكانية في بلد يعاني محدودية الاراضي.
مشكلة الإسكان
الواقع أن التذرع بضيق مساحة اليابسة والتوجه نحو ردم مياه البحر بغرض انشاء مدن جديدة لم يحل مشكلة الاسكان العام لذوي الدخل المحدود ولا المتوسط، بل كانت الاستفادة تتم لجهات خاصة، اي افراد محددين ومؤسسات استثمارية، والتقارير تتحدث عن ان هناك تسعين في المائة من المشاريع تذهب لمشاريع خاصة لا يستفيد منها المواطن وبعض تلك المشروعات تم انشاؤها ولا تزال متواصلة، تزحف نحو البحر «بشكل رهيب حتى يتحول البحر في نهاية الامر الى عمارات شاهقة ومدن استثمارية». كما جاء في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية التي كلفت بعمل دراسة عن التجاوزات التي حصلت.
الاستيلاء على السواحل باعتبارها من املاك الدولة والمياه الاقليمية التابعة للسيادة البحرينية شابها الكثير من المخالفات، فالمساحات الجديدة منحت لأفراد بغرض بناء مشاريع خاصة من دون ان تستفيد منها خزينة الدولة بفلس واحد. فنائب رئيس لجنة التحقيق السيد جميل كاظم يشير الى ان موازنة الدولة لم يدخل فيها اي مبلغ من مبالغ بيع الرمال البحرية وان 1816 مليون دينار، قيمة تجريف الرمال في مشروعين استثماريين فقط، لم يصل منها دينار واحد الى جيب الدولة، حيث وصلت مجموع مبالغ التجريف الى المليارات.
المساءلة والأخطاء
الاشكالية التي وقعت فيها الحكومة انها تركت الظاهرة تستفحل من دون ان تضع لها ضوابط وحدودا وتوكل أمرها الى مرجعية واحدة، ولهذا كانت هناك اصوات تطالب بتحديد جهة دون غيرها كي يصار الى مساءلتها عن الاخطار التي ترتكب وعن المدى الذي ستصل اليه، وعن الاسباب التي امتنعت فيها من تحصيل رسوم مقابل تلك الاراضي كما كانت تفعل في السابق عندما تمنح المواطنين أراضي مدفونة وتتقاضى في المقابل رسوم تدخل في الموازنة العامة للدولة.
واقع الامر ان ردم البحر ليس شأنا بحرينيا خالصا، وان ظهر في هذه الدولة بصورة صارخة، فهناك حالات مماثلة في امارة دبي عندما بنت مجموعة مدن في مياه البحر على شكل نخيل وطرحتها للتملك والبيع في اطار تشجيع الاستثمارات الاجنبية ودخولها الامارة، لكن مشاريع المدن البحرية تم استثمارها من قبل شركات مملوكة للامارة، وبالتالي لم تلق معارضة تذكر بل كانت مدعاة للمباهاة والنجاحات التي حققتها الشركات الرائدة لها، وتبنتها مجموعة من رجال الاعمال اللبنانيين الذين راحوا يروجون للفكرة والحصول على رخصة اقامة «جزيرة ارزة لبنان» قبالة الشاطئ عبر ردم مساحة اكثر من مليون متر مربع للشاطئ الشمالي لمدينة بيروت، لكنه جوبه بمعارضة شديدة. وهو ما يعيد التذكير بمشاريع شركة سوليدير، وعمليات الردم التي اقدمت عليها في منطقة الزيتونة وتوابعها.
سياسة ردم البحار تواجه معضلة عويصة، تتمثل بكيفية التوفيق بين اقامة مشاريع تنعش الاقتصاد المحلي والبيئة البحرية، خاصة اذا ما ارتبطت تلك المشاريع بالبحرين التي نظر اليها اهلها على مر التاريخ بأنه لا يمكن ان تكون البحرين بحرينا الا بارتباطها بالماء.
ساحة النقاش