بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن
(353)-" إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً*"
(النساء:103)
بقلم
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب محمد النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في أوائل النصف الثاني من سورة 'النساء', وهي سورة مدنية, وآياتها مائة وست وسبعون(176) بعد البسملة, وهي رابع أطول سورة في القرآن الكريم بعد كل من سورة 'البقرة', و'الأعراف', و'آل عمران'.
وقد سميت سورة' النساء' بهذا الاسم لكثرة ما ورد فيها من الأحكام الشرعية الخاصة بالنساء. ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضايا التشريع لكل من المرأة, والأسرة, والبيت, والمجتمع, والدولة, كما نبهت إلي ضرورة حسن تربية الفردالمسلم, من أجل إقامة المجتمع المسلم, وتطهيره من رواسب الجاهلية القديمة والجديدة, ومن جميع المخالفات الشرعية التي حرمها الله (تعالي). وفي ثنايا ذلك تؤكد هذه السورة الكريمة علي وحدانية الخالق- سبحانه وتعالي-, وعلي وحدة رسالة السماء, وعلي الأخوة بين الأنبياء, وبين الناس جميعا الذين ينتهي نسبهم إلي أب واحد( هو آدم ـ عليه السلام) وإلي أم واحدة (هي حواء ـ عليها رضوان الله), وبذلك يرتبط كل الناس بوشيجة الرحم, وهي وشيجة مقدسة عند رب العالمين لايتجاوزها إلا كل معتد أثيم.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة 'النساء' وما جاء فيها من تشريعات, وعقائد, وإشارات كونية, ونركز هنا علي الإعجاز التشريعي في فرض عبادة الصلاة كما جاء في النص القرآني الكريم الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التشريعي في فريضة الصلاة
جاء ذكر(الصلاة) في القرآن الكريم بمختلف مشتقاتها في تسع وتسعين(99) آية منها سبعة وستون(67) بلفظ الصلاة. والصلاة هي عماد الدين لقول المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم' رأس الأمر الإسلام, وعموده الصلاة, وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. والصلاة هي أول ما أوجبه الله ـ تعالي ـ علي أمة محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ من العبادات, وتولي ـ جل جلاله ـ إيجابها بمخاطبة رسوله ليلة المعراج من غير واسطة, بينما حمل جبريل ـ عليه السلام ـ بقية أمور العبادة من الله ـ تعالي ـ إلي خاتم أنبيائه ورسله- صلي الله عليه وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين.
ولأهمية الصلاة قال عنها رسول الله-صلي الله عليه وسلم-: "أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة, فإن صلحت صلح سائر عمله, وإن فسدت فسد سائر عمله"
( رواه الطبراني).
وقال" لتنقضن عري الإسلام عروة عروة, فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها, فأولهن نقضا الحكم, وآخرهن الصلاة"
( رواه ابن حبان).
وقال_صلي الله عليه وسلم-: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة"
( رواه خمس من أئمة الحديث).
وقال "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر".
( مجمع عليه).
أولا معجزة مواقيت الصلاة:
وتحديد مواقيت الصلاة الإسلامية من الأمور المعجزة لارتباطها بمظاهر كونية ثابتة حددها رسول الله-صلي الله عليه وسلم- بقوله الشريف: "وقت الظهر إذا زالت الشمس, وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر, ووقت العصر ما لم تصفر الشمس, ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق, ووقت العشاء إلي نصف الليل الأوسط, ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر وما لم تطلع الشمس, فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة, فإنها تطلع بين قرني الشيطان"
( رواه مسلم).
وعن جابر بن عبد الله, أن النبي ـ صلي الله عليه وسلم- جاءه جبريل_ عليه السلام-فقال له: "قم فصله, فصلي الظهر حين زالت الشمس, ثم جاءه العصر فقال قم فصله, فصلي العصر حين صار ظل كل شئ مثليه, ثم جاءه المغرب فقال: قم فصله, فصلي المغرب حين وجبت الشمس (أي غربت وسقطت), ثم جاءه العشاء فقال: قم فصله, فصلي العشاء حين غاب الشفق, ثم جاءه الفجر حين برق( سطع) الفجر, ثم جاءه من الغد للظهر, فقال: قم فصله, فصلي الظهر حين صار ظل كل شيء مثله, ثم جاءه العصر فقال: قم فصله, فصلي العصر حين صار ظل كل شئ مثليه, ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه, ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل, أو قال: ثلث الليل, فصلي العشاء, ثم جاءه حين أسفر جدا فقال: قم فصله, فصلي الفجر, ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت"
( مجمع عليه).
ويفهم من هذين الحديثين الشريفين ما يلي:
(1) يدخل وقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس وتوارت بالحجاب, ويمتد إلي مغيب الشفق الأحمر( وهو آخر أطياف ضوء الشمس غيابا عن الأرض لأنه أطولها علي الإطلاق).
(2) يدخل وقت صلاة العشاء بمغيب الشفق الأحمر, ويمتد إلي منتصف الليل, وهذا هو وقت الاختيار, أما وقت الجواز ولاضطرار فهو ممتد إلي الفجر.
(3) يدخل وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر الصادق( ويحدده بدء ظهور الشفق الأحمر لأنه أطول أطياف ضوء الشمس وأول ما يصل الأرض من ضوئها), ويستمر إلي ما قبل طلوع الشمس.
(4) يدخل وقت صلاة الظهر من زوال الشمس عن وسط السماء, ويمتد إلي إن يصير ظل كل شئ مثله إلي مثليه.
(5) يدخل وقت صلاة العصر بصيرورة ظل الشئ مثليه إلي ما قبل غروب الشمس. وينتهي وقت الفضيلة لصلاة العصر باصفرار الشمس, ويكره بعد ذلك لغير عذر وإن كان جائزا وذلك لأن الأطياف متوسطة الطول من ضوء الشمس, وهي البرتقالي والأصفر تؤدي إلي اصفرار قرصها مما يؤذن ببدء نزوله إلي ما تحت الأفق.
من ذلك يتضح جانب من جوانب الإعجاز التشريعي في فريضة الصلاة التي أمر بها ربنا ـ تبارك وتعالي- خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ مباشرة في ليلة المعراج, والله ـ تعالي ـ يحب أن يعبد بما أمر. ثم إن أوقات الصلوات الخمس جاء بها الوحي الأمين بأمر من رب العالمين, وارتباطها بعلامات فلكية محددة يؤكد ربانية هذا الاختيار.
من أوجه الإعجاز في الصلاة
(1) أنها ربانية المصدر فقد أمر بها الله ـ تعالي ـ خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ مباشرة في ليلة المعراج.
(2) أنها محفوظة بهيأتها التي فرضها الله-تعالي- علي أمة سيدنا محمد_ صلي الله عليه وسلم-: عددا, ووقتا, وهيئة, وكيفية, ومقالا, وأفعالا بفرائضها وسننها وأذكارها, وشروطها علي مدي يزيد علي ألف وأربعمائة سنة دون أدني تغيير أو ابتداع, فالصلاة في الإسلام متواترة النقل عن رسول الله-صلي الله عليه وسلم- ثم عن صحابته الكرام, ثم عن التابعين وتابعي التابعين إلي اليوم وإلي أن يشاء الله وهي ثابتة لا تتغير.
(3) أنها ليس في أدائها واسطة بين العبد وربه, يقف فيها العبد خاشعا بين يدي الله الذي خلقه فسواه فعدله, والذي رعاه ورزقه, متجها بكل جوارحه إلي هذا الخالق العظيم يستمد من نوره الهداية, ومن رحمته الرعاية, ومن نعمه العميمة الفضل والرزق.
(4) أنها تعبير عن العبودية الحقة لله-تعالي- وهي أولي رسالات الإنسان في هذه الحياة التي لا يمكن للإنسان أن ينعم فيها أو أن يحقق الغاية من وجوده علي أرضها إلا إذا آمن بأنه عبد مخلوق لخالق عظيم, واحد أحد, فرد صمد, لا شريك له في ملكه, ولا منازع له في سلطانه, ولا شبيه له من خلقه, منزه في جلاله عن حدود كل من المكان والزمان, والمادة والطاقة..
(... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌوَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )
(الشوري:11).
(5) أنها صلة بين العبد وربه, وتأكيد للعبد المؤمن علي معية الله ـ تعالي ـ الذي لا سلطان لأحد غيره قي هذا الوجود كله. وإذا آمن العبد بهذه المعية استكمل مبررات التكريم الذي كرمه به الله ـ سبحانه وتعالي- فلا يحني رقبته لغير ربه لأته وحده هو واهب النعم ومجري الخيرات, ومحدد الآجال والأرزاق. وإذا تيقن العبد من ذلك فإنه لا يجبن, ولا يبخل, ولا يخشي إلا الله خالقه, وحينئذ يرقي في معراج الله إلي ما شاء الله.
(6) إنها تعين علي طهارة الأبدان وسلامتها, وعلي صفاء القلوب وصحتها, وعلي تماسك الأسرة وترابطها, وعلي تعارف أفراد المجتمع وتحابهم وتعاطفهم وتعاونهم علي الخير.
(7) أن صلاة المسلمين تجمع أركان الإسلام الخمس لأن فيها الشهادتان; وهي صلاة; وهي في نفس الوقت زكاة ينفق فيها المصلي جزءا من عمره; وكما أن زكاة المال طهارة له فإن الصلاة هي زكاة العمر وهي طهر له كذلك; وهي صوم لأن المصلي ممتنع عن الطعام والشراب والشهوات; وعن كل أمر دنيوي ويصوم عنه; والصلاة حج لأن المصلي يتجه فيها إلي بيت الله الحرام; قاصدا وجه ربه الكريم ملبيا أمره بإقامة الصلاة خالصة له_ سبحانه وتعالي-; وكل ذلك يجسد معني توحيد الله- تعالي- والعبودية الخالصة لجلاله وهي من أول رسالات الإنسان في هذه الحياة; ولذلك قال رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: "الصلوات الخمس, والجمعة إلي الجمعة, مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"
( أخرجه الإمام أحمد).
.( أنها من وسائل تنظيم أوقات المسلمين, وترتيب حياتهم من أوقات اليقظة والنشاط في الأعمال, إلي أوقات الراحة والاستجمام والنوم والاسسترخاء, إلي أوقات العبادة ومناجاة الله ـ تعالي ـ ولذلك روي عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـأي العمل أفضل ؟ قال: " الصلاة لوقتها"
( صحيح مسلم).
(9) إن صلاة المسلم هي من أعظم وسائل تربية النفس الإنسانية, لأنها تشعر الإنسان بحاجته إلي ربه وتؤكد له بأن الله- تعالي- مطلع علي أعماله وأقواله ومختلف تصرفاته, فيعترف بذنوبه لربه ويعلن له توبته منها وإقلاعه عنها, ويسأله المغفرة والعفو عما أسلف من أخطاء, ويرجو قبول ما قدم من حسنات, وليس أدعي لتربية النفس الإنسانية من هذا الموقف من العباد بين يدي خالقهم في فهم كامل لمدلول الألوهية يستوجب الخشوع والخضوع والتذلل من العبد لربه.
(10) إن الصلاة كما يؤديها المسلمون اليوم كانت مكتوبة علي الذين جاءوا من أنبياء الله ورسله قبل بعثة خاتمهم أجمعين سيدنا محمد- صلي الله عليه وسلم_ مما يؤكد وحدة رسالة السماء المنبثقة عن وحدانية الخالق_ سبحانه وتعالي-, فكما أن الله واحد فلا بد أن تكون هدايته للبشرية واحدة في العقيدة والعبادات, والأخلاق والمعاملات, وإن وجدت بعض التفاصيل في المعاملات مع الانتقال من زمن إلي آخر.
فالصلاة كما فرضها ربنا- تبارك وتعالي- علي خاتم أنبيائه ورسله- صلي الله عليه وسلم- فرضها بنفس هيئتها علي جميع الأنبياء والمرسلين من قبل, وفي ذلك يقول لعبده وكليمه موسي بن عمران ما نصه: ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى *إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِيوَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي*)
( طه:13 و14).
وفي ذلك يقول علي لسان إبراهيم- عليه السلام-: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْوَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ *)
(إبراهيم:37).
وجاء علي لسان عبد الله ونبيه المسيح عيسي ابن مريم- عليهما السلام- قوله: ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُوَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِوَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ*)
( مريم:31).
وقد ذكر ربنا-تبارك وتعالي-عددا كبيرا من أنبيائه, ثم أكد فريضة الصلاة عليهم قائلا: (وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِوَكَانَ رَسُولاً نَّبِياًّ * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِوَالزَّكَاةِوَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياًّ * وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَوَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍوَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَوَإِسْرَائِيلَوَمِمَّنْ هَدَيْنَاوَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداًوَبُكِياًّ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَوَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ *)
(مريم:54-59).
كذلك جاء الخبر عن رسول الله- صلي الله عليه وسلم- أن جميع الأنبياء قبله لم يزالوا يصلون الخمس التي صلاها جبريل_ عليه السلام ـ به كما جاء في الحديث الذي رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما- والذي جاء فيه أن جبريل ـ عليهالسلام- صلي برسول الله- صلي الله عليه وسلم ـ الصلوات الخمس كل صلاة في وقتين( أول الوقت وآخره), ثم قال له: " يا محمد الوقت فيما بين هذين الوقتين, وهذا وقت الأنبياء قبلك" ( أخرجه الترمذي).
(11) لذلك كله كانت الصلاة قرة عين النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ, وكانت آخر وصاياه لأمته حين حضرته الوفاة وهو يقول: "الصلاة الصلاة, اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم"
( السنن الكبري للنسائي).
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام, وصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا