يمكن
تحديد ضرورة الحياة الروحية للحياة الإنسانية من النواحي الآتية:
أوّلاً: إنها حاجة روحية كما أنّ الحياة المادية حاجة جسمية، وكما أنّ الجسم إذا حرم من حاجته فلابدّ من أنّه يصاب بأضرار أو أمراض. كذلك إذا حرمت الروح من حاجتها يصاب الإنسان بأمراض روحية وإن كان هناك فرق بين هذين النوعين من الأمراض وطريقة الإصابة بهما، إذ أن إصابة الإنسان بالأمراض الجسمية نتيجة الحرمان من الغذاء المادي يكون سريعاً، وتقدر درجة الإصابة بدرجة الحرمان ومدة هذا الحرمان.
أمّا بالنسبة للأمراض الروحية فإنّ الإنسان قد لا يشعر سريعاً بضرر الحرمان كما لا يصاب بهذه الأمراض بعد الحرمان مباشرة بل قد يظهر أثر ذلك بعد مدة طويلة وقد لا يشعر المريض أن سبب ذلك هو حرمانه من الحياة الروحية وهذا ما ظهر بصورة واضحة في المجتمعات التي توغلت في الحياة المادية ونسيت الحياة الروحية أو أهملتها تماماً.
وقد لاحظ ذلك كبار العلماء والمفكرين الإجتماعيين في تلك المجتمعات. فمثلاً يقول الدكتور ألكسيس كارل العالم الفرنسي في هذا الصدد: "ومن الغريب أنّ الإنسان الحديث قد استبعد من الحقيقة الواقعية كل عامل نفسي" روحي "وبنى لنفسه وسطاً مادياً بحتاً، غير أنّ هذا العالم لا يلائمه، بل نراه يصاب فيه بالإنهيار فقد اعتاد أسلافنا طوال آلاف من السنين أن يعدوا وجاد العناصر الروحية في وسطهم أمراً ضرورياً.. وكان الدين يسيطر على أحداث الحياة الهامة.
ويزود كل شخص بالشجاعة التي تمكنه من العيش، فيبدو جيِّداً أنّه يجب على البشرية المتحضرة لكي تتجنب ترديها النهائي في وهدة التنافر والفوضى أن تعود إلى بناء المعابد في ذلك العالم الفاخر الصارم الذي يعيش فيه علماء الطبيعة والفلك". ثمّ يبين كيف أصبح العالم المادي يضيق بالإنسان المادي كما تضيق ثياب الطفل الصغير بالإنسان الكبير إذا لبسها فيقول: "فالعالم الحديث يبدو لنا كالثوب المفرط في الضيق بمجرد أن يطبعه مذهب الحرية الفردية أو المذهب الماركسي بطابعه ومما لا يقبله العقل أن يصبح الواقع الخارجي أضيق من أن يشمل الإنسان في كليته وألا يكون تركيبه متفقاً مع تركيبنا مع بعض الوجوه فمن الحكمة إذن أن نجعل لعالم الروح نفس الموضوعية التي لعالم المادة".
ويقول سير رتشرد لفنجستون وكيل جامعة أكسفورد: "اننا نعيش جميعاً في عالمين: العالم المادي، والعالم الروحي... والأخير هو عالم القيم ولو أننا ضحينا به على مذبح العلوم أو الإقتصاديات أو الإجتماعيات أو أي شيء آخر لكان في ذلك هلاكنا، مثلنا في ذلك كمثل من يحذف الفيتامينات من طعامه ومع ذلك فإننا لا نولي هذه الحقيقة العناية الكافية". ولهذا يبين الله أن من أهمل الحياة الروحية أو أعرض عنها فإنّه يعش حينئذ حياة شقية فقال: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً) (طه/ 124). (.. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 277).
ثانياً: وقاية الإنسان من بعض الأمراض التي تؤدي إليها إهمال الحياة الروحية: ويمكن تقسيمها إلى قسمين الأوّل: الأمراض المباشرة مثل الشعور بالضيق والقلق والإضطراب والكآبة والشعور بالضعف أمام المسؤوليات والإنهيار أمام المشكلات وقد ينتهي ذلك بالإنتحار. وقد وجدنا كثيراً من المنتحرين انتحروا لأسباب ترجع إلى أحد هذه الأمور أو إليها كلها. والقسم الثاني: من الأمراض تلك التي تؤدي إلى إنعدام الحياة الروحية وهي بدورها قسمان: القسم الأوّل الأمراض الجسمية التي تتأثر بالحالات النفسية المرضية السابقة والثاني الرذائل الأخلاقية والجرائم التي يرتكبها الذين انعدمت عندهم الحياة الروحية ثمّ تؤدِّي هذه الأمراض الأخلاقية إلى الأمراض الجسمية.
فمثلاً تفشي فوضى الحياة الجنسية يؤدي إلى إنتشار الأمراض المعدية؛ لأن كل مرض معدي يمكن أن يتعدى عن طريق الزنا وخاصة الأمراض السرية مثل الزهري والسيلان والقرحة التي وصلت نسبة إنتشارها في بعض المجتمعات التي تفشت فيها الفاحشة إلى 70%. ويقول الدكتور توماس باران عن المرض الزهري: "انّه أفتك وأضر بمائة مرّة من مرض فالج الأطفال وأن خطره في أمريكا مثل خطر السرطان وإلتهاب الرئة حتى أن واحداً من كل أربعة أشخاص إنما يذهب ضحية الموت بسبب الزهري مباشرة أو غير مباشرة" ومعروف أن جراثيم هذا المرض أينما انتقلت من الأعضاء أتلفتها.
وكذلك إدمان المخدرات التي تؤدي إلى كثير من الأمراض لدى المدمنين وذرياتهم أيضاً. وهكذا نجد عند البحث أن كل رذيلة وخطيئة لابدّ من أن تؤدي إلى ضرر في حياة الفرد أو المجتمع.
يقول هنا الدكتور ألكسيس كارل العالم الفرنسي الذي نال جائزة نوبل الدولية: "ليست الخطيئة وهماً إلا إذا اعتبرنا السل أو السرطان أو الجنون أوهاماً هي الأخرى، والرذيلة هي إعتياد إرتكاب الخطيئة، فإنّ الإنسان لم يدرك بعد فداحة النتائج التي تترتب على الخطيئة فكل خطيئة تؤدي إلى إضطرابات عضوية أو عقلية أو إجتماعية وهي إضطرابات لا يمكن علاجها على وجه العموم، وإذا كانت النوبة لا تشفي تليف الأنسجة لدى السكير أو الأمراض العصبية لدى أولاده، فهي تعجز أيضاً عن إصلاح الإضطرابات الناجمة عن الحسد والإسراف الجنسي والغيبة والنميمة والبغضاء، كما أنها كذلك لا تبعد الشقاء عن الشواذ الذين يولدون لأبوين مصابين بالعيوب، فالخطيئة تؤدي إن عاجلاً أو آجلاً إلى التدهور والموت للجاني نفسه أو للوطن أو للنوع".
ويقول أيضاً: "فالواقع أن معظم الخطايا الإرادية وغير الإرادية التي يرتكبها الفرد لا تضر الفرد وحده بل تضر بجيرانه أيضاً.. لأن نتائج بعض الرذائل لا تبدو في معظم الأحيان إلا بعد سنين عديدة بل بعد أجيال عديدة في بعض الأحيان. فإننا مثلاً لم نعرف حتى الآن فداحة الدور الذي يقوم به السكر والأثرة والحسد في تقويض دعائم الأمم.. فعادة اغتياب الجار وبذر التفرقة بين المعارف وخيانة الأصدقاء وإستغلال الاجراء وسرقة العملاء لا تضر الجاني نفسه بقدر ما تنزل بالأُمّة إلى الحضيض. وهناك إلى جانب الخطايا القديمة كالكبرياء والحسد والإفراط ازدهرت خطايا جديدة حيث أتاح لنا تقدم المعرفة العلمية بالقوانين الطبيعية أن تعرف جيِّداً دلالة الأخطاء التي كانت تبدو لنا جداً تافهة فيما مضى".
وإذا كانت هذه الأمراض والشرور ناتجة عن إنتشار الرذائل الأخلاقية في المجتمع فإنّ الحياة الروحية خير وقاية للأفراد من السقوط في الرذيلة؛ لأنّ الحياة الروحية تكون مع الله مرتبطة به ومستعينة بنصرته، ومن كان شأن ذلك لا يمكن أن يقع في الرذيلة، ومن كان بعيداً عن تلك الرذائل والخطايا كان بعيداً عن أن يصاب بتلك الأمراض والشرور السابقة التي تؤدي إليها الوقوع في الرذيلة.
ولهذا قرر الإسلام الحياة الروحية لوقاية الإنسان من تلك الأمراض التي تترتب على تركها مثل الأمراض النفسية، وما ينتج عنها بعض الأمراض الجسمية. ومن العجيب أنّ الرسول قد أشار إلى مثل هذه الأمراض التي أثبتها العلماء أخيراً فقال مثلاً: "من ساء خلقه عذّب نفسه ومن كثر همه سقم بدنه". وكذلك نجد القرآن الكريم قد أشار إلى ذلك فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ...) (يونس/ 57). ويقول الفخر الرازي وتفسير هذه المدّية "إنّ محمداً (ص) كان الطبيب الحاذق وهذا القرآن عبارة عن مجموع أدويته التي بترتيبها تعالج القلوب المريضة".
ثالثاً: إنّ الحياة الروحية عنصر من العناصر الضرورية لتحقيق السعادة المنشودة ذلك انّه إذا كانت هذه الحياة حاجة إنسانية بحكم تركيبها الطبيعي كحاجتها إلى الحياة المادية فإنّه من المستحيل تحقيق سعادة للإنسان بحرمانه من حاجته الأساسية أو من بعض حاجاته الأساسية، هذا إلى أنّ الحياة الروحية تجعل الإنسان في عالم أوسع من عالم المادة، إذ تجعله يعيش في السماء كما يعيش في الأرض وكلما كانت آفاق الحياة أعم وأشمل كان ذلك أكثر إنتعاشاً وأكبر بهجة وأعمق شعوراً وأكثر تنوعاً بتنوع الحياة.
فمثلاً حياة الحيوان لون واحد من ألوان الحياة وهي الحياة المادية بمقدار حاجته المادية بينما نجد في حياة الإنسان الحياة المادية والعلمية والأدبية الجمالية والأخلاقية والروحية ولكل لون من هذه الألوان من الحياة له متعته ولذته الخاصة ثمّ إنّ الإنسان خلق لعالم أوسع من عالم المادة وليس كالحيوان الذي خلق للحياة المادية فحسب، ولهذا لما حصرت الحضارة المادية حياة الإنسان في المادة فقط، وبالرغم من تقدم هذه الحياة وهذه الحضارة لم تستطع أن تسعد الإنسان بل أشقته من جهة بقدر ما أسعدته من جهة أخرى، وقد يدرك هذا من يدرس حياة الإنسان في تلك المجتمعات من خلال تعبير كبار مفكري تلك الحضارة وعلمائها وحكمائها ونقدهم لها.
وقد ضربنا لذلك بعض الأمثلة، ومنها أيضاً ما قاله ألبرت أشفيتسر بعد تحديد الحضارة الحقيقية: "إنّ الحضارة هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على حد سواء". ثمّ ينتقد الحضارة الغربية المادية البحتة ويقول: "نحن نعيش اليوم في ظل انهيار الحضارة وهذا الوضع ليس نتيجة الحرب وإنّما الحرب مجرد مظهر من مظاهره، لقد تجمد الجو الروحي في وقائع فعلية ينعكس أثره عليها له نتائج مدمرة من كل ناحية... اننا نبحر بالسفينة في تيار مليء بالأمواج العاتية تحت شلال هائل ولابدّ من مجهودات جبارة لإنقاذ السفينة. سفينة مصيرنا من المجرى الجانبي الخطير الذي سمحنا لها بالإنطلاق فيه ومن إعادتها إلى المجرى الرئيسي إن كان ثمّة أمل في ذلك أبداً". ثمّ يقرر لذلك علاجاً حاسماً فيقول: "ولابدّ من إشاعة الروحية في الجماهير... إنّهم مفتقرون إلى الروحية لأنّهم ليس لديهم غير فكرة مضطربة عن الروحية". ثمّ يتساءل قائلاً: "هل سيكون ممكناً تحقيق هذا التطور؟" ويجيب على ذلك بقوله: "لابدّ من ذلك إذا كنا لا نريد أن يقضى علينا مادياً وروحياً، إن كل تقدم في الكشف والإختراع يتطور في النهاية إلى نتيجة قاضية إذا لم نضبطه بتقدم مماثل في روحانيتنا فبالقوة التي نسيطر بها على قوى الطبيعة، نهيمن بوصفنا كائنات بشرية على كائنات بشرية أخرى هيمنة ظالمة مشؤومة، فإن فرداً واحداً أو شركة لإمتلاكها لمائة آلة تسيطر على جميع الذين يديرون هذه الآلة.
ولعل إختراعاً جديداً يمكِّن رجلاً واحداً بحركة واحدة أن يقتل ليس فقط مائة بل عشرة آلاف من اخوانه بني الإنسان، وليس ثمّة نضال يمكن فيه تجنب تدمير بعضنا لبعض بقوة إقتصادية أو فيزيائية وفي أحسن الفروض ستكون النتيجة أن يستبدل كل من الظالم والمظلوم دوره بدور صاحبه. والأمر الوحيد الذي يمكن أن يساعدنا هو أن نتخلى عن السيطرة التي على الآخر، لكن هذا فعل من أفعال الروحية. لقد أسكرنا التقدم في الكشف والإختراع الذي غمر هذا العصر فنسينا أن نهتم بتقدم الإنسان في الشؤون اللامادية، وانزلقنا دون تفكير ولا وعي إلى تشاؤم الإنسان بكل أنواع التقدم دون الإيمان بالتقدم الروحي للفرد والإنسانية.
والحقائق تدعونا الآن إلى التفكير كما أن حركات السفينة الموشكة على الإنقلاب تدفع البحارة إلى الصعود إلى ظهرها وتوثيق الأوقال والأشرعة بالحبال... إنا جميعاً نريد هذا التقدم الروحي ونرجوه مرّة أخرى، ذلك هو قلب الدفة الذي يجب أن نفلح في تحقيقه، إذا كان يراد لسفينتنا في اللحظة الأخيرة أن تنتصب من جديد وتواجه الريح".
ويقول الفيلسوف الألماني ليبنتز عن دور الإيمان في طمأنينة النفس: "ولإزالة القلق النفسي والروحي أن يؤمن بالله عن طريق العقل وأن يملأ نفسه بسرور عقلي، لأنّ القلق ناتج عن الشك، والشك وسيلة لتفتيت القلب".
ولهذا كله فإننا نجد الإسلام قرر أنّ الحياة الروحية إشراق وهدى ووسيلة لفلاح الإنسان وسعادته في هذه الحياة فقال تعالى في محكم تنزيله: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة/ 1-5)، كما بين الله سبحانه أن من اتبع هداه في هذه الحياة فلا يضل ولا يشقى" فقال: (.. فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) (طه/ 123).
رابعاً: ضرورة الحياة الروحية كعامل من عوامل التسامي والتكامل والتقدم، ذلك أنّ الحياة الروحية تهدف أوّلاً إلى صعود الإنسان بروحه وإتصاله بالله لكن ذلك لا يمكن أن يتم إلاّ بتسامي الإنسان على الرذائل وتخليه عنها ثمّ تكامله بالفضائل للناس خالصاً لوجه الله، بقدر ما يقترب من الله ويزداد إرتباطه به، إذ أنّ الناس بقدر خيراتهم تكون لهم منزلة عند الله، وخيرية الإنسان تقاس بمدى زوال روح الشر من نفسه وعمله، وبمدى ما يقدم للناس من الأعمال والمشروعات الخيرة ولهذا قال الرسول: "خير الناس أنفعهم للناس" وذلك يكون بالتقدم الأخلاقي أساساً ولهذا قال الرسول: "انّ من أخير كم أحسنكم أخلاقاً". وهذا التقدم الأخلاقي أو التقدم في الخيرية الذي تعتبر الحياة الروحية أكبر عامل دافع إليه وهو أكبر وسيلة للتقدم الإجتماعي والحضاري؛ ذلك أنّ الذي يعوق التقدم الإجتماعي والحضاري هو إزدياد الجرائم المختلفة وإزدياد الناس شراً مما يؤدي إلى أن يفتك بعضهم ببعض وأن يمزق الإنسان أخاه الإنسان، وأن يعمل لسلب خيرات الناس وممتلكاتهم وهذا الإنحلال الأخلاقي من أكبر عوامل إعاقة نمو الحياة الإجتماعية وتقدمها.
وعلى العكس من ذلك فإذا تحول الناس إلى أخيار بدافع الحياة الروحية وعمل كل واحد لغيره كما يعمل لنفسه، بل إذا تسابقوا وتسارعوا في عمل الخيرات المختلفة للناس، وسارعوا في الوقت نفسه لإزالة الشرورة والرذائل والمنكرات من الحياة الإجتماعية، وتسابقوا في ذلك للإقتراب من الله كان أقربهم إليه أسبقهم في ذلك كما قال تعالى معبراً عن عمل الذين يحيون حياة روحية: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران/ 113-114). (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون/ 57-61).
وذلك لأن إجتناب جميع الرذائل والشرور والجرائم أوّلاً ثمّ المسارعة إلى عمل الخيرات والإستباق إليها من طبيعة الحياة الروحية، ثمّ أنّ الحياة الروحية الحقيقية على النحو الذي سبق لا تكون بمجرد الإنقطاع للعبادات كواجبات تقليدية ثمّ ترك المجتمع والإنعزال عنهم وقضاء الأوقات بالأوراد والذكر في زوايا الطرق الصوفية بل إنّ الحياة الروحية الحقيقية عامل محرك بذاته ودافع قوي إلى عمل تلك الخيرات. لأنّ التقرب إلى الله يكون من ناحيتين معاً: ناحية عبادة الله وناحية خدمة عباده بعمل الخيرات لهم.
وعلى ذلك فإذا بحث كل واحد بمقتضى هذه الحياة الروحية عن وسائل تقديم الخيرات والمشروعات المختلفة الخيرة في حق الناس، وسارعوا إلى ذلك واستبقوا فيها فما من شك انّ الحياة الإجتماعية والحياة الإقاصادية تتقدم بسرعة مذهلة لأن هذه الروح سوف تدفعهم إلى العمل في الميادين المختلفة ليتقدموا فيها، ليعملوا الخيرات الكثيرة، فإنّهم عندئذ سوف يهتمون بالتقدم العلمي مثلاً ليقدموا إلى الناس خدمات عن طريق العلم وإيجاد إختراعات علمية، وسوف يهتمون أيضاً بالزراعة لأن كل من يستفيد من زرع الإنسان يكون للزارع ثواب عند الله كما قال الرسول: "لا يغرس المسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة". والأمر كذلك فيما يتعلق بالتعليم وبناء المساجد وعمل المشروعات الأخرى لمساعدة الناس فقال الرسول: "إنّ مما يلحق المؤمن من عمله بعد موته علماً علمه ونشره أو بيتاً لإبن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها في صحته وحياته".
وهذا كله سيؤدي بلا شك إلى التقدم في تلك الميادين العلمية والزراعية والعمرانية، وذلك يعد من أكبر وسائل تقدم الحضارة. ومما لا شك فيه فإنّ الحضارة تصبح عندئذ حضارة روحية وأخلاقية وعلمية معاً.
ولهذا فقد اهتم الإسلام بالحياة الروحية. ومن مظاهر هذا الإهتمام أنّه أوجب على كل فرد واجبات من العبادات المختلفة من الصلاة والصوم والحج والذكر والشكر والفكر لله والتأمل في مخلوقاته وذلك لتقدير أفعال الله وصنائعه حق تقديره كما دعا إلى التطهر ظاهراً وباطناً من الأنجاس والرذائل المادية والمعنوية ومن جميع الشرور والجرائم ثمّ التحلي بجميع الفضائل حتى يصبح الإنسان طاهراً خيراً ليكون أهلاً لأن يدخل في عالم الأرواح الطاهرة الخيرة الذي تشتاق إليه روحه وتميل إليه بالطبيعة لأن أصلها من ذلك العالم لا من عالم الأرض، وكانت تلك الأنواع من العبادات أغذية متنوعة للروح بمثابة الأغذية المنوعة للجسد، وكما أنّ هذه الأغذية الأخيرة ضرورية لحيوية الجسم، فإنّ الأغذية الأولى ضرورية أيضاً لحيوية الروح ودوام رقّيه وسمّوه.
ويتبين من هذا أن صلاح الحياة الإنسانية متوقف على تحقيق الإنسان حاجاته من جهتين لدوام هذه الحياة الإنسانية وبقائها وحيويتها ونشاطها وتوازنها ولهذا جاء الإسلام بشريعة للروح حدد فيها حدود الحياة الروحية وكان هذا التحديد بمقدار حاجة الإنسان إلى هذه الحياة، وبمقدار الكفاية لمواصلة الإنسان في طريق رقيه وتكامله وسيره في طريق الله، كما جاء كذلك بشريعة للجسد حدد فيها حاجة الإنسان إلى الحياة المادية دون إفراط ولا تفريط ودون تقتير ولا تبذير، لأن الإفراط والتفريط كلاهما ميل عن الصواب وعن الطريق المستقيم، ولهذا كانت شريعة الإسلام شريعة متوازنة بالنسبة للجسد وللروح معاً.
وفيما يتعلق بايفاء الحقوق كاملة بالميزان قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام/ 152). (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (الإسراء/ 35). ثمّ ندد بالذين لا يستوفون الميزان فقال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين/ 1-6)، إذن هناك ميزان لوزن الحياة مع الطبيعة وهناك ميزان حقوق الناس في الحياة الإجتماعية وكلاهما ضروري لدوام الحياة الإنسانية والإجتماعية معاً.
وهذا حق، ذلك أن على الإنسان أن يعطي كل ذي حق حقه وعليه أن يعطي أيضاً حق الروح وحق الجسد، ولهذا لام الإسلام الذين رجحوا كفة الجسد باهتمامهم بالحياة المادية ثمّ استغرقوا في هذه الحياة وتركوا الحياة الروحية، وأصبحوا كالحيوان الذي يأكل ويشرب ويتمتع، ونسوا إنسانيتهم فقال تعالى: (.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد/ 12). أمّا الإعتدال في الحياة الحسية فهي كما قال تعالى: (.. كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31). وقال: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (المائدة/ 88)، وقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32).
ولهذا كله وضع الله الميزان في قوله (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77). وعلى ذلك جاء في سنة الرسول التقريرية "إنّ لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فاعط كل ذي حق حقه".
لكن هناك بعض الناس الميالين إلى الحياة الروحية والإستغراق فيها كما أن هناك بعض الناس الميالين إلى الحياة المادية، وكل فريق يركز على النصوص التي تدعو إلى الحياة التي يميل إليها ومن ثمّ يستغرق فيها ويترك الجانب الآخر ويفرط فيه.
وقد حدث في عهد الرسول أن جماعة من الصحابة الميالين إلى الحياة الروحية اتفقوا فيما بينهم على مواصلة العبادة وترك الحياة المادية، فقال أحدهم أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر أنا اصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء إليهم الرسول (ص) فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقال: "لا صام من صام الأبد".
ونستخلص من هذا كله أنّه يجب علينا أن ننظم حياتنا وفقاً للمعايير الإسلامية العامة التي تحدد منهج الإسلام للحياة الإنسانية؛ وذلك إذا أردنا أن يكون سلوكنا متوازناً مع الطبيعة والواقع ومتوازناً مع طبيعتنا الروحية والجسمية معاً، ومتوازناً مع حياتنا الإجتماعية في الوقت نفسه. ولهذا وضع الإسلام منهاجه للحياة ودعا إليه وعلينا أن ندعو إليه كما دعا إلى ذلك الإسلام.
ساحة النقاش