إنّ الحديث عن النوم المريح يجرّنا إلى الحديث عن الأرق كمشكلة يعاني منها كل شخص بين فترة وأُخرى، وإن كان الأرق ليس مرضاً إلا لدى بعض الأشخاص؛ ولكن حتى أولئك الذين يتّسمون بالعافية والحيوية فإنهم قد يقضون لياليهم متقلّبين على جمر السهاد عندما ترهقهم الضغوط، أو تتملّكهم مشاعر الإكتئاب أو الخيبة. وهناك الكثيرون مَن احمرت عيونهم أرقاً على رغم سيل "الوصفات" المراوحة بين كمادات الخس المغلي، والحليب الساخن، واليوغا، وممارسة الجنس، والأفرشة المائية. والأكثرية تتعاطى الحبوب المنوّعة للتغلب على الأرق، على رغم الأدلة الواضحة التي تثبت خطورة المهدئات وعدم جدواها على المدى البعيد في إحلال النوم على جفون المسهدين.
فكل إنسان لابدّ من أن يعاني بين الفينة والأخرى ليلة من الأرق "العابر" الذي قد يكون سببه الإرهاق، أو السفر، أو خصام مع المدير، أو قلق في انتظار نتيجة فحص ما. لكن الأخطر هو الأرق "القصير المدى" الذي قد يدوم أسابيع وذلك بفعل عوامل مؤثّرة كالحزن لفقد عزيز، أو الطلاق، أو المرض، أو تغيير مكان الإقامة. أما الأشد خطراً فهو الأرق "المزمن" الذي قد يدوم شهراً وربما سنوات.
ليست هناك صيغة جاهزة لمعرفة مدى خطورة الأمر، كعدد ساعات الأرق في الليلة الواحدة أو عدد ليالي الأرق في الشهر، لأن ساعات النوم التي يحتاج إليها الإنسان تتغيّر كثيراً تبعاً لفترات حياته. فغالبية المواليد الجدد ينامون فترة تراوح بين 14 و18 ساعة يومياً، ويتدنّى هذا العدد ليراوح في السن العاشرة بين 9 و10 ساعات. وثلثا البالغين ينامون بين 7 و8 ساعات كل ليلة، وخُمسهم ينامون أقلّ من 6 ساعات. وفي سن الشيخوخة يهبط معدل النوم إلى ست ساعات ونصف ساعة في الليلة. لكن قلّة النوم تبلغ حدود الخطر حين تنعكس على إنجاز الفرد وإنتاجه أثناء النهار.
بيد أن هناك، ولا شك، وسائل للتغلب على الأرق، وهي ثمرة سنوات من البحوث العلمية التي حقّقتها مجموعة من الإختصاصيين، أكثرهم من أعضاء رابطة الدراسات النفسية – الجسدية للنوم، فقد أظهرت هذه البحوث أن الرحلة الأمينة الناجحة إلى دنيا النعاس تبدأ بالتزام "منطق النوم السليم".
وقبل أن نذكر متطلبات ذلك، لابدّ من التنويه إلى عوامل الأرق، والتي تختلف من شخص لآخر. فهناك مَن يصاب بالأرق نتيجة اضطرابات عصبية تمر به، وهناك مَن يصاب بالأرق بسبب دواء تناوله لمعالجة الغدّة الدرقية، وثالث يصاب بالأرق لوجود بيته قرب المطار، أو قرب محطة القطار.
ثم إن هناك تفاعلات جسدية ونفسية متنوعة ومعقّدة تُدرج في خانة "الأرق"، حتى أن الباحثين باتوا يؤثرون أن يشيروا إلى الأرق بعبارة "الإضطرابات المانعة للنوم"، ومن العوامل أربع مجموعات تساهم في هذه الاضطرابات:
1- الاستعداد البيولوجي:
يحتمل أن يكون النوم واليقظة محكومين بجهازين للدماغ، واحد يسبب اليقظة وآخر يجلب النوم. ولكي تتسنّى الغلبة للنوم يتحتّم على جهاز اليقظة أن يهمد. وربما كانت أجهزة اليقظة لدى مَن يعاون الأرق زائدة الفعالية ومصحوبة بتوتر شديد في الأعصاب.
إنّ المشاكل التي تتطلّب معالجة طبية يمكن أن تسبّب الأرق مثل الألم الناتج من التهاب المفاصل أو القرحة، وكذلك الحمل وتشنّجات الرجلين. وقد يسبّب الأرق التقدّم في العمر لتدنّي قدرة المسنين على النوم.
2- عادات النوم السيِّئة:
إن للبيئة الصاخبة والعادات السيِّّئة تأثيراً سلبياً على النوم لدى كثير من الناس. فالضوضاء في غرفة النوم، والإنارة القوية، وشدة الحرارة والبرودة قد تبقيك مستيقظاً. كما أن العوامل التالية أيضاً مؤثرة على النوم: قرقرة البطن بسبب قلّة المأكل أو كثرته، والتمرين الذي يسبق النوم، وحتى خفقان القلب الذي يسبّبه أكل الشوكولاتة وجبنة الشدر والأطعمة الغنية بالنيروزين وهو حمض أميني ذو صلة بارتفاع مستوى التنبّه في الدماغ، بالإضافة إلى أن عدم انتظام أوقات النوم والنهوض يربك جهاز النوم أيضاً.
3- التكيّف السلبي:
إنّ الخوف من الأرق قد يتحوّل نبوءة تتحقّق. فبعد قضائك ليالي طويلة محدقاً إلى السقف في العتمة تجد أن الاستعدادات العادية للنوم، كتنظيف الأسنان أو ارتداء البيجاما، تصبح عوامل تزيد التوتّر بدلاً من أن تكون عوامل استرخاء. وقد تتملّك المرء رغبة يائسة في التنعّم بليلة نوم فتجاوز محاولاته في هذه السبل الحد المعقول.
إنّ المدخل الصحيح لمساعدة ضحايا الأرق هو التشخيص الدقيق لأسباب الأرق. ففي عيادة النوم في كلّية الطب بجامعة بنسلفانيا الرسمية يخضع المرضى الذين يعالجهم الطبيب النفساني "أنطوني كايلس" للمعاينة على مدى يومين. وتشتمل المعاينة فحصاً طبياً ونفسياً والاطلاع على سيرة مفصّلة لعادات النوم، وإبقاء المرضى عند الحاجة ليلة واحدة في المختبر يسجّل فيها الإختصاصيون الموجات الدماغية، ونشاط القلب، وحركات العينين والرجلين، والتنفّس.
4- وجود أمراض جسدية معينة:
وذلك مثل أمراض الربو، والتهاب المفاصل، والذبحة الصدرية، وأنواع القرحة، والصداع، ومرض باركنسون، واضطرابات الغدّة الدرقية، وإدمان الكحول أو العقاقير أو المخدرات.
يقول الدكتور ولم ديمنت، الإختصاصي في علم النوم وأستاذ الطب النفسي في جامعة ستانفورد، إن هناك ثلاثة أنواع "أولية" من اضطرابات النوم لا يمكن ردّها إلى أي أسباب جسدية أو نفسية محدّدة، ولكنها قد تؤدي إلى الأرق، وهي: ارتجاف السيقان الليلي الذي يحدث على نحو منتظم ويوقظ النائم، وتوقّف التنفّس المتكرّر الذي يقطع النعاس، واضطراب الإيقاعات البيولوجية، كالذي ينتج عن السفر الطويل بالطائرات النفاثة.
ويتفق معظم الباحثين في أمر النوم على أن الأرق ليس مرضاً في ذاته، لكنه علامة على أن هناك سبباً جسدياً أو نفسياً أو سلوكياً يحول دون سير دورة الجهاز البشري السوية في مسارها الطبيعي. وقد تراوح هذه الأسباب بين التشوّش في إنتاج كيميائيات "النوم" الطبيعية الذي يحدث في المخ، وزيادة تعاطي الكافيين، أو الفراش غير الملائم، أو الافتقار إلى الرياضة.
إنّ الأمر الأهمّ في معالجة الأرق النفسي هو الاعتماد على الله تعالى، والتوكّل عليه، فهو الدواء الناجع في كل ما يرتبط بالقلق والاضطراب، والأرق وما شابه ذلك.
ثم إنّ كثيراً من حالات الأرق يمكن معالجتها معالجة فعّالة عن طريق تعديل السلوك، أو التدرّب على اكتساب العادات أو تغييرها. ويقدّم الخبراء النصائح الآتية التي أثبتت التجربة جدواها:
أولاً: تأكّد من أنك تعاني حقاً مشكلة في نومك. فضع ساعة مضيئة قرب فراشك، واحتفظ بسجل لنومك على مدى أسبوع، تدوّن فيه مواعيد نعاسك ومواعيد ذهابك إلى السرير وكل مرّة تستيقظ. وحاول أن تسجّل مجموع فترات نومك، وما إذا كنت قادراً على أداء نشاطاتك اليومية، فقد تكون نتائج هذا السجل مطمئنة.
ثانيـاً: أجر فحصاً طبّياً شاملاً وذلك للتأكّد من أنك لا تعاني مشكلة صحية غير ظاهرة قد تكون وراء حرمانك من النوم. واحذر من وصفات العقاقير، لأن الأقراص المنوّمة إذا استخدمت بانتظام قد تؤدي إلى إفساد سير المراحل الحيوية الطبيعية للنوم.
ثالثـاً: لا تجزع إذا مررت بفترة مؤقتة من الأرق فهناك الأرق الناتج عن الخوف، وهو يحول دون النوم، فينقلب معه الخوف من الأرق إلى أرق فعلي. يقول الأستاذ ويب: "إذا كنت متعباً إلى درجة كافية، فستنام".
رابعـاً: اجعل لنفسك توقيتاً ليلياً منتظماً، بأن تأوي إلى فراشك في الموعد نفسه معظم الليالي. لقد كان هناك رجل تعوّد أن يصرف نصف الساعة الأخير قبل موعد النوم متجوّلاً في أرجاء المنزل يتفقّد الأبواب والنوافذ باباً باباً ونافذة نافذة. وبعدما أكّدت له زوجته أن ذلك مضيعة للوقت، سلّم الرجل بأن يدخل فراشه مباشرة و"يوفّر" نصف الساعة هذا للنوم، وكانت النتيجة: الأرق. فقد كان تجواله في البيت يتيح له وقتاً "للاسترخاء"، إلى أن "يحين موعد النوم".
خامساً: تجنّب الرياضة المرهقة ووجبات الطعام الكبيرة قبل أن تأوي إلى فراشك، لأن كليهما يبعث على تنشيط الهرمونات والتمثل الغذائي والدورة الدموية. كما أن ممارسة الجنس قد تؤدي إلى النتيجة عينها إذا اتّسمت بالتوتر والإجهاد.
سادساً: لا تُطِل نومك صباحاً ولا تغفُ في النهار حتى وإن لم يكن نومك هانئاً في الليلة السابقة.
إذا كنت دون الأربعين من العمر، فانهض في الوقت ذاته كل صباح لأن ذلك ينظّم ساعات النوم والاستيقاظ. وإن كنت تجاوزت الستين، فتجنّب الإغفاءات الخفيفة في النهار، وحاول أن تأوي إلى الفراش في وقت منتظم. ويجوز لك أن تتأخر عن هذا الموعد إذا لم تكن تشعر بالتعب.
سابعاً: إذا استيقظت في الليل فاسترخ في فراشك وحاول أن تعاود النوم. جرِّب القراءة، أو مشاهدة التلفزيون. وإذا لم تُجدِ هذه الوسائل فلا بأس في أن تنهمك في نشاط خفيف ممتع إلى أن يعاودك النعاس.
ثامناً: لا تدخّن ولا تتناول الكحول والشوكولاتة والقهوة والشاي والمرطبات التي تحوي الكافيين، خصوصاً بعد الظهر وفي المساء.
تاسعاً: دوّن في المساء الباكر المشاكل التي تنتظرك والطريقة التي تنوي معالجتها بها في اليوم التالي.
عاشراً: عدّل مستوى الإضاءة، والحرارة في غرفتك حتى تقع على الأنسب لك.
حادي عشر: لا تتناول وجبات ثقيلة قبل النوم مباشرة أو تأكل في منتصف الليل، ولكن لا بأس في تناول وجبة خفيفة كالحليب الساخن والبسكويت، لأنها تساعد بعض الناس على النوم.
ثاني عشر: تابع تمارينك كالمعتاد للحفاظ على نشاطك، ولكن ليس قبل النوم مباشرة.
ثالث عشر: إذا شعرت بالتوتر حين يحين وقت نومك، فتعلّم أن تطبّق فنون الاسترخاء، مثل شدّ الأعصاب تدريجياً ثم إرخائها واستيحاء رؤى ومناظر مبهجة هادئة. أدر المبه إلى الحائط كي تتفادى النظر إليه تكراراً.
رابع عشر: لا تشغل نفسك بمعرفة الوقت والساعة، لأنه لن يهتمّ أحد غداً بالاستماع إلى بيانك حول الساعات التي قضيتها في الفراش من غير أن يغمض لك جفن. ثم أي فرق بين أن تكون الساعة التي بقيت ساهراً إليها الثانية، أو الخامس صباحاً؟ إن مجرّد البحث عن الوقت والساعة دليل على وجود حالة من الحصر النفسي فيك، وهي حالة يجب أن تتجنّبها.
خامس عشر: لا تستعجل النوم، دعه يأتيك بنفسه، فإن النوم يكره المراقبة، ويستعصي بالمطاردة.
وإذا افترضنا أنك لم تستطع أن تنام بعد كل هذا، فما يضرك إذا كنت تستمتع باستذكار المشاهد الحلوة التي مررت بها، وتفكّر في بعض أمورك التي لابدّ من إنجازها في المستقبل، وأطلقت خيالك لتتصوّر مدى النجاح الذي يمكن أن تحققه في الأيام القادمة.
فحاول أن لا تضيف القلق إلى الأرق، بل تذكّر أنه بمقدار ما للنوم من حسنات فإن للأرق حسناته أيضاً، لأنه يعطيك فرصة إضافية من اليقظة. فسواء حاولت استغلالها بالتفكير، والاستذكار، أو قمت من فراشك وأنجزت بعض أعمالك، أو صلّيت، أو قرأت القرآن، أو سامرت زوجتك أو أي شيء آخر، فإن الأرق يكون نافعاً على كل حال.
ساحة النقاش