يعتبر نهر النيل الشريان الممتد الذى يحمل معه الخير والنماء فى الوادى والدلتا وقد إستقر المصريون حوله منذ آلاف السنيين. ووادى النيل ودلتاه ماهم إلا واحة كبيرة بالمقارنة مع الواحات الصغيرة المبعثرة فى صحارينا الواسعة حيث وجود الماء أدى الى وفرة فى النبات والحيوان واستقرار السكان ولكن مع الايام تضاعفت أعداد السكان وكان لابد من الانتشار والاتجاه الى إستصلاح وإستزراع الاراضى الصحراوية ..
لكن هذا الاتجاه يحتاج الى الحماية
حيث أن كل خطواته تبنى على العلم الحديث والتقنيات الخاصة بالزراعة فى الرمال. وكما نعلم أن التقنية دائما مكلفة ولكن دائما منها فائدة ولها عائد أيضا.
وأهم حماية تحتاجها الزراعة فى المناطق الصحراوية خارج الوادى والدلتا هى الحماية من التدهور.. لماذا؟
لأن التنمية المتواصلة لها جانب هام وهو مدى القدرة فى توظيف مواردنا من الاراضى الزراعية واستغلالها أكفأ استغلال وكذلك تنميتها وصيانتها لضمان عطائها على مر الاجيال.
لذا فان إنخفاض إنتاجية الارض أو فشل نمو المحاصيل هو التدهور بعينه.وبمضى الوقت ومالم يوقف التدهور فان الارض تنضم مرة أخرى الى الصحراء وهو ما نطلق عليه بالزحف الصحراوى او التصحر Desertificationللدلالة على أن الصحارى تغزو المناطق المجاورة
وليس هناك شك فى أن الانسان هو الصانع الاول للتصحر ..
فهو السبب والضحية فى نفس الوقت!!
لذا يعرف تدهور التربة
بانه إنخفاض وتدهور الطاقة الحيوية للأرض الى الدرجة التى قد تؤدى الى ظروف مشابهة لظروف الصحراء. وبمعنى اخر فان التدهور هو كل تغير كمى ونوعى فى التربة من شأنه أن ينقص أو يعطل بصفة مؤقتة أو دائمة من قدرتها على أن تكون أو تستمر بيئة صالحة لنمو النباتات وبالتبعية تصبح المنطقة غير صالحة لمعيشة الانسان..
لذلك فان التحسين والتدهور نقيضان ..أى التحسين عكس التدهور..
وتدهور التربة حالة نسبية تقدر فى إطار زمنى الى مجموعتين
تدهور مؤقت
وهو تدهور نوعى يمكن تحسينه اذا ما أزيلت أسبابه وعولجت مظاهره.ويشكل هذا النوع أثرا سلبيا يتفاقم مع مرور الوقت إذا ترك بدون عناية أو إهتمام ويحتاج لمعرفته وتقويم درجاته وأنواعه الى جهد وخبرة. ويؤدى أى تأخير فى مقاومة التدهور المؤقت الى صعوبة العلاج بعد ذلك .كما وأنه يصبح أكثر تكلفة
تدهور دائم
وهو تدهور شامل يصعب إستعاضة ما فقد بسببه حتى لو كانت إستعاضة جزئية، لان التدهور هنا تدهور كمى لا رجعة فيه لما يحتاجه من إنفاق كبير غير إقتصادى ..والتصحر يعتبر أحد أشكال التدهور الشامل
ومن هنا يتضح أن التدهور يختلف فى أسبابه وملامحه ودرجاته وأثره الاقتصادى أيضا.
والارض الزراعية تحت الظروف الطبيعية تعتبرمن أهم الثروات المتجددة طالما روعيت أصول الفلاحة السليمة فى إستغلالها والتى تؤدى بالضرورة الى تحسين التربة وليس تدهورها.
والقاعدة التى لااستثناء لها .. إن الأرض لن تستطيع أن تعطيك ما تحتاج أنت اليه ما لم تحميها وتغذيها وتنزع منها مالا تحتاج هى اليه....
لذا فان تدهورها وإستنزافها قد يتمادى الى أن يصبح عملية غير عكسية مثلها فى ذلك مثل الكثيرمن المشاكل البيئية. بمعنى انها متى حدثت فانه من المستحيل عمليا تصحيحها بالكامل ثانية.. والمثال على ذلك أمامنا .. حى يرزق .. وهو التغلغل العمرانى على حساب الاراضى الزراعية الخصبة بالوادى والدلتا وتحويلها الى كتل خرسانية .
وبرغم ذلك فانه يمكن استصلاح الاراضى المتدهورة بصورة أو باخرى.. ولكن السؤال ..
بأى تكلفة وبأى جهد وكم يلزم لذلك من الوقت؟
وفى الحقيقة فان عملية الاستصلاح مكلفة وتستلزم حهدا وخبرات كثيرة كما وأنها تستغرق سنوات طويلة لتصحيح المسار وعلاج مشاكل هذا التدهور
ولابد لنا من معرفة الاسباب التى تؤدى الى هذا التدهور فى النقاط التالية
1- التوسع فى الزراعات المروية فى المناطق الصحراوية قبل إجراء الدراسات الكافية عن خواص التربة وخواص المياه المستعملة فى الرى وتقييم حالة الصرف.
2- عدم التدقيق فى إختيار نظام الرى المناسب مما يؤدى الى زيادة ملوحة التربة.
3- حفر الآبار بكثرة وبدون دراسة كافية لتلبية احتياجات التوسع والذى قد يؤدى الى خفض مستوى الماء الجوفى فى تلك الآبار أو زيادة ملوحتها
4- القصور فى العناية بالخدمة من حيث :
صيانة شبكة الرى- إستمرار الحرث على عمق ثابت مما يتسبب فى تكوين طبقة مندمجة على عمق سلاح المحراث والتى تؤثر عكسيا على إنتشار جذور النباتات - أو الحرث العميق برغم ان هذه التربة قد لاتحتاج الى هذا النوع من الخدمة – إغفال إضافة السماد العضوى بصفة دورية وكذلك الاسراف فى إستخدام الاسمدة المعدنية والكيماويات بدون داعى وبالتالى تلوث التربة.
ويأتى بنا الحديث الى أنواع التدهور ومظاهره وكيفية علاجه ..ونبدأ بالنوع الاول منه وهو
التدهور الكيمائى Chemical Degradation
ويرجع التدهور الكيميائى الى تجمع الاملاح من قطاع التربة والماء الجوفى إن وجد ..وتركيز هذه الاملاح المتجمعة فى الطبقة السطحية من القطاع حيث يتركز أغلب النشاط الجذرى للنباتات السطحية للتربة وبالتالى تدهورها
وعمليات تجميع الاملاح بالتربة وصوديتها وارتفاع مستوى الماء الارضى بها تعتبر محصلة لعدد من العوامل أهمها خواص التربة وطبوغرافيتها علاوة على المناخ والنشاط البشرى وكلها عمليات متكاملة أو متضادة.
وبالتالى ينتج فيما يعرف بالملوحة الثانوية للتربة Soil Secondary Salinization والتى تؤدى الى نقص أو فقد كلى لخصوبة التربة لتراكم الاملاح سهلة الذوبان والضارة بالنبات بمنطقة الجذور فى الاراضى المنزرعة. وينتشر التمليح الثانوى فى مناطق مختلفة من العالم حيث ينتشر الرى بالغمر كما فى الهند وباكستان ووسط آسيا والقوقاز وإيران والعراق والولايات المتحدة الامريكية وعندنا فى مصر.
والتمليح الثانوى يحدث على مراحل ثلاثة تبدأ بتكوين بقع ملوحة موسميةSeasonal patches خلال فصل الصيف حيث نجد البناتات فى هذه البقع لاتكون بالكثافة النباتية المطلوبة ولاتنمو بالمعدل الطبيعى ثم يتبع ذلك تكوين البقع المستديمة للملوحة الثانوية patches Phase ofوالتى توجد فى الاجزاء العالية من التربة . وعمليات التمليح الثانوى تحدث أساسا فى المناطق ذات الصرف الطبيعى الضعيف. كما أن أغلب نظم الرى الموجودة فى المناطق ذات المناخ الحار مثل السهول والوديان ودلتا الانهار تتصف عادة بعدم الكفاءة ويؤدى هذا فى غياب الصرف الطبيعى الكافى الى إرتفاع مستوى الماء الارضى الى المستوى الحرج حتى وان كان اصلا عميق
ويمكن علاج بقع التمليح الثانوى بالاجراءات الزراعية الآتية
- إجراء عمليات التسوية للتربة
- إضافة المحسنات والجبس الزراعى ثم الحرث العميق بمحراث تحت التربة .
- غسيل قطاع التربة
- إنتظام الرى
- زراعة المحاصيل الكثيفة النمو مثل البرسيم فى وجود شبكة صرف جيدة
لكن اذا وصل الامر الى عدم العلاج وتحولت البقع الى ملوحة ثانوية متصلة فانه من الصعوبة التخلص من هذه الاملاح بدون إصلاح جذرى ليس فقط للتخلص من ملوحة التربة بل للتخلص من ملوحة الماء الارضى أيضا.
ويقاس التدهور الكيميائى للتربة
1-تمليح التربـــــــــــــة : ويعبر عنه بارتفاع درجة تركيز الاملاح فى مستخلص التربة السطحية عند التشبع بوحدات ملليموز/سم عند درجة 25 حرارة مئوية.
2- قلونة التربـــــــــــــة: يعبر عنها بمقدار الارتفاع فى النسبة المئوية للصوديوم المتبادل
3- رقم الحموضة pH : إرتفاعا أو إنخفاضا
4- الســـــــــــــــــــمية: يعبر عنها بمقدار إرتفاع تركيز العناصر السامة بالجزء فى المليون (ppm) .
ونأتى للنوع الثانى من تدهور التربة وهو
التدهور الفيزيائى Physical Degradation
ويحدث للارض نتيجة لتأثير عدد من العمليات المتداخلة مع بعضها تؤدى فى الغالب الى نقص مسام التربة وتوجد عدة ظواهر على حدوث التلف الفيزيائى للتربة وهى
1- تجلد سطح التربة لتكوين طبقة غير منفذة أو قشرة صلبة نتيجة .
2- إنخفاض المسامية او إنضغاط التربة Compaction نتيجة إستعمال المعدات الزراعية الثقيلة .كما تؤدى الى تلف مرقد البذرة وإنخفاض نسبة الانبات ..وعندئذ تستبدل المكائن باخرى تناسب التربة
3- تكوين طبقة غير منفذة عند عمق الحرث نتيجة الحرث المستمر على عمق ثابت مما يتبعه نقص التهوية وعدم قدرة الجذور على الامتداد أو ماء الرى عن التغلغل.
ويمكن لنا الحكم على درجة التلف الفيزيائى من تقدير النسبة المئوية للتغير فى الكثافة الظاهرية للتربة ومعدل نفاذيتها
ولنا أن نعرف أن مدى الكثافة الظاهرية للتربة تكون من 1.25 حتى 1.6جم/سم3 فاذا زادت الى 2 او 2.5 فهذا نذير.. وهى تقدر فى معامل تحاليل التربة
ونأتى للنوع الثالث من تدهور التربة وهو
التدهور الحيوى Biological Degradation
توجد علاقة قوية ومباشرة بين التدهورالبيولوجى والتدهور الفيزيائى حيث أن التدهور البيولوجى ينتج أساسا من نقص المادة العضوية بالتربة. ويجب أن نفرق بين المادة العضوية الطازجة (غير المقاومة للتحلل) والدبال (المقاوم للتحلل) حيث أن التدهور البيولوجى نعنى به معدنة المادة العضوية المقاومة للتحلل أى الدبال
ومظاهر التدهور البيولوجى هى
1- تحول التربة الى لون أفتح نتيجة نقص المادة العضوية بها.
2- نقص ديدان الارض واحياء التربة بشكل عام.
3- نقص الاستجابة للتسميد.
ويعتبر علاج التدهور البيولوجى باضافة المادة العضوية باستمرار لتعويض الفقد المستمر فى الدبال هو وقاية فى نفس الوقت من التدهور الفيزيائى وذلك اذا لم تكن الخواص الفيزيائية للتربة قد تدهورت فعلا نتيجة لمعدنة المادة العضوية .. وقد يحدث التدهور الحيوى والفيزيائى أيضا عندما تقل التهوية نتيجة إرتفاع الماء الارضى وزيادة رطوبة التربة

ولاأريد الاطالة على حضراتكم وفى ختام حديثنا ينبغى القول بأنه قد يتطلب الامر تقييم مدى التحسن أو التدهور بالوقوف على حالة التربة وتقيمها الى درجات توضح قدرتها الانتاجية تحسنا أو تدهورا وذلك باجراء الفحوص والاختبارات الحقلية والمعملية بهدف الحصول على توصيف علمى دقيق لجميع الخواص الطبيعية والكيمائية والظروف البيئية والهيدرولوجية لقطاع التربة وعلاقته بكل من مياه الرى والمحاصيل القائمة
على أن يتم إعادة الفحص لنفس المساحة كل 3 الى5 سنوات وبصفة منتظمة ومقارنتها بالحالة السابقة قبل ذلك . وتؤدى هذه المتابعة الى تقييم كامل لمدى التحسن أو التدهور حتى يتسنى وضع سياسة تنمية الارض بدون تدهور أو إهدار..
وأعتقد أنه لايوجد أى صعوبة فى أن تذهب حضرتك الى أقرب معمل لتحليل الاراضى فى منطقتك وتشرح للمختصين مشكلة التربة عندك وحالة النباتات بها وسوف يذهب معك المختص الى الموقع ويأخذ عينات من التربة والنبات القائم ويتم اجراء التحليلات المعملية والتى سوف تحصل عليها فى صورة تقرير يتضمن المشكلة والاسلوب العلمى للعلاج .. والامر ليس مكلف ماديا بالمرة كما قد يتخيل البعض.
وكان يأتى لى كثيرمن الاخوة المستثمرين فى الزراعة فى سيوة وكانت شكواهم من عدم نمو اشجار الزيتون عندهم بالمعدلات الطبيعية للنمووكنت اوضح لهم بعض الاجراءات لحل مشاكلهم بناء على بعض الاسئلة التى كنت اقوم بتوجيها لهم ..ولكن سمح وقتى ذات مرة للذهاب مع أحدهم وكان يعمل محامى تقريبا ..واتضح من خلال واقع الزيارة انه أتى باحد السباكين لعمل شبكة رى بالتنقيط للمزرعة. ولنا أن نتخيل أن سباكا مع تقديرنا لاخوانا السباكين .. قام بعمل شبكة الرى للمزرعة!!! وعندما سألته عن سبب ذلك .. قال لى بأنها ليست شغلانة يادكتور..
فاذا كان يااخوانى هذا تفكير وأسلوب المستثمر ..فماذا ننتظر؟ لاننتظر هنا سوى تدهور التربة والنبات وبالتالى الفشل !!!!
وتجدر الاشارة بتميز المرحلة الراهنة من التقدم العلمى بأنها تساعد فى معرفة الكثير من المشاكل العلمية والفنية والتنبؤ بها قبل وقوعها وخاصة ما سوف يحدث فى المدى القصير (فترة 10سنوات على سبيل المثال).
لذلك فانه من أفدح الاخطاء ألا نجابه المشاكل وننتظر حتى تحدث. كما وأنه لم يعد من المقبول عمليا الاعتذار بأننا كنا نجهل أن هذه المشاكل سوف تحدث. فنحن الآن نعرف وبقدر كبير من الدقة ما سوف يترتب على إستصلاحنا للارض الصحراوية من تبعات مفيدة أو حتى ضارة. والمطلوب منا عمل كل مايلزم لتقليل أى ضرر ما الى أقل حد ممكن.. طبقا للحكمة المأثورة بأن ..الوقاية خير من العلاج..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

المصدر: د/إبراهيم أبوعامر مركز بحوث الصحراء بالقاهرة
Abou-Amer

رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ د/إبراهيم أبوعامر

  • Currently 61/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
19 تصويتات / 1891 مشاهدة
نشرت فى 18 سبتمبر 2010 بواسطة Abou-Amer

ساحة النقاش

د/إبراهيم عبد العاطى أبوعامر

Abou-Amer
دكتور باحث بمركز بحوث الصحراء بالقاهرة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

118,209