<!--[if !mso]> <style> v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} </style> <![endif]-->
<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Tableau Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
التحوّل إلى دولة صناعية: تجربة إيران نموذجاً
05 كانون الثاني ,2016 02:18 صباحا
غربي برس: ألبر داغر
اكتساب المقدرة التكنولوجية هو السبيل إلى تحقيق «التصنيع المتأخّر» في البلدان النامية وإخراجها من التخلّف. يتناول النص التالي الكيفية التي يتم بها اكتساب هذه المقدرة على مستوى المؤسسة الإنتاجية ودور الدولة على هذا الصعيد. ويعرض تجربة إيران كواحدة من بين أحدث التجارب في «التصنيع المتأخّر». وهو إنجاز وتجربة يصحّ الاقتداء بها.
1. «التعلّم التكنولوجي» وسيلة لتحقيق «التصنيع المتأخر»
شهدت البلدان الغربية بدءاً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر انطلاق الثورة الصناعية. تحقّق ابتداءً من ذلك التاريخ تقدم تكنولوجي لم تشهد الإنسانية مثله قبلاً. انقسم العالم نتيجة لذلك إلى نوعين من الدول: الأولى التي باتت قادرة على تطوير أساليب (process) تكنولوجية وسلع (goods) جديدة بواسطة الاختراع (invention)، والثانية التي لم تتمكن من ذلك. باتت هذه الأخيرة فريسة للأولى التي استعمرتها منذ التاسع عشر، وجعلتها في حالة تبعية لها حتى اليوم.
عرضت الباحثة أليس أمسدن خصائص الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية اللتين حصلتا خلال الحقبة الممتدة من أواخر الثامن عشر حتى أواخر التاسع عشر. في الثورة الأولى، كان ثمة مخترعون أفراد تولّوا وضع الأساليب الجديدة موضع التنفيذ وأنتجوا سلعاً لم تنوجد سابقاً ضمن مؤسسات صغيرة. في الثورة الصناعية الثانية، التي شملت بلداناً غربية غير إنكلترا، خصوصاً ألمانيا والولايات المتحدة، أصبح ابتكار (innovation) طرائق وسلع جديدة منوطاً بشركات كبرى (أمسدن، 1989: 4). تمكّنت هذه الأخيرة من أن تخصّص موارد بشرية وفرقاً بحثية كبيرة لنشاطات البحث العلمي والتطوير (أمسدن، 1993: 327). وحين كتب جوزيف شومبيتير عن الابتكار بوصفه محرّك النمو الاقتصادي والأساس فيه، كان يصف واقع التنافس بين الشركات الكبرى على إنتاج مخترعات جديدة وتسويقها (غيلاك ورالّ، 1997). سُمّيت كل حالات التصنيع التي حصلت بعد التجربة الأولى في إنكلترا حالات «تصنيع متأخّر». واستخدم ألكسندر غرشنكرون هذا التعبير لوصف تجربة أوروبا الشرقية وبالتحديد التجربة الروسية في «التصنيع المتأخّر». واستخدم المتخصّصون في اقتصاد التنمية هذا التعبير لتوصيف عملية التصنيع التي جرت في شرق آسيا، وبالتحديد في اليابان وكوريا وتايوان بعد الحرب العالمية الثانية.
شرحت أمسدن خصائص «التصنيع المتأخّر» الآسيوي باعتباره سيرورة جديدة مختلفة عن ما سبقها. رأت أنه يقوم على «شراء طرائق الإنتاج الأجنبية وتكييفها وتحسينها بالقدرات المحلية» (أمسدن، 1989: 141). فسّرته بوصفه قائماً ليس على الاختراع وإنما على «التعلّم من خلال الممارسة» (learning by doing)، الذي يتيح إنتاج السلع ذاتها أو ماركات جديدة منها وبيعها في الأسواق الدولية.
انتقدت الباحثة النظرية النيو-كلاسيكية التي تقول إن استخدام التقنيات ذاتها يولّد إنتاجية متشابهة لدى المؤسسات المعنية كائناً ما كانت شروط البلد الذي تعمل فيه. بيّنت أن المعرفة التكنولوجية (knowledge) لا يمكن أن تكون كاملة، ما يعطي للمؤسسات هامشاً كبيراً لتطوير وتحسين ما تستخدمه من تقنيات (أمسدن، 2001: 3). أي يكون ممكناً خلق ميزات نسبية للسلع المعدّة للبيع في الأسواق الدولية، بواسطة التعلّم من خلال الممارسة ونشاطات البحث والتطوير (R-D).
2. اكتساب المقدرة التكنولوجية على مستوى المؤسسة
سوف يكون العمل في مختبر المصنع (shop-floor) هو ساحة الحرب الحقيقية للمؤسسة لاكتساب المقدرة التكنولوجية كما دلّت على ذلك تجارب «التصنيع المتأخّر» للقرن العشرين. يتم في المختبر تكييف التكنولوجيا، أي الآلات التي تمّ شراؤها. يصار فيه إلى تحسين هذه الأخيرة و«الارتقاء بها باطراد وبطريقة تراكمية» (أمسدن وهيكينو، 1993: 247).
يعكس هذا الوصف ما يحصل في المؤسسة خلال الحقبة الأولى من التعلّم التكنولوجي (technological learning) التي هي حقبة «التقليد القائم على النسخ أو المحاكاة» (duplicative imitation). رسم الباحث لينسو كيم، بالاستناد إلى تجربة كوريا الجنوبية، صورة بثلاث مراحل لعملية التعلّم التكنولوجي، وهي مرحلة التقليد الاستنساخي التي تمت الإشارة إليها، ومرحلة «التقليد الذي ينطوي على إبداع» (creative imitation)، ومرحلة «الإبداع الأصيل» (original innovation) (كيم، 2001: 13).
تعكس كلّ تجارب «التصنيع المتأخّر» التي تحقّقت، المرحلتين الأولى والثانية من التعلّم التكنولوجي، مع استثناء اليابان التي بلغت مرحلة الإبداع الأصيل بعد الحرب العالمية الثانية. يمثّل «التصنيع المعكوس للآلات» (inverse engineering) لبّ المرحلة الأولى، حيث يصار لشراء الآلات من الأسواق الدولية وتفكيكها وإعادة إنتاجها بمواصفات محلية. ويجسّد عملية «تعلّم من خلال الممارسة». يمكن أن تسهم الشركات الأجنبية في عملية نقل التكنولوجيا هذه إلى بلد بعينه، من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر فيه أو بيعه حقوق الإنتاج أو تسليمه منشآت على طريقة «مفتاح باليد». كما يسهم في ذلك نقل التكنولوجيا بطرق غير رسمية من خلال استخدام الآلات الموجودة أصلاً والأدبيات المنشورة في هذا الميدان واستقدام كفاءات بشرية من الخارج (المصدر نفسه: 15). يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية من التعلّم التكنولوجي، المتمثّلة بالتقليد الذي ينطوي على إبداع، من خلال خلق ميزات تكنولوجية إضافية للسلع ذاتها تجعل منها ماركات جديدة تنضم إلى تلك المتداولة في الأسواق الدولية. تكون مساهمة نشاطات البحث والتطوير في هذه المرحلة أكبر بما لا يقاس من دورها في المرحلة الأولى.
وقد استهدف الآتون متأخّرين إلى التصنيع في القرن العشرين اكتساب المقدرة التكنولوجية في الصناعات ذات التقنيات المتوسّطة (mid-tech) التي يمكن شراؤها من الأسواق الدولية، ومن بينها الآلات الكهربائية والمنتجات الكيماوية الأساسية والسيارات والإلكترونيات ذات الاستهلاك الواسع (أمسدن وهيكينو: 246).
في كلتي المرحلتين الأولى والثانية، يحدّد عاملان سرعة التعلّم التكنولوجي ومداه، أولهما القدرة على تمثّل أو استيعاب التكنولوجيا المستعارة، وثانيهما كثافة الجهد الموضوع للتعلّم التكنولوجي. تمثّل القاعدة المعرفية الوطنية (existing knowledge base) العنصر الأساس في القدرة على استيعاب التكنولوجيا. يجسّد التعليم والتعليم العالي ونشاطات البحث والتطوير هذه القاعدة في البلد المعني. في حالة كوريا، انتقل عدد الباحثين في مراكز البحث والتطوير من صفر عام 1962 إلى 130 ألفاً أواخر التسعينيات، توزّعوا بين المؤسسات الإنتاجية التي ضمّت 60 % منهم، وبين مؤسسات التعليم العالي والمؤسسات الحكومية (كيم: 14).
تتدخّل عوامل مختلفة في تحديد كثافة الجهد الموضوع للتعلّم التكنولوجي. في البلدان التي نجحت في تسويق منتجاتها دولياً، يكون حصول أزمات تصدير، أي تراجع القدرة التنافسية للسلع الوطنية، حافزاً رئيسياً لتكثيف الجهد في ميدان التعلّم التكنولوجي واكتساب فعالية (performance) تخوّل تصدير سلع إضافية.
لكن كثافة هذا الجهد تتحكّم فيه عوامل أخرى لها علاقة بالأمن الوطني ومواجهة تحديات خارجية. اندفعت كوريا إلى تطوير الصناعات الثقيلة والكيماوية في سبعينيات القرن الماضي في مناسبة انسحاب الجيوش الأميركية منها (المصدر نفسه: 19). تؤثر التحديات الخارجية التي تواجهها بلدان بعينها في التوجّه الذي تعتمده لجهة نوعية التعلّم المطلوب (technological orientation). قد يذهب البعض منها إلى تطوير تقنيات تمثّل «إبداعاً أصيلاً» في ميدان الصناعات العسكرية مثلاً. أي يكون خيار هذا البعض منافسة البلدان الصناعية والقوى العظمى في تطوير تقنيات جديدة في آخر ما بلغته التكنولوجيا (technological frontier).
3. دور الدولة في عملية اكتساب المقدرة التكنولوجية
يستعيد الدارسون غالباً المقابلة بين روستو وغرشنكرون التي تضمنتها الأدبيات حول التنمية، في فهمهما لكيفية تحقّق «اللحاق» (catch up) أو «التصنيع المتأخّر». عند روستو صاحب المراحل الخمس الشهيرة للتنمية، تجري الأمور من تلقاء ذاتها، وتنتقل البلدان المعنية من مرحلة إلى أخرى بدون كبير عناء وبدون تدخّل للدولة. أما عند غرشنكرون، فتقتضي التنمية تعبئة شديدة لقدرات الدولة والمجتمع.
لكن الدولة تتدخل في نموذج غرشنكرون كمصرفي ومموّل للاستثمار. انطلق هذا الأخير من شروط الإنتاج التي تتطلّب استثمارات ضخمة. رأى أن أصحاب المشاريع الأفراد ليس بقدورهم التصدي لهذه المتطلبات. بات بالتالي تدخّل الدولة لتأمين التمويل الكثيف للاستثمار حاجة تتطلبها الشروط التكنولوجية للإنتاج (إيفانز، 1995: 31).
تتطلّب التنمية في واقع الأمر أن تذهب الدولة أبعد من ذلك. أفضل من عبّر عن هذا الدور ألبرت أوتو هيرشمان. وعنده أن النقص الذي يعيق التنمية لا يكمن في ضعف الادخار أو عدم توفّر رأس المال أو غير ذلك من عوامل الإنتاج. فهي موارد موجودة «بشكل كامن» (هانت، 1989: 60). النقص هو في القدرة على الاستثمار، أي في اكتشاف المعنيّين إمكانيات الاستثمار وتحويلها إلى استثمارات فعلية. ذلك أن من يملكون الموارد المطلوبة للاستثمار ليست لديهم القدرة على اتخاذ قرارات تحويل إمكاناتهم إلى نشاطات إنتاجية.
هنا يكمن دور الدولة. ينبغي أن يكون دور هذه الأخيرة الدفع إلى اتخاذ القرار في مجال الاستثمار. ينبغي أن تقدّم الدولة حوافز لأصحاب المشاريع وتطلق مبادراتهم في قطاعات بعينها وليس في كل القطاعات. قال هيرشمان إن عليها أن تقدم حوافز مؤداها خلق عدم توازن بين القطاعات. اختصر دور الدولة في ما يخص العلاقة مع نخب المستثمرين تحت عنوان: «تعظيم قدرة هذه النخب على اتخاذ القرار الاستثماري» (إيفانز، 1995: 31).
في التجربة التاريخية للدول التي حقّقت تصنيعها المتأخّر بعد الحرب العالمية الثانية، استخدمت الدولة كحوافز للمستثمرين، أسعار الفائدة وأسعار صرف العملة والحماية الجمركية ومنع «المنافسة الزائدة عن الحد» من خلال ضبط أعداد المستثمرين في القطاعات الجديدة، واعتماد حوافز للتصدير. لكن القاسم المشترك الذي يجمع بين كل هذه البلدان هو الجهد الاستثنائي الذي وضعته الدولة منذ البداية لتطوير القاعدة المعرفية الوطنية، وذلك من خلال دعم التعليم والتعليم العالي ونشاطات البحث والتطوير.
استخدمت الدولة في كوريا كأدوات اقتصادية القروض بفوائد مدعومة. كانت تتولى توفير قروض من مصادر أجنبية. وكان معدّل الفائدة الفعلي الذي تسدده المؤسسات سلبياً على هذا النوع من القروض (أمسدن، 1993: 328). أي وفّرت الدولة موارد للتمويل من مصادر دولية وضعتها في تصرّف المؤسسات الإنتاجية التي استخدمتها من دون أن تدفع فوائد عليها. وامتنعت عن استقبال الاستثمار الأجنبي المباشر أو التعويل عليه (لال، 2003: 19). استعاضت عن ذلك بشراء التجهيزات التي تحتاجها المؤسسات مباشرة من السوق الدولية. وهو ما دلّت عليه المبالغ الطائلة التي كانت تُدفع لشراء حقوق الإنتاج من الشركات الأجنبية (كيم: 20).
واستخدمت الدولة أسعار صرف للعملة محابية للقدرة على التصدير (أمسدن، 1989: 145). أي منعت حصول تحسّن في سعر صرف العملة من شأنه تدفيع المستوردين الأجانب سعراً أعلى بعملتهم حين يشترون السلعة الوطنية. وحمت الصناعات الجديدة من المنافسة الأجنبية بالرسوم الجمركية وبغيرها. ترفع الدولة أسعار السلع الأجنبية المعدّة للتسويق في السوق المحلية حين تضع رسوماً جمركية عليها. وهي تمنعها بذلك من منافسة السلع المحلية وتحمي المنتجين المحليّين بهذه الطريقة. وأتاحت الدولة للمؤسسات الإنتاجية توزيع الكلفة الثابتة على عدد أكبر من السلع، أي خفض حصة الكلفة الثابتة في كل سلعة تنتجها، حين كانت تمنحها حصة أكبر في السوق المحلية. وكان ذلك يتمّ بإعطاء هذه المؤسسات أوضاعاً شبه-احتكارية في قطاعاتها. وقد تعمّدت الدول الآسيوية أن تخفّض عدد المنتجين في كل قطاع بدمج المؤسسات وإفادتها بهذه الطريقة من وفورات الحجم من أجل تعظيم تنافسيتها المحلية والدولية. تقع هذه المبادرات تحت عنوان «تنسيق الاستثمار» (داغر، 2012: 33-35).
ومع اعتماد هذه البلدان استراتيجية التصنيع بغاية التصدير أو «التوجّه نحو الخارج»، باتت الدولة تتدخّل فيها بشكل مباشر من أجل خفض كلفة الإنتاج لدى المؤسسات الصناعية (أمسدن وهيكينو: 246). أعطت أمسدن مثالاً على ذلك من خلال المقارنة التي عقدتها بين الولايات المتحدة واليابان على هذا الصعيد. عبّرت المؤسسة العسكرية الأميركية عن الحاجة لتوحيد مواصفات قطع الغيار في صناعة المعدّات الآلية لتسريع الإنتاج في حالة الحرب. لم تستجب المؤسسات الإنتاجية لهذا الطلب. أما في اليابان، فقد تمكنت الدولة من إلزام المنتجين بتوحيد مواصفاتهم في هذا القطاع (المصدر نفسه: 250).
كانت السياسة الاقتصادية التي اعتمدتها الدول التنموية الآسيوية على نقيض ما بشّرت به المؤسسات الدولية وطبّقته على امتداد الحقبة النيو-ليبرالية. حملت هذه الأخيرة لواء «جعل الأسعار حقيقية» (getting relative price right)، بمعنى منع الدولة من أن تتدخل للتأثير على الأسعار. عملت المؤسسات الدولية على كف يد الدولة في البلدان النامية في ميادين الحماية للإنتاج المحلي وأسعار الفائدة المخفّضة وتنسيق الاستثمار، وفي غير ذلك من الميادين. جاء ذلك على نقيض تجربة «التصنيع المتأخّر» في الدول التنموية الآسيوية برمتها، التي اختصرتها أليس أمسدن تحت عنوان جعل الأسعار «نقيض الأسعار الحقيقية» (getting relative price wrong) (أمسدن، 1989: 139).
أخذت الباحثة على عاتقها التذكير على الدوام بأحد أهم عناصر نجاح التجربة الآسيوية، ألا وهو تقديم الدولة دعماً مشروطاً للمؤسسات المستفيدة من تدخلها. بلورت مفهوم «آلية الضبط المتبادل» لاختصار هذه التجربة (أمسدن وهيكينو: 249). كانت الإجراءات التي اتخذتها الدول التنموية الآسيوية مشابهة لتلك التي اعتمدتها بلدان العالم الثالث الأخرى التي فشلت في تحقيق تصنيعها المتأخّر. كمن الفرق الجوهري بين الطرفين في أن الثانية وفّرت للمؤسسات الإنتاجية وسائل دعم شتى من دون مقابل، في حين أن الدول الآسيوية اشترطت على المؤسسات المستفيدة من تقديماتها تحسين فعاليتها الإنتاجية بصورة ملموسة وقابلة للقياس. لم تفرض الدولة الانضباط على القوى العاملة فقط، بل فرضته على رأس المال أيضاً. كان المتهاونون في تحسين إنتاجيتهم التي تخوّلهم المنافسة في الأسواق الدولية عرضة للمساءلة وسحب الدعم الموفّر لهم.
4. التجارب الأكثر حداثة في اكتساب المقدرة التكنولوجية
تمثّل إيران إحدى آخر الدول التي نجحت في اكتساب المقدرة التكنولوجية وإنجاز «تصنيعها المتأخّر». بدأ الأمر في قطاع بعينه هو قطاع إنتاج السيارات المدنية، ثم طاول بقية القطاعات.
تم إنتاج سيارة مدنية محلية أول الأمر خلال حقبة الشاه. وعام 1979، كان هذا القطاع ينتج 190 ألف سيارة سنوياً، لكن بمحتوى محلي (local content) محدود لا يتجاوز الـ 24% (بزرجمهري، 2012: 6). أي أن صناعة السيارات الإيرانية آنذاك كانت تجميعية بشكل رئيسي. اعتمدت الجمهورية الإسلامية سياسة اقتصادية يسارية منذ 1979 وجدت ترجمتها في التأميمات التي حصلت للقطاع الصناعي ومصادرة أملاك الشاه والعودة عن خيار حرية التبادل مع السوق الدولية واعتماد سياسة توزيعية للدخل من خلال دعم أسعار السلع الاستهلاكية واعتماد التسعير الإداري للسلع والخدمات (المصدر نفسه: 14).
بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988 ووفاة الإمام الخميني، لم يكن ثمة خط رسمي واضح يحدد الخيارات الوطنية في ميدان التنمية. كانت الساحة السياسية بالتالي ميدان تجاذب بين ثلاثة تيارات مثّلها الصناعيون القوميون الذين كانوا يرون التنمية في تطوير اقتصاد منتج صناعي، وتيار إعطاء الأولوية للقطاع الزراعي في خيارات الدولة، والتيار النيو-ليبرالي الذي كان يرى أن تحقيق التنمية في إيران يمر عبر اندماجها في السوق الدولية والتعويل على الاستثمار الأجنبي المباشر. أقنع أحد ممثلي التيار الأول، وهو وزير الصناعات الثقيلة آنذاك بهزاد نبوي، رئيس الجمهورية مير حسين موسوي بشراء آلات شركة تالبوت (Talbot) الإنكليزية التي كانت قد أعلنت إفلاسها، مقدمة لإعادة تطوير قطاع المركبات المدنية. جرى إنشاء أحد عشرة شركة لإنتاج قطع الغيار بالآلات التي تم شراؤها (المصدر نفسه: 20).
عزل الرئيس رفسنجاني عند وصوله إلى الحكم الوزير نبوي، وعين مكانه الوزير حسينيان. خطا هذا الأخير خطوة إضافية في إنشاء مجلس استشاري مشترك جمع ممثلي الإدارة الحكومية مع ممثلي قطاع السيارات، وكان له دور حاسم في منع النكوص عن تطوير هذه الصناعة. فتحت سياسات الرئيس رفسنجاني النيو-ليبرالية البلاد أمام الاستيراد، واستحوذت السيارات المستوردة على نصف المبيعات المحلية عام 1992. لكن أزمة العملات الصعبة التي تسببت بها سياسة إباحة الاستيراد، كان لها دور مهم في إعادة الاعتبار لفكرة تطوير الإنتاج المحلي. تم عام 1992 اعتماد سياسة دعم للصناعات الناشئة عبّرت عنها الرسوم الجمركية العالية التي أوقفت استيراد السيارات الأجنبية (المصدر نفسه: 25). جرى على امتداد الحقبة اللاحقة تطوير هذا القطاع، وتولّت شركتان حكوميتان هما إيران خضرو وسايبا إنتاج خمس ماركات مختلفة من السيارات بالتعاون مع شبكة واسعة من منتجي قطع الغيار المحليين قوامها 800 شركة، ومع آلاف المهندسين المتخصّصين في تصميم المركبات، الذين يعملون في مؤسسات الدولة البحثية (المصدر نفسه: 7).
بلغ الإنتاج المحلي السنوي ابتداء من عام 2009، 1.4 مليون مركبة. وبلغ عدد العاملين مباشرة في هذا القطاع 100 ألف، يضاف إليهم ما بين 2 و3 مليون يعملون في الشركات التي أوكلت إليها الشركتان الرئيسيتان إنتاج قطع الغيار. بلغ المحتوى المحلي للسيارات المنتَجة في ذلك التاريخ بالذات 80 % من قيمتها الإجمالية. أمكن في نهاية المطاف توفير 1200 من قطع الغيار اللازمة من المنتجين المحليّين، مقابل 150 قطعة وفرها المنتجون الأجانب (المصدر نفسه: 29).
تولّت الدولة إبرام عقود نقل التكنولوجيا مع الشركات المتعددة الجنسية. ولعبت الشركات الاستشارية في مجال التكنولوجيا (engineering consulting firms) دوراً رئيسياً في عملية النقل هذه. جرى توطين إنتاج قطع الغيار (localization)، باعتماد أسلوب «التصنيع المعكوس للآلات»، أي تفكيك الآلات المشتراة من السوق الدولية وإعادة إنتاجها بطرق مبتكرة. أعطت الدولة ضمانة للمنتجين من خلال الدعم المالي الذي وفّرته لهم، ومن خلال التزامها شراء المنتج بعقود مدتها خمس سنوات (المصدر نفسه: 30).
أظهرت تجربة التصنيع الإيرانية أنها تندرج ضمن نموذج «التصنيع المتأخّر» للقرن العشرين، بوصفها قائمة على «التعلّم من خلال الممارسة» ونشاطات البحث والتطوير. أظهرت أن اكتساب المقدرة التكنولوجية بهذه الطريقة أمر ممكن التحقيق، وأنه في متناول أي بلد يقرّر الانخراط في عملية «تصنيع متأخّر». وأظهرت أن عملية «التصنيع المتأخّر» بدأت في ميدان السلع ذات «التقنيات المتوسّطة»، على شاكلة ما تم في بلدان أخرى.
قرأ الباحث بزرجمهري تجربة التصنيع الإيرانية بوصفها حالة «تصنيع متأخّر» تقودها الدولة (state-led development). رأى في الدولة الإيرانية نموذجاً جديداً للدولة التنموية يتميّز عن مثيله الآسيوي ببعض الخصائص. استخدم المفاهيم التي اعتمدها الباحث الأميركي بيتر إيفانز في توصيف الدولة التنموية الآسيوية، وأهمها مفهوم «الاستقلالية المنغرسة» (embedded autonomy) (إيفانز، 1992). اكتسبت الدولة التنموية الآسيوية استقلاليتها من خلال خلق إدارة «فيبرية» (weberian) تقوم على تنسيب العاملين في القطاع العام على قاعدة الاستحقاق، بواسطة المباريات الوطنية، وتجعل العاملين فيها مقتنعين بأنهم يحققون طموحاتهم بالانخراط في المشروع المشترك، الأمر الذي يجعلهم محصّنين ضد التفتيش عن منافع خاصة (rent seeking). وحققت الإدارة العامة الآسيوية انغراسها في الواقع المحلي من خلال المؤسسات التي تم إنشاؤها والتي جمعت ممثلي البيروقراطية الحكومية وممثلي القطاع الصناعي، وأتاحت تعاون الطرفين لتحقيق مشروع «التصنيع المتأخّر».
لا تعكس الإدارة العامة الإيرانية نموذج الإدارة الفيبرية كما عبّرت عنها التجربة الآسيوية. أي أنها ليست بمجملها إدارة «فيبرية»، بل تحتوي على قطاعات تنطبق عليها صفة الإدارة النهّابة (predatory)، أي التي تعمل بمنطق تحقيق منافع خاصة للعاملين فيها. استطاع القطاع الصناعي أن يتغلّب على هذا الواقع من خلال العلاقات التي نسجها القائمون عليه مع القوى السياسية المختلفة التي اقتنعت بجدوى وأهمية متابعة مشروع «التصنيع المتأخّر». حمت العلاقات السياسية هذه قطاع إنتاج السيارات وجعلته قادراً أن يتصدى للمشاريع والسياسات التي يجرى اقتراحها من حين لآخر، من مثل مشاريع إباحة الاستيراد التي عُرِضت على مجلس النواب أيام الرئيس أحمدي نجاد، والتي كان من شأنها تعريض إنجازات هذا القطاع للخطر وإعادة النظر بما تحقّق (بزرجمهري: 18).
يمكن اعتبار أن الدولة الإيرانية استخدمت كامل مروحة الأدوات التي اعتمدتها الدولة التنموية الآسيوية في تجربة «التصنيع المتأخّر»، من دعم للتعليم والتعليم العالي ونشاطات البحث والتطوير لإقامة «القاعدة المعرفية الوطنية»، واعتمادٍ لأدوات السياسة التجارية، خصوصاً الرسوم الجمركية لحماية المنتجين المحليين، وأدوات سياسة التمويل التي تتيح تحميل الدولة جزءاً من «مخاطر الاستثمار» (risk socialization)، وأدوات حفز «التعلّم التكنولوجي» لجهة تحمّل الدولة مسؤولية توقيع عقود مع شركات أجنبية لإنشاء مشروعات مشتركة أو الاستعانة بخدمات استشاريين أجانب، واستقطاب الكفاءات التكنولوجية الوطنية الموجودة في الخارج.
ويُظهِر التوجّه الذي اعتمدته إيران لجهة نوع التعلّم التكنولوجي المطلوب، اهتمام الدولة بتطوير قطاعات إنتاجية تنتمي إلى مرحلتي «التقليد القائم على النسخ» و«التقليد الذي ينطوي على إبداع»، وأنها عملت في الوقت عينه على تطوير تقنيات تمثّل «إبداعاً أصيلاً»، تجعلها في منافسة مع القوى العظمى في آخر ما بلغته التكنولوجيا.
وهي تشهد منذ عقدين حصول ثورة علمية فيها تعبّر عن نفسها في تضاؤل الفجوة بينها وبين البلدان الصناعية في ميدان التكنولوجيات الناشئة (emerging technologies) وفي الصناعات العسكرية. وقد جاء في تقرير استخباراتي إسرائيلي أن 25 من كل ألف مواطن هم ملتحقون بمؤسسات التعليم العالي، وأن الطلاب الإيرانيين حلّوا في المرتبة الأولى في مباريات دولية في ميدان العلوم، وأن عدد الأبحاث التي تنشرها الجامعات ومراكز الأبحاث يتجاوز ما تنشره إسرائيل (بدير، 2015). ويعني ذلك أن إيران تجاوزت في ميادين عدّة مرحلة «التعلّم بواسطة الممارسة» إلى مرحلة «التعلّم بواسطة البحث العلمي» (learning by research)، وبلغت أعلى سلّم التعلّم التكنولوجي فيها.
وقد أتاح لها تطوير تقنيات التشويش على الاتصالات بواسطة اللايزر وتقنيات الطائرات الخفية وغير ذلك، حماية نفسها من العدوان الخارجي (محسن، 2014).
ساحة النقاش