<!--
<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
فلاش بريس = سعيد الباز
ماذا لو جنّ هذا العالم؟
كثيرا ما ترد بالخاطر هذه الفكرة، ضدّا على كل فلاسفة التاريخ وضدّا على ويلهيم هيجل شخصيا. لقد تم دائما اعتبار أن للتاريخ منطقا يتحكم فيه، عقل كوني محايث للعالم ومسيطر عليه، وأن ما يمر أمامنا من أحداث مهما بدت متناقضة لا تتمثل لنا إلا بوصفها مسارا عقليا صرفا. لا، يا سيدي هيجل أيها البروسي النبيل، لطالما أبهرتنا بصرامتك النظرية، لكن ثمة ما يجعلنا اليوم نستريب من هذا العقل الكوني تحديدا. ماذا لو أصيب بلوثة جنون؟ ماذا لو انتقلت عدواها إلى العالم؟
أسبوع كامل استضافت فيه عاصمة الأنوار قليلا من ظلام الشرق البعيد، شباب من الجيل الثالث أو الرابع من المهاجرين المفتونين بقاعدة اليمن السعيد، يعربدون برشاشاتهم في باريس يقتلون أمام أنظار العالم صحفيين ومواطنين عزل.. شاشات العالم تتبعت الأحداث دقيقة تلو أخرى، كما لو كنا نشاهد حلقة من حلقات تلفزيون الواقع. فرنسا تولول وأوربا خلفها تندب، والعالم خلفها يكاد يشهق بالبكاء، والجميع انخرط في الردح وغابت العقلانية في عاصمة العقلانية. هؤلاء الشباب الممسوسون بدلا من التفكير بعقولهم، صاروا يفكرون برشاشاتهم، هم ضحايا الهويات القاتلة على حد قول أمين معلوف، وهم كذلك ضحايا المشعوذين الجدد الذين استولوا على عقول الشباب في غياب المؤسسات الثقافية المستنيرة. أوربا كذلك وفرنسا على الخصوص تستمران في نفاقهما ولا تتحملان مسؤوليتهما التاريخية والأخلاقية في ما آلت إليه الكثير من البلدان المستعمرة سابقا والمستغلة حاليا، وأجيال من أبناء المهاجرين بناة أوربا الحقيقيين والمدعوين اليوم إلى الاندماج سريعا مع تقبّل الإهانة العنصرية بكل ودّ إكراما لروح الجمهورية الفرنسية المقدسة.
هكذا تمر الأحداث في مجرى وتفسّر في مجرى آخر، مسيرة باريسية حاشدة يلوّح بيديه في الصفوف الأمامية نتانياهو إلى الشرفات التي يهلّل فيها الناس ترحابا بهذا المدافع الشهم عن الحريات، فيما الدم الفلسطيني لم يجف بعد. أسبوع قبل ذلك فجّرت سيارة ملغومة مدخل كلية الشرطة في صنعاء باليمن وأودت بحياة ستين شابا عاطلا كانوا يقدمون طلباتهم لشغل وظائف في سلك الشرطة. وأعلنت «القاعدة» مسؤوليتها عن هذا الحادث الإجرامي كما تبنّت مسؤوليتها عن أحداث باريس، ولم ينتفض العالم أو يحرك ساكنا، واكتفى بنقل الأحداث في وسائل الإعلام بوصفها أحداثا عادية تتعلّق بشعوب دموية متوحّشة وبعيدة عن العالم المتحضر.
منذ شهر فجّرت طالبان باكستان كلية عسكرية كانت تقدم لتلاميذ المدارس دورة تكوينية راح ضحيتها أكثر من مائة طفل وطفلة. ولم يتحرك العالم ولا سارع الناس إلى تنظيم مسيرة مليونية في إسلام آباد، يشارك فيها رؤساء من العالم يلوحون بأيديهم ويندّدون، على أمل أن تستيقظ هذه الشعوب التي نخرها التخلف والجهل من سعار جنونها بما تسمّيه الدفاع عن هويتها المغبونة وما يطولها من تحقير، بدلا من الدفاع عن حقّها في العيش الكريم والانخراط بقوة في حركية العالم والاستفادة من مكتسبات المجتمعات الحداثية، لتنعم بما تكفله من حريات وحقوق هي في الغالب مهدورة فيها.
المأساة هي الأخرى تتمثل وبكل صلافة في القوى الدولية من أوربا وأمريكا اللتين تتركان الجرح الفلسطيني مستمرا في نزيفه، وسوريا والعراق تواجهان جحيمهما وليبيا فوضاها، وعينها على الدبّ الروسي الذي يتوجع من انخفاض الروبل، بعد أن سارع البترول بالانخفاض بقدرة قادر. لكن الرئيس بوتين متمسّك بالعقيدة العسكرية القيصرية التي تقول بألا وجود لروسيا بدون المياه الدافئة المؤدّية إلى المحيطات وبحور العالم، ويواصل تحدّيه رغم الخسائر. فلا أمل في المنظور القريب أن تفلت أوكرانيا من مخالب الدبّ الروسي وتسقط غنيمة في يد الاتحاد الأوربي وكيلا للمتربّص الأمريكي. أمّا الصين فهي صامتة مادام لها ما تبيعه، في حين أن البلدان النفطية ستبقى هانئة ومترهلة ما دام لها ما يُنْهَب ويُسْرَق.
إفريقيا المسكينة، حديقة حيوان العالم، لها أن تتسلى بقليل من الحروب القبلية والأوبئة المفجعة ما دامت مستقبل اقتصاد العالم. ولنا أن نعود إليك، عزيزي هيجل، أنت الذي تقول: «تاريخ العالم محكمة تصدر أحكاما»، هل بإمكاننا أن نقول معك إن نصف العالم مصاب بالنفاق والرّياء والنصف الآخر مصاب بالجنون المطبق؟
رُفِعَتِ الجلسة.
ساحة النقاش