<!--
<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
فلاش بريس = عبد السلام بنعيسي
جريمة شارلي إيبدو والمكارثية الفرنسية
بعد ارتكاب جريمة مثل تلك التي وقعت في مقر مجلة شارلي إيبدو، يفترض في السلطة النابعة من خيار ديمقراطي وتمثل دولة الحق والقانون، فتح تحقيق نزيه، وإلقاء القبض على مرتكبي الجريمة، وسوقهم أمام العدالة ليقول القضاء النزيه كلمته فيهم، ويتوقف الأمر عند هذا الحد.
مواكبة الإعلام للحدث يفترض فيها هي أيضا أن تكون موضوعية ومقيدة بما يقوله القضاء، وبالاتجاه الذي يمضي فيه التحقيق في النازلة، على أساس أن يظل فعل الجريمة مرتبطا تحديدا بالأشخاص المورطين فيها دون زيادة ولا نقصان.
إذا كان التمسك بالحق والقانون في الدولة الديمقراطية يتعين أن يظهر ويتجلى قويا في اللحظات الصعبة والخطيرة التي تمر منها الأمة، فإن واقعة شارلي إيبدو بينت أن القيم النبيلة التي يتطلع الناس إليها ضربت بقسوة في فرنسا، يمكن القول إنها مرغت في الأوحال.
فبين عشية وضحاها صار العرب والمسلمون قاطبة متهمين باقتراف الجريمة، وأضحت الجالية المسلمة المقيمة بفرنسا هدفا مباشرا للإعلام، وتوجهت إليها سهام النقد والاتهام من كل الجهات. فما دمت مسلما ومقيما في فرنسا فأنت مشارك في الجريمة، إنك متطرف وإرهابي ومجرم، ولا سبيل أمامك إلا تحسس رقبتك التي قد تجزها المقصلة في أي وقت وفي أي حين.
يبين هذا التعامل أن مسلمي فرنسا التي تتغنى بالديمقراطية ليسوا مواطنين كاملي المواطنة حتى إن كانوا يحملون الجنسية الفرنسية. بسبب دينهم، فإنهم يعيشون مواطنة من الدرجة الثانية. الفرنسي المسلم ليس إنسانا بريئا ومحترما، ويُنظر إليه على أساس أنه يتقيد بالقانون، ويقوم بعمله مساهما في دورة الإنتاج طبقا للقواعد المعمول بها من طرف كل الفرنسيين، الفرنسي المسلم مشكوك في براءته، وفي تقيده بالقانون، وهو موضع شبهة بشكل مستمر.
وفقا لهذا المنطق، ففرنسا ليست دولة علمانية تحترم أديان جميع مواطنيها ولا تميز بينهم بناء على شريعتهم الدينية، كما يروج لذلك إعلامها وينص عليه دستورها. باريس تضع المواطن الفرنسي صاحب الديانة الإسلامية في درجة أقل بكثير من نظيره صاحب الديانات الأخرى، إنها تمارس سلوكا تمييزيا يمكن تصنيفه في خانة التصرفات العنصرية.
إن كان الذين ارتكبوا جريمة شارلي إيبدو المدانة بكل المعايير مسلمين، فإنهم لم يستشيروا مسلمي فرنسا جميعهم قبل اقترافهم لجريمتهم النكراء تلك، لقد قاموا بذلك من تلقاء أنفسهم. إذا فسروا الجريمة بأنها ثأر للنبي محمد (ص)، فهذا تفسير يخصهم لوحدهم، ولا يوافق عليه الباقي من المسلمين.
فلماذا التصرف إعلاميا وحكوميا مع المسلمين الفرنسيين كأنهم شاركوا كلهم في اقتراف الجريمة وقتلوا بأيديهم الصحافيين ورجال الأمن والناس الأبرياء؟ لماذا يتم العمل في باريس على تعميم فعل ارتكاب الجريمة على كل العرب والمسلمين؟
لنفترض أن الذين قاموا بجريمة شارلي إيبدو كانوا من جنسية إسرائيلية، هل كانت وسائل الإعلام الفرنسية ومعها السلطات ستقوم بتعميم الاتهام على كل الإسرائيليين المقيمين بالديار الفرنسية؟ ألم تكن السلطات ستبادر على الفور لوضع الجريمة في سياقها الفردي، وتتحرك بحزم لجهة عدم سحبها على الدولة التي يحمل المتهمون بارتكاب الجريمة جنسيتها؟؟؟
في التفجيرات التي نفذتها جماعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة الإرهابي في قطارات مدريد عام 2004، حرصت السلطات الإسبانية ومعها وسائل إعلامها على حصر الجريمة في الأشخاص الذين ارتكبوها تحديدا، ورغم أنهم كانوا للأسف كلهم مغاربة، فإن مدريد لم تقم بشن حملة دعائية ضد الجالية المغربية المقيمة في إسبانيا لتربط بينها وبين من نفذوا تلك التفجيرات. فلماذا يقع العكس اليوم في فرنسا؟؟
في الدول الديمقراطية يفترض أن تشكل مثل هذه الجرائم الكبيرة فرصة لإثارة النقاش العمومي بشكل معمق، ومن وجهات نظر متباينة حول الأسباب والدوافع التي تكون ثاوية خلف ما وقع، وتتعدد الآراء والاجتهادات، ويقع الاختلاف والتباين وتناول الموضوع من زوايا متعددة.
ولكن في فرنسا تم التعاطي مع الأمر كما جرى في أمريكا سنة 2001 حيث وقع اختزال المشكل في الإسلام والمسلمين، وتم تفقير النقاش وتسطيحه، وشحن الرأي العام وتحريضه على كره العرب والمسلمين والحقد عليهم، ونتج عن ذلك غزو أفغانستان، والعراق لاحقا، وكانت عواقب غزو البلدين وخيمة وكارثية على أمريكا والعالم، وما زلنا نجر ذيول عواقبها إلى يومنا هذا.
ويبدو أن السلطات الفرنسية تسير في نفس الاتجاه، فواضح أنها هي أيضا لا تريد أن تسمع غير صوت واحد ممثلا في إدانة العرب والمسلمين لأن من ارتكبوا الجريمة مسلمين في ديانتهم وعرب في أصولهم، ولا يهم إن كانوا يحملون الجنسية الفرنسية. لا تقبل السلطات الفرنسية أي كلمة من الذي قد يتساءل عن دور السياسة التعليمية والتربوية والاجتماعية والإعلامية، وسياسة فرنسا الخارجية في إنتاج الإرهاب فوق أراضيها.
كل من يريد طرح مثل هذه التساؤلات يتهم مباشرة بأنه يبرر الإرهاب ويجد له الأعذار وقد يتعرض للاعتداء إن عبر عن وجهة نظر خارجة عن الخطاب السائد حاليا. أليست هذه مكارثية، ولكن بزي فرنسي؟؟؟
ساحة النقاش