المساء = عبد الله الدامون
الكسكس والبسْطيلة.. في المطبخ والسياسة
العدد :2567 - 30/12/2014
يقال إن الطعام هو تعبير صادق عن ثقافات الشعوب وانعكاس واضح للمزاح العام؛ ففي اليابان، مثلا، هناك أكلة شهيرة يتم فيها تقديم أجزاء من سمكة حية في مطاعم راقية.. يدخل الزبون إلى مطعم فيقدمون إليه سمكة جميلة في حوض زجاجي صغير، ليس من أجل تأملها، بل لأكلها.
يقطع النادل قطعة من السمكة ويقدمها إلى الزبون ثم يعيد السمكة الحية إلى الحوض فـ»يستمتع» الزبون بأكل قطعة من نفس السمكة التي تسبح أمامه.. هذا الأمر ربما يبدو عاديا في بلاد كانت رائدة في تقديم القرابين، وهي أول بلاد صدرت إلى العالم النموذج الانتحاري خلال الحرب العالمية الثانية حين صار مصطلح «الكاميكاز» منتشرا في كل العالم، لذلك لا أحد في اليابان يعتبر أكلة السمكة الحية عملية وحشية.
في إسبانيا، يستمتع الناس بمصارعة الثيران بطريقة وحشية ثم يصفقون للقاتل، وأيضا لشهامة الثور القتيل الذي يتحول لحمه إلى أكلة لذيذة على الموائد الراقية. هذا يذكرنا بماضي محاكم التفتيش والدماء الغزيرة التي أهرقها القساوسة والرهبان في صفوف الأندلسيين، حيث كانوا يقتلونهم أو يحرقونهم ثم يستمتعون بما تركوه من غذاء وثروات.
في الصين، يأكلون كل شيء يتحرك لأن شعبا يصل تعداده إلى قرابة ملياري نسمة، يجب أن يأكل لا أن يختار. وفي أمريكا يأكل الناس وقوفا وجبات سريعة بكثير من اللحم، لأنه لا وقت لدى أقوى شعب في العالم كي يجلس.. إنه في حركة دائمة للبحث عن القوت والثروة في كل مكان، لذلك فإن أمريكا تقتل لتأكل، وتأكل لتقتل.
في مناطق أخرى كثيرة من العالم، لا ينفصل الطبخ عن تاريخ الشعوب وثقافتها وطبيعتها ورؤيتها للعالم. وفي مناسبات كثيرة، صدرت كتب راقية عن الطبخ كفن رفيع، ومن بين البرامج التلفزيونية الأكثر نجاحا في العالم حاليا توجد برامج ومسابقات طبخ.
عندنا في المغرب، يعتبر الكسكس هو الأكلة الأكثر تعبيرا عن هويتنا المطبخية والمزاجية، ولو أن المسؤولين المغاربة أنصفوه لأفردوا له فقرة خاصة في الدستور أو وضعوا له جملة ما في النشيد الوطني.
لدينا أيضا البسطيلة، وهي أكلة إضافية يشتهر بها المغاربة، لكنها أكلة راقية وطبقية، وعادة ما يتم تقديمها في الأعراس والمناسبات، عكس الكسكس الذي يتحول أحيانا إلى أكلة شعبية جدا حين يتحول إلى «صيْكوك» بعد أن يُمزج باللبن ويباع في الأسواق الشعبية وحواف الطرقات بسعر التراب.
لكن ما يميز كلتا الأكلتين، الكسكس والبسطيلة، هو احتواؤهما لجميع المتناقضات، أو جمعهما لما لا يجتمع، لأنهما الأكلتان الوحيدتان اللتان يجتمع فيهما ما يتفرق في غيرهما.
الكسكس والبسطيلة مرآة لثقافتنا ومزاجنا.. في الكسكس نخلط ما لا يختلط، المرق المالح والزبيب الحلو واللوز المحايد والبصل الذي يتحول من مادة مقرفة إلى ما يشبه السائل الحلو اللذيذ..
نصنع الكسكس بأكثر من شكل، فنجعل منه كسكسا بـ»سبع خضاري»، كما يمكن أن نجمع فيه لحم أكثر من حيوان، البقر والغنم والماعز والجمل، أو نضع في وسطه لحم أكثر من طير، الدجاج والحجل والحمام والديك الرومي، وهناك مناطق في المغرب لا يكتفي سكانها بكل ذلك، فيضيفون السمك أيضا.
أكلتنا الوطنية الأخرى هي البسطيلة؛ وهي أكلة نخبوية، لذلك يتذوقها الناس في الأعراس والحفلات، فحين يريد مغربي أن يحتفي بضيوفه يقدم إليهم الكسكس، وحين يريد رفع سقف الترحاب يقدم غليهم البسطيلة.
في البسطيلة تجتمع كل المتناقضات، وتحت قشرتها السميكة تتآلف اللحوم على أشكالها، الدجاج والسمك ولحم الغنم وما شاكله، ويمكن للسان أن يتذوق في اللقمة الواحدة الحلاوة والملوحة، وأن تجمع اليد الواحدة في اللقمة الواحدة ما بين الحلاوة والملوحة ولحم الطير والبقر والسمك وأشياء كثيرة أخرى.
الأجانب الذين يتذوقون البسطيلة المغربية عادة ما يتساءلون: كيف نجمع في الأكلة الواحدة كل هذه المتناقضات؟ وهي متناقضات من فرط ما طوّعناها فإنها تحولت إلى أشياء أليفة، بل ولذيذة، وأكثر من هذا فإنها متناقضات ترسم معالم طبيعتنا وهويتنا وثقافتنا ومزاجنا.
تناقضاتنا العجيبة ليست في المطبخ فقط، فانظروا إلى الحكومة كيف جمعنا فيها ما لا يجتمع.. الإسلاميين والشيوعيين واليساريين واليمينيين والصادقين والكذابين والأفاقين..!
نحن وحدنا في العالم الذين نصف زعيم حزب بكونه لصا ثم نتحالف معه ونجعل منه عمودا فقريا في «الأكلة» الحكومية، ونجمع في حكومة واحدة ما لا يمكن أن يجتمع في كل حكومات العالم!
«الكسكس والبسطيلة» شعارنا في كل شيء في حياتنا.. اُنظروا إلى انتخاباتنا كيف تجتمع تحت قشرتها كل أشكال الحيوانات والقشريات، فتبدو شيئا طبيعيا جدا! اُنظروا إلى برلماننا كيف يبدو مطبوخا بـ»سبع خضاري» مثل قصعة كسكس متجانسة! اُنظروا إلى كل شيء فينا وستجدوننا شعب التناقضات بامتياز!
ساحة النقاش