فلاش بريس - المصطفى مورادي
متاهات النقاش الوطني حول اللغات
لكل من يريد فحص المسألة اللغوية بالمغرب، بعيدا عن الاستقطابات الإيديولوجية التي ماتزال ترهن هذا النقاش، لابد أن يتعرض لتيه كبير، أشبه بمتاهات «ديدال» في أسطورة «إيكارد» اليونانية. وهذه المتاهة غالبا ما لا يدخلها «المطمئنون» لكون لغتهم هي لغة البدايات والنهايات، سواء في معسكر المدافعين عن اللغة العربية أو الأمازيغية أو الفرنسية أو «اللغة الثالثة»، لأن العماء الإيديولوجي يجعلهم بعيدين عن نور التناول العلمي. ذلك أن كل الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن لغة ما، إلا ويكررون اللازمة ذاتها التي يقولها المدافعون عن اللغات الأخرى، وهي وجود مؤامرة يحيكها الآخرون، كل الآخرين، ضد لغتهم، الأمر الذي يرهن النقاش حول المسألة اللغوية بالمغرب لحوارات الطرشان وإيماءات العميان، مع أن الوضع القائم لا يجعل طرفا دون غيره مسؤولا عن الوضع الصعب الذي تعيشه لغة ما، وإنما المسؤول هو البنية لا الأفراد، بنية معقدة شكلها التاريخ والدين والديمغرافيا والجغرافيا والسياسة.
فبقدر ما خدم الخطاب الرسمي المغربي اللغة العربية، أساء لها أيضا عندما فرض تعريبا شاملا لها في التعليم الثانوي، وعجز عن إتمام المهمة في التعليم الجامعي، كما حدث في كل الأمم التي تشبهنا كثيرا في تاريخنا الحديث، ثم بقدر ما خدم الخطاب الحقوقي اللغة الأمازيغية، فإنه أيضا أساء إليها عندما أضحت هذه المطالب مطية لظهور بعض الخطابات التي تناقض كل أشكال التعايش والاختلاف، وهذا يحول دون أن تتوغل المقاربات العلمية للغة الأمازيغية لتحل محلها المقاربات الشعبوية، وأيضا بقدر ما خدم التيار الفرنكفوني اللغة الفرنسية وحافظ عليها من موجة التوظيف السياسوي للعربية في السبعينات والثمانينات من طرف النظام، أساء لها عندما فصل اللغة الفرنسية عن الثقافة والفكر الفرنسيين الإنسانيين، وحولها إلى مطية لاحتقار مجموعة من القيم التي يؤمن بها عموم المغاربة..
من هنا وقبل الحديث عن وضع اللغات في نظامنا التعليمي، ينبغي دوما استحضار أن خلف كل لغة من اللغات الموجودة في المغرب، هناك «جيش» يسيئون فهم المشكلة في أبعادها العلمية، وينخرطون بمناسبة أو بدونها، في حروب تنعكس على طريقة تدريسها، والنتيجة هي تحول اللغات من وسيلة للتعلم وتنمية الكفايات بكل أنوعها، إلى عائق في التعلم، حيث لا يقدر عموم التلاميذ والطلاب المغاربة على تجاوز عتبة تعلم اللغة إلى عتبة التعلم بها.
فالحديث عن «اللغة الأم» أو«لغة المدرسة» أو«لغة الجامعة»، هو حديث يضعنا في معادلة صعبة، يمكن أن تكون مدخلا لإجابة عن سؤال: بماذا نفسر وضعية الإعاقة التي يعيشها عموم المتعلمين، تلاميذ وطلبة، تجاه اللغات الحية التي يدرسون بها العلوم والمعارف؟
فعندما نتكلم عن «اللغة الأم»، فلأن كل نظريات التعلم في هذا الباب تؤكد على أهمية التعلم باللغة الأم في المستويات التعليمية الأولى.. إذن هل «اللغة الأم» في ميدلت وخنيفرة هي «اللغة الأم» في «الحسيمة والناظور»؟ هل «اللغة الأم» في آسفي والجديدة هي «اللغة الأم» في طانطان وبوجدور؟ ثم ما هو تأثير عدم احترام الوزارة لنسبة 30 في المائة، والتي نص عليها الميثاق الوطني للتربية والتكوين للبرامج المحلية والجهوية على العلاقة بين «اللغة الأم» وباقي اللغات التي سيتم فرض تدريسها؟ لماذا تعجز 12 سنة من تعلم لغة ما عن جعل المتعلم مؤهلا للتعلم بها في الجامعة؟ أي ماذا يعني أن يعجز طالب متوجه للجامعة عن ملء استمارة باللغة الفرنسية رغم أنه «درسها» 12 سنة؟ ماذا يعني أن يعجز تلميذ يجتاز امتحان الباكلوريا عن التفريق في ورقة الامتحان بين الاسم العائلي والشخصي باللغة الفرنسية؟
ونحن نتحدث عن الوضع اللغوي في نظامنا التعليمي، يجب أولا أن نحسم في قضايا كثيرة قبل الانتقال إلى الحديث عن القضايا البيداغوجية المتربطة به.. ذلك أن هذا النظام تتنازعه ثلاث لغات بثلاثة حروف وبثلاثة أنماط من التفكير تصل أحيانا حد التناقض، وهذه الوضعية هي التي خلقت مشكلة لواضعي السياسات التعليمية، ولم يتم الوعي بمقتضياتها، فتعليم طفل في السنة السنة الأولى ثلاثة حروف في سنة واحدة، هو أمر لازلنا حتى الآن لا نملك الشجاعة للحديث عنه علميا على أنه أمر غير ممكن بل ومستحيل..، وهذا ما يعطي الكثير من المصداقية للأصوات المنادية بضرورة البدء الفوري في تطبيق الجهوية المتقدمة، والتي يمكنها أن تساهم نسبيا في حل هذه المشكلة التي تخلقها العلاقة بين «اللغة الأم» و«المدرسة».. وهذا ما يفسر حديث المجلس الأعلى للتعليم في تقريره الأول، عن «أحادية العرض التربوي وافتقاره للتنوع مع الخصوصيات المحلية».
ساحة النقاش