فلاش بريس = محمد الأشهب
نبرة جديدة
تحدث رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران بنبرة جديدة أمام اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لحزبه «العدالة والتنمية». محورها المساهمة في الإصلاح بتعاون مع الأطراف كافة. على رغم انصراف البديهيات إلى شركائه في الائتلاف الحكومي، بمنطق التضامن والإيثار، فإن تأكيده على «محاولة الخصوم إرباك» المسار الذي دخلته البلاد، على خلفية حيازة «العدالة والتنمية» صدارة المشهد الحزبي، وتشكيل الحكومة، ينم عن قناعة بأن الاستئثار بالمواقف ليس حلا واقعيا.
منافسو عبد الإله بنكيران رددوا على امتداد أكثر من نصف الولاية الراهنة مقولات حول ما يعتبرونه «تحكما» وذهب الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي إدريس لشكر إلى اتهام الحزب الإسلامي بنوع من «السيطرة» على المشهد السياسي، فيما كان حميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال أكثر انتقادا لشريكه السابق في الحكومة، قبل الانعطاف نحو المعارضة. ولئن كانت هذه السجالات ذات الخلفيات السياسية مقبولة في نطاق المنافسة المشروعة، فإن النبرة الجديدة لرئيس الحكومة تفتح قوسين أمام التحول الممكن في التعاطي والقضايا المحورية التي لا تحتمل خلافات جوهرية.
كي يترجم رئيس الحكومة هذا التوجه إلى أفعال ملموسة، يتعين الإقدام على مبادرات تكرس الانفتاح على المعارضة، ذلك أنه أثناء النقاش حول إصلاح نظام المقاصة وتقويم اعوجاج ملف التقاعد، وطرح إشكاليات الإقلاع الاقتصادي وتفعيل الحوار الاجتماعي برزت الدعوة إلى قيام حوار وطني، ضمن الإبقاء على مواقع الأطراف كافة، فالمعارضة ليس مطلوبا منها مهادنة الحكومة أو السكوت عما تعتبره هفوات وتراجعات، كما الحكومة ليست في وارد تنفيذ برامج المعارضة، بقوة واقع التوازن السياسي. وبين الحالتين هناك سقف الوفاق الذي يتحكم في تدبير القضايا المحورية الكبرى. وإذا كانت الغالبية والمعارضة معا يهتديان إلى حد ما، بالاستشارات التي يقدمها المجلس الاقتصادي والاجتماعي، أو باجتهادات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، فلا أقل من أن يهتديا قبل ذلك بخلاصات حوار ثنائي بين المعارضة والحكومة، في حدود الممكن، لا المستحيل.
اللافت في التجربة السياسية التي تدخل عامها الرابع أن حدة الخطاب تراجعت بعض الشيء، من ذلك أن المعارضة تقول بلسان صريح أنها غير معنية بإطاحة الحكومة التي يجب أن تكمل ولايتها وتستنفد مسؤولياتها، فيما الحكومة ترى أن الدور الدستوري للمعارضة لا يعني القطيعة وتصعيد المواجهة على نغمة الاستئثار بالحلول والإجراءات، وثمة سابقة سجلت في هذا الإطار تهم تصويت كتل المعارضة في مجلس المستشارين على مشروع الموازنة المالية، في ضوء إدخال تعديلات لم ترفضها السلطة التنفيذية.
ما يعزز هذا التوجه الإيجابي، في نطاق الإبقاء على دور المعارضة والتزامات الغالبية الحكومية، أن التفهم الذي أبدت الأخيرة إزاء التعديلات التي اقترحتها المعارضة، في وسعه أن يتمدد على نطاق أوسع. والأقرب إلى ذلك أن الحوار الاجتماعي بين الحكومة والمركزيات النقابية ورجال الأعمال، يمكن أن يشكل المدخل الطبيعي لهذا الانتقال، خصوصا وأنه يهم مفاصل اجتماعية، وإن كانت ليست بعيدة عن مجالات التدبير السياسي.
لا يغيب عن الأذهان أن بعض أشواط ونتائج الحوار الاجتماعي في تسعينيات القرن الماضي، مهدت الطريق أمام التناوب الوفاقي، وليس مستبعدا، في حال انطلاقه مجددا على أرضية صلبة وواقعية يطبعها التفهم والتفاهم أن تعبد الطريق أمام وفاق من نوع آخر، يبقي على الأدوار السياسية، ويساعد في تأهيل وتطوير السلم الاجتماعي الذي يعتبر ركيزة الاستقرار. وإذ يقول رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران إن الإسهام يجب أن يكون جماعيا لإنجاح المرحلة، فالأمر يوحي بالأسبقية التي يرتديها الحوار الاجتماعي، بخاصة أمام تراجع الإكراهات التي تخص كلفة توريد النفط، كونها تثقل ميزانية البلاد.
أبعد من هذه الضرورة الاقتصادية والاجتماعية أن البلاد على موعد مع تحول نوعي في تدبير الديمقراطية المحلية، ونعني به تكريس نظام الجهوية المتقدمة، وقد سبق للملك محمد السادس أن دعا في خطاب السادس من نونبر الماضي إلى إقامة حوار وطني حول الجهوية، والكرة هنا في ملعب الحكومة التي في إمكانها الدعوة لالتئام هذا الحوار، بموازاة الإعداد الجيد للاستحقاقات الانتخابية، حتى وإن بدا أن لهجة بعض الفاعليات الحزبية تميل إلى استباق النتائج.
الجهوية، خيار اقتصادي واجتماعي وسياسي، لا يشمل تخفيف الأعباء عن المركز وتفويت بعضها المرتبط بتدبير الشؤون المحلية إلى الهامش فقط، ولكنه يهم الانتقال ببنيات الدولة من مرحلة إلى أخرى، أقله التخفيف من حدة الفوارق بين الفئات والمجالات، واستيعاب النخب والكفاءات الجديدة في تحمل المسؤولية، أي بلورة المضمون المتقدم لمفهوم الديمقراطية التشاركية، ومن شأن رهان وطني بهذا المستوى أن يعزز أفق الحوار الوطني، كما في التعاطي وإصلاح منظومة التعليم أو القضاء أو غيرها من الأسبقيات.
لا المعارضة تمكنت من إلغاء أو حشر الحكومة في الزاوية، ولا الحكومة بسطت نفوذها السياسي وفق منطق «ديكتاتورية الغالبية وقبول الأقلية» وبالتالي فالنبرة الجديدة تشي في أقل تقدير بالسعي إلى إنضاج ظروف معطيات جديدة، تعزز المسلك الذي ينحو المغرب في اتجاهه، عبر النزوع إلى السير بتؤدة وروية على طريق التغيير الهادئ، ولا عذر لأحد في إخلاف مواعيد واستحقاقات بهذه الأهمية.
ساحة النقاش