فلاش بريس= رشيد نيني
أصدقاؤنا الأمريكيون
لم يحمل الخطاب الملكي بمناسبة المسيرة الخضراء رسائل واضحة لا لبس فيها إلى القادة بالجارة الجزائر فقط، ولكن حملها أيضا إلى المنتظم الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الرسمي للمفاوضات بين أطراف النزاع حول ملف الصحراء.
وكانت الإشارة إلى إطناب الأمريكيين في الإعجاب بالنموذج المغربي في محاربة الإرهاب والتطرف من جهة، وإبدائهم موقفا غامضا من حق المغرب المشروع على أراضيه، إشارة ذكية وعلى قدر عال من الجرأة السياسية والمسؤولية القومية.
فالموقف الأمريكي في ما يخص قضية الصحراء ظل دائما موسوما بلغة معسولة في الظاهر، غير أنه عندما يتعلق الأمر بالفعل تفاجئ الإدارة الأمريكية حليفها الاستراتيجي بمواقف تبعث على الريبة.
وعلى عادة كل سفراء الولايات المتحدة الأمريكية الذين يأتون إلى المغرب، لم يترك السفير الجديد فرصة إلا وأشاد بمتانة العلاقات بين الرباط وواشنطن، مشددا على أن الموقف الأمريكي من قضية الصحراء لم يتغير ولازال كما هو. ونحن نريد من سعادة السفير أن يشرح لنا ما هو هذا الموقف بالضبط، لأن كل التحركات التي تقوم بها واشنطن بخصوص هذا الملف تصب في مصلحة الجزائر.
ورغم إطناب السفير الأمريكي في إظهار مشاعر المحبة والمودة للمغرب وملكه، إلى درجة إعداد نسخة من تسجيلات موسيقى ريفية عريقة سجلها الكاتب الأمريكي الراحل بول بولز لمكتبة الكونغريس الأمريكي، من أجل إهدائها للملك، فإن قصة الحب الحقيقية التي تعيشها الإدارة الأمريكية، ليست مع المغرب وإنما مع الجزائر تحديدا، ومبعثها ليس المودة وحسن الضيافة و«كعب غزال»، وإنما أنابيب الغاز والبترول، خصوصا بعد تصريح الرئيس الأمريكي حول تخلي أمريكا عن النفط الخليجي بنسبة 75 بالمائة مع حلول سنة 2020، والاتجاه نحو النفط الأفريقي، وخصوصا الجزائري لكي يصل استيراد أمريكا للنفط الأفريقي نسبة 25 بالمائة من مجموع احتياجاتها الطاقية عوض 15 بالمائة كما هو عليه الحال اليوم.
أمريكا أول شريك اقتصادي للجزائر بفضل صادرات البترول التي تمثل 95 بالمائة من مجمل صادرات الجزائر إلى أمريكا، والجزائر لوحدها تمثل 71 بالمائة من حجم المبادلات الأمريكية في المنطقة المغاربية.
وهذا طبيعي، فما يحرك الإدارة الأمريكية هو مصلحة الأمريكيين أولا وأخيرا، أما العواطف الجياشة وعبارات المودة والحب ونظم قصائد الغزل في المقترح المغربي حول الحكم الذاتي في الصحراء، فهذا ليس سوى معجم مستهلك يجد تفسيره في البلاغة أكثر مما يجده في الدبلوماسية.
فمتى وكيف بدأت خيوط قصة هذا الحب الكبير بين واشنطن وقصر المرادية وراء ظهر المغرب؟
هناك أربعة أسماء يجب تذكرها جيدا، لعبت دورا حاسما في هذا العشق الأمريكي الجزائري المتبادل: «روبير أليسون»، «جيمس بيكر»، «ديك تشيني» و«بيني ستينميتز».
وكل من خرج من صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة الأمريكية ووصل إلى البيت الأبيض لكي يحكم، عليه أن يستمع بخشوع إلى نصائح هؤلاء الأربعة الذين يملكون نفوذا قويا داخل مؤسسة الإدارة الأمريكية ودواليب اتخاذ القرار و«لوبيات» الضغط، باختصار لوبي صناعة الأسلحة ولوبي النفط.
وليس سرا أن كل التقارير السرية حول الطاقة التي تصل إلى مكتب الرئيس الأمريكي، تشدد على حماية وتقوية مصالح أمريكا مع الجزائر، وخصوصا على مستوى استيراد الغاز والبترول، اللذين يعتبران عصب الاقتصاد الأمريكي. فأمريكا تعتبر من بين أكبر المستثمرين داخل الجزائر في حقول الطاقة.
لنأخذ مثلا السيد «روبير أليسون»، فهو أمريكي يوجد على رأس شركة «أناداركو»، ويوجد على رأس مجموعة للتنقيب عن البترول في حقول الصحراء الجزائرية، وهو أيضا إحدى الشخصيات المؤثرة داخل الإدارة الأمريكية.
إنه لمن الغباء الاعتقاد بأن للجزائر وزارة للخارجية مثل تلك التي توجد لدى كل الدول العربية. فوزارة الخارجية الحقيقية للجزائر هي شركة «صوناتراك» للصناعات البترولية التي تتحكم فيها الدولة الجزائرية، أي جنرالاتها المثقلون بالنياشين وبالحسابات البنكية السمينة. وعائدات هذه الشركة العملاقة مخصصة، تقريبا بالكامل، للضغط على اقتصاديات الدول أو مقايضة مواقفها الجامدة من البوليساريو بمواقف أكثر ليونة.
ولو خصصت الحكومة الجزائرية جزءا بسيطا من عائدات هذه الشركة الخرافية لتنمية الجزائر وخلق فرص الشغل، لما رأينا في وسائل الإعلام، شرطة الدول الأوربية وهي تعتقل مهاجرين سريين جزائريين يحاولون دخول أوربا هربا من البطالة في الجزائر.
سعادة السفير الأمريكي الجديد، الذي يتغزل في الصداقة الكبيرة التي تجمع أمريكا بالمغرب، يعرف أكثر من غيره أن مواطنه «جيمس بيكر»، كاتب الدولة الأمريكي الأسبق، يحتفظ إلى اليوم بمنصبه ككبير للمستشارين في شركة «صوناتراك» الجزائرية. وليس هذا فحسب، بل لجيمس بيكر، بشراكة مع الشركة النرويجية «ستاتويل هيدرو»، خط مباشر لبيع منتجات الشركة الغازية في السوق الأمريكية ولمدة عشرين سنة، خصوصا في الشرق الأمريكي حيث يكثر الطلب على الغاز الطبيعي.
وقصة الحب العاصف بين الأمريكيين والجزائريين لا تقف عند هذا الحد، بل ستتوطد عراها سنة 1997 عندما سينشئ العشيقان شركة اسمها «صوناتراك بيتروليوم كوربورايشن»، وهي شركة أمريكية مقرها «ديلاوار» بالولايات المتحدة الأمريكية.
الآن وبفضل هذا الذراع الاقتصادي الضارب، أصبحت «صوناتراك» الجزائرية تمتلك 16 مليون حصة من المجموعة الطاقية الأخطبوطية الأمريكية «ديك إنيرجي» المتواجدة بكارولينا الشمالية.
ولا تكتفي «صوناتراك» بهذه الشراكة الأمريكية المربحة، بل تمتد أذرعها لكي تمتلك 51 في المائة من شركة «براون أند روث كوندور»، وهي شركة بترولية تمتلك فيها شركة «هاليبيرتون» 49 في المائة من الأسهم. وهذه الشركة، ويا للمصادفة العجيبة، يوجد ضمن لائحة المساهمين فيها اسم «ديك تشيني»، نائب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، كما يشغل فيها «جيمس بيكر»، المبعوث الخاص السابق للأمين العام للأمم المتحدة في الصحراء، منصب مسير إداري. هل رأيتم الآن كيف تختلط رائحة البترول برائحة الطبخة الأمريكية لملف الصحراء؟
وإذا كان المغرب يفتخر دائما بالنفوذ القوي الذي يمارسه «اللوبي» اليهودي الموالي له، والذي يضم آلاف اليهود المغاربة الذين تحولوا إلى مليارديرات وسيناتورات في أمريكا وإسرائيل، فإن الجزائر لديها أيضا طريقتها الخاصة في استمالة اليهود المقربين من أقوى وزراء الحكومة الإسرائيلية الذين لديهم كلمتهم المسموعة في ردهات البيت الأبيض.
ويكفي في هذا الإطار أن نعرف أن شركة المناولة «باتمان ليتوين» الأمريكية، التي حصلت على صفقة تدبير حقل «رورد النوس»، 2200 كلم جنوب الجزائر، توجد في ملكية ملياردير إسرائيلي اسمه «بيني ستينميتز». والعقد الذي وقعته شركة «صوناتراك» الجزائرية، عبر شركة «بي إر سي» التي تملك 51 في المائة من أسهمها، يقدر بحوالي 3.5 مليارات دولار. ومدير شركة «باتمان ليتوين» مستقر في إسرائيل، ويشتغل في تجارة الأحجار الكريمة، وهو أحد المقربين من «ليبرمان» صقر إسرائيل المتطرف.
وإذا كان السفير الأمريكي بالرباط يتغزل في اتفاقية التبادل الحر، التي وقعها المغرب مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعتبر بنودها في صالح الأمريكيين أكثر مما هي في صالح الاقتصاد المغربي، فإن إلقاء نظرة سريعة على حجم المبادلات الجزائرية الأمريكية يعطينا فكرة واضحة عن دخول قصة الحب بين البلدين مراحل متقدمة، تجاوزت المقدمات المعروفة في علاقة حب عابرة.
وبالإضافة إلى تشجيع كل السفراء الأمريكيين في الجزائر منذ «كاميون هوم» إلى السفير الحالي «دافيد بيرس»، لغزو الشركات الأمريكية للسوق الجزائرية من (كوكاكولا، إ.ب.إم، هوني ويل، جينرال إليكتريك، لوسن تيكنولوجي...)، مستغلين اتجاه الجزائر نحو اقتصاد السوق، هناك تشجيع آخر تقوده شركات صناعة الأسلحة لإقناع الجنرالات باقتناء الأسلحة الأمريكية المتطورة.
وهكذا، أبرمت الحكومة الجزائرية صفقات ضخمة منذ التسعينيات لاقتناء أسلحة وطائرات أمريكية تكلفت الحكومة الأمريكية بتدريب الجنود الجزائريين على استعمالها.
طبعا، كل هذه التفاصيل يعرفها «كريستوفر روس»، المبعوث الأمريكي غير المحايد في ملف الصحراء، والذي يرعى المفاوضات بين المغرب والبوليساريو. ألم يكن سعادته سفيرا للولايات المتحدة الأمريكية في الجزائر خلال هذه الفترة، التي نسجت فيها واشنطن والجزائر تفاصيل قصة هذا الحب العابر للقارات؟
المصالح، ولا شيء آخر غير المصالح يحكم علاقة أمريكا بالعالم، وعلى الذين تدغدغهم قصائد غزل السفراء الأمريكيين المتعاقبين على الرباط أن يستفيقوا من سكرتهم اللذيذة، ويلقوا نظرة نحو جارهم الغارق في الحب الأمريكي حتى الأذنين، والذي نتج عنه زواج مصلحة وراء ظهورهم.
لعلهم يفهمون أخيرا أن أمريكا الصديقة والرقيقة التي يريد أن يبيعنا إياها سعادة السفير، لا توجد سوى في مخيلته الخصبة.
لأن أمريكا الحقيقية توجد في أرقام المعاملات وأنابيب الغاز والبترول. فبهذه المواد الأولية تتحرك مفاصل العملاق الأمريكي، وليس بقصائد الغزل وكؤوس الشاي و«كعب غزال».
ساحة النقاش