فلاش بريس = محمد الأشهب
لاءات الأمة المغربية
لنتمعن في دلالات اللاءات المبدئية التي حتمها منطق انسجام المواقف وعمق الرؤية وسداد التوجهات، فهناك أولا رفض أي محاولة لتغيير طبيعة النزاع، ذي الخلفية الجيوسياسية، في صراع لم يتوقف بين المغرب صاحب الشرعية والحقوق التاريخية والقانونية، والجزائر الراغبة في بسط الهيمنة، ومحاولة إقامة كيان تضع عليه «العلم الجزائري» بمزاعم الدفاع عن تقرير المصير. وما لم يتم التركيز على البعد الإقليمي للنزاع، تبقى كل الجهود في طريقها للاصطدام بالباب المغلق. فقد بدأ التوتر مغربيا ـ جزائريا، ولا سبيل لإنهائه إلا عبر الحل الثنائي. وحين يقول الملك محمد السادس أن المسألة لا تتعلق بتصفية الاستعمار، فإنما يحيل على التراث الغني للمفاوضات التي خاضها المغرب مع المحتل الإسباني والتي بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي. كما عززتها المقاربة الاستشارية لمحكمة العدل الدولية، ولا يمكن بأي حال إلغاء هذا التراث، لمجرد أن هناك من يريد لفكرة تقرير المصير أن تنحرف عن أهدافها المتمثلة في تغليب خيار الوحدة على الانفصال.
هناك رفض معاودة النظر في مبادئ ومعايير التفاوض، والإشارة هنا صريحة إلى كون الإطار الذي أقره مجلس الأمن لانطلاق المفاوضات، جاء على خلفية القرار الشجاع الذي اتخذه المغرب، بطريقة المشاورات الديمقراطية مع سكان الأقاليم الجنوبية والقوى السياسية في البلاد لاستخلاص خطة الحكم الذاتي التي أشادت بها قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. والإشادة هنا تعني الترجيح والأفضلية والإجماع على أهمية هذا الخيار الديمقراطي الوحدوي، وفي الوقت ذاته نعت باقي الخيارات بالمستحيلة وعديمة الجدوى.
بيد أن هذا الرفض ينسحب على وضع بعثة «المينورسو» غير القابلة لأي تغيير، طالما أن مهمتها محددة بقرارات مجلس الأمن، وتخص رعاية وقف إطلاق النار، بعد سقوط الشطر الثاني من مهمة لجنة تحديد الهوية التي آلت إلى الانهيار، وأعلن مسؤولون أمميون إفلاس المخطط الأممي الذي أصبح متجاوزا. لكن الملك محمد السادس أضاف إلى محاولات التغيير التعسفي الذي لا يستند إلى أساس مرجعي في القانون الدولي وفي مهمة البعثة جانبا آخر يتعلق بمحاباة الطرف الآخر، أي الجزائر التي تحاول بعض الأطراف تحييدها مرحليا عن خطة المفاوضات، مع أن وجودها كطرف مباشر في إذكاء النزاع يضع على عاتقها مسؤوليات جسيمة. وبالتالي لا يمكن إحراز أي تقدم في غياب معادلات الأطراف المعنية مباشرة.
يترتب على هذه المحاولة غير الموضوعية وغير المنصفة أن تملص الجزائر من تحمل مسؤولياتها، يفقد المفاوضات شرعيتها، عدا أن المغرب ليس في وارد مقابلته بحركة انفصالية، لم تطلق رصاصة واحدة في مواجهة الاحتلال الإسباني، ولم تكن موجودة أصلا. وطالما أن الأمم المتحدة لا تعترف سوى بالدول الموكول إليها ضمان السلم والأمن، فإن أي توجه في محاباة الجزائر لا يساعد في تثبيت أركان السلم والاستقرار في المنطقة.
هذه اللاءات الصريحة يوازيها التزام مبدئي وينحو في اتجاهين مترابطين ومتلازمين. أولهما أن المغرب مستمر في تعاونه الثابت مع الأمم المتحدة، من دون أن يكون ذلك على حساب سيادته ووحدته وسلامة أراضيه ووجوده. ولا بديل كمرجعية ثابتة للمفاوضات سوى الحكم الذاتي الذي لم يكن «تنازلا» بل إقرارا بالمسار الطبيعي لتطور بنيات الدولة العصرية، وإسهاما إيجابيا في البحث عن سبل تأمين استقرار المنطقة المغاربية. خصوصا في ظل منافعه الوطنية والإقليمية كصيغة ديمقراطية في التدبير المحلي.
وثانيهما يهم المضي قدما في إقرار النظام الجهوي في الأقاليم الجنوبية، في سياق نقلة نوعية تشمل باقي الأقاليم، كما نص على ذلك دستور العام 2011. وإذا كان الملك محمد السادس يدعو إلى حوار وطني حول المنهجية المتقدمة التي تكفل مشاركة أوسع للسكان المعنيين، بما في ذلك المواطنين العائدين من جحيم تيندوف، فبالأحرى أن ينسحب مفهوم الحوار الوطني على بعده الإقليمي، بخاصة على صعيد العلاقات المتوترة بين المغرب والجزائر.
من هذا المنطلق تحديدا حرص الملك محمد السادس على إبراز مسؤولية الجزائر بكل صراحة ووضوح، إذ يقول: «دون تحميل المسؤولية للجزائر، الطرف الرئيسي في هذا النزاع، لن يكون هناك حل، وبدون منظور مسؤول للواقع الأمني المتوتر بالمنطقة لن يكون هناك استقرار». الأمر إذا يتعلق بالوقائع الملموسة والمواقف المكشوفة لدى الطرف الآخر، لكن لاءات المغاربة إنما تقول للسلطة الجزائرية: كفى.
ساحة النقاش