فلاش بريس= رشيد نيني
البورصة العائلية
تعددت تفسيرات الخبر السار الذي قال رئيس الحكومة إنه سيزفه للمغاربة يوم الإضراب العام. والواقع أن رئيس الحكومة استطاع بهذه الحيلة أن يجعل خبر المفاجأة السارة يطغى على خبر الإضراب نفسه، فانشغل الجميع بإعطاء تفسيرات لهذه المفاجأة، فمنهم من ذهب إلى أنها تتعلق بتحسن مؤشر الأعمال في المغرب، والحال أن موقع البنك الدولي يشير بوضوح إلى تراجع المغرب بثلاث نقط في هذا المجال.
المفرطون في التفاؤل قالوا إن الخبر السار الذي سيزفه بنكيران للمغاربة الذين طحنهم بالزيادات في كل شيء، هو إعلانه استقالته.
لا هذا ولا ذاك، كل ما في الأمر هو أن رئيس الحكومة تدخل من أجل تعديل جدول أعمال المجلس الحكومي لكي يتم تمرير المرسوم الخاص بمنح 300 ألف أرملة ما بين 350 إلى 1050 درهما كل شهر، بعد إدلائهن بوثائق تخرجهن من عين الإبرة، كعدم الخضوع للضريبة وإثبات حالة العوز وإثبات أمومة الأطفال بالحالة المدنية وعقود الازدياد وشهادة الحياة الخاصة بهم.
وعندما نتحدث عن شرط الحالة المدينة بالنسبة للأمهات الأرامل، فهذا يعني أن الأمهات العازبات اللواتي يتوفرن على أبناء لا يدخلن ضمن هذا المرسوم، مما يحرم حوالي 153 طفلا يولدون في المغرب يوميا خارج مؤسسة الزواج ضمنهم 24 طفلا يتم التخلي عنهم.
فهؤلاء الأمهات اللواتي وصل عددهن إلى 210.343 امرأة وضعن، على الأقل، 340.903 أطفال خلال الفترة الممتدة بين 2003 و2009، هن بنظر رئيس الحكومة بنات شوارع، وأبناؤهن أبناء زنا، ولا يليق بالحكومة الإسلامية أن تصرف المال العام لأناس من هذه الطينة.
خصوم رئيس الحكومة وحزبه، ومن والاه، يشعرون بالغضب والضيق بسبب إدراج هذا المرسوم الذي ستستفيد منه 300 ألف أسرة على بعد أشهر قليلة من الانتخابات الجماعية، التي يشكل فيها الفقراء احتياطيا انتخابيا لأحزاب الأعيان.
أما الأذرع الإعلامية لرئيس الحكومة وحزبه وحركته الدعوية، فجميعهم يهللون لهذا الفتح المبين الذي يربط الاستفادة من المنحة بتسجيل الأطفال في المدرسة.
هذه الفكرة ليست اختراعا خاصا بحزب العدالة والتنمية، فقد كنا أشرنا إلى ذلك قبل خمس سنوات من اليوم في نفس هذا العمود، وشرحنا كيف أن الرئيس البرازيلي السابق لولا تفتقت عبقريته عن فكرة خلاقة لتشجيع الأسر الفقيرة على إرسال أبنائها إلى المدارس.
وذلك بتوزيع منح شهرية على كل أسرة تتعهد بإرسال أطفالها إلى المدرسة، مع ضرورة التوفر على دفتر طبي لكل طفل يثبت تلقي الطفل للقاحات الضرورية في وقتها.. «هادي نساها بنكيران».
هذه الفكرة التي أطلقها الرئيس لولا، الذي لم يتخرج لا من مدرسة القناطر والطرق بباريس، وإنما من معمل متواضع للنجارة فقد فيه أحد أصابعه، اسمها «البورصة العائلية»، وهي المشروع الذي يجب على رئيس الحكومة عندنا أن ينقله حرفيا، عوض اجتزائه وتحويله إلى مجرد منحة للأرامل. وقد تم إحداث «البورصة العائلية» في برازيليا لاستهداف العائلات الفقيرة والفقيرة جدا، قبل أن يتم تعميمها بعد النجاح الذي عرفته سنة 2003 على كامل التراب البرازيلي.
واليوم يستفيد من «البورصة العائلية» حوالي 46 مليون برازيلي ينتمون إلى 12 مليون عائلة فقيرة. ويمكن للعائلة الفقيرة الواحدة أن تحصل شهريا على منحة قدرها 40 أورو، أما العائلة الفقيرة جدا فيمكن أن تحصل على 70 أورو في الشهر.
وبفضل هذه «البورصة العائلية» استطاعت الحكومة البرازيلية أن تنقذ من عتبة الفقر ملايين العائلات، بحيث نزلت نسبة الفقر من 34 بالمائة إلى 25 بالمائة. وأظهرت المؤشرات الاقتصادية تقلصا ظاهرا للفوارق الاجتماعية بين البرازيليين.
والنتيجة أنه خلال سنة 2007 مثلا فقد حوالي 4,1 ملايين برازيلي الحق في الاستفادة من منحة «البورصة العائلية»، لأنهم ببساطة غادروا عتبة الفقر ولم يعودوا في عداد الفقراء الذين يستجيبون لشروط الاستفادة من المنحة.
مشكلتنا في المغرب مع عباقرة الإصلاح التعليمي، أنهم يعتقدون أن التلميذ هو المحفظة والمقررات التي تثقلها وكفى، وينسون أن مئات الآلاف من التلاميذ يحرمون من الدراسة فقط لأن آباءهم يحتاجون إليهم في الحقول والمزارع والحظائر كمساعدين لكسب قوتهم اليومي.
كما ينسون أن مئات الآلاف من الفتيات يمنعهن آباؤهن من الذهاب إلى المدرسة في القرى، فقط لأن المراحيض مختلطة وليس فيها مراحيض خاصة بالفتيات.
وإذا كان تلاميذ بعض المدراس الحضرية يلجؤون إلى الحجارة للاستبراء بسبب غياب الماء، فمن المستحسن أن لا نتخيل حالة مدارس القرى البعيدة.
ثم كيف تريد من تلميذ يقطع خمسة كيلومترات مشيا على الأقدام تحت الشمس والمطر، ببطن فارغة في الغالب، أن يستوعــــــب الدرس وأن يحب المدرسة وأن يستمر على هذا الإيقاع السيزيفي سنوات أخرى إلى أن ينتقل إلى المدينة.
الجواب يأتي من دولة لديها 450 مليون مواطن يعيشون تحت عتبة الفقر، هي الهند.
فقد قررت وزارة التعليم الهندية أن تمنح أطفال المدارس وجبة غداء يومية. هكذا توزع الهند يوميا 118 مليون وجبة على المدارس لتشجيع الآباء على إرسال أبنائهم إليها.
إن الحل واضح للقضاء على الهدر المدرسي وتشجيع العائلات على إرسال أطفالهم في العالم القروي إلى المدرسة. يجب أولا دعم هذه العائلات ماديا وربط هذا الدعم بضرورة الحرص على تمدرس الأبناء، ثم بعد ذلك يجب التكفل بتغذية هؤلاء الأطفال الجائعين الذين يأتون إلى المدرسة ببطون فارغة.
وعندما أتذكر أيام المطعم في المدرسة سنوات السبعينات، وكيف كان الأطفال الفقراء والأيتام وأبناء الجنود المرابطين في الصحراء، يتناولون وجباتهم بانتظام بعد الانتهاء من الحصة الصباحية والمسائية في المطعم، أتأسف على ذلك الزمن الجميل الذي كانت فيه المدرسة امتدادا للبيت.
كان المغرب آنذاك يتوصل بمعونات عن طريق «برنامج ميدا» الأوربي، وكانت أطنان الزيت والدقيق والزبدة ومصبرات سمك التونة والجبنة الغنية بالبروتينات والمواد المقوية للجسم، تأتي من أمريكا في إطار برنامج المساعدات الغذائية. ويبدو أن بعض مسؤولي ذلك الزمن لم يفهموا جيدا عبارة «هدية من الولايات المتحدة الأمريكية لا تباع ولا تشترى»، التي كان الأمريكيون يكتبونها فوق مساعداتهم، ولذلك شرعوا ينزلون تلك المساعدات إلى الأسواق لبيعها. فطارت المساعدات وطارت معها «الميدا» التي كان يرسل عبرها الأوربيون إعاناتهم وبقي أطفال المدارس بلا طعام.
عباقرة الإصلاح التعليمي يغمضون أعينهم عن كل هذه التفاصيل التي بدونها تفقد المدرسة طعمها، خصوصا في دولة كالمغرب يعيش جزء كبير من سكانها على عتبة الفقر. وفي مقابل الصمت حول هذه التفاصيل، انشغل هؤلاء العباقرة بتقديم المشروع الاستعجالي كثورة حقيقية في مجال إصلاح التعليم، في الوقت الذي نرى أن الأرقام التي قدمها المشروع في ما يخص بناء الفصول الدراسية، لا تخرج عن الأرقام العادية المعمول بها منذ سنوات التسعينات.
عندما أعطينا مثالين لدولتين كالهند والبرازيل استطاعتا أن تضعا برامج فعالة وملموسة لتشجيع التعليم والقضاء على الفقر، فقد كنا نريد أن نقول إننا في المغرب مطالبون بالسير في نفس الاتجاه. لقد أدركت الهند أن التعليم والتكوين هو قشة الخلاص الذي يمكن أن يجعل منها إحدى الدول الرائدة في التكنولوجيا الدقيقة. واليوم يستحيل أن تعثر على دولة واحدة لا تصدر إليها الهند تقنياتها الحديثة في مجال المعلوميات الدقيقة.
أما البرازيل فقد فهمت أن مستقبلها رهين بتعليم أبنائها وإخراجهم من الفقر والشوارع. واليوم لم نعد نسمع عن عصابات تسخرها الشرطة في المدن السياحية البرازيلية لصيد أطفال شوارع ساو باولو بالرصاص وأخذ مقابل مادي عن كل رأس.
إننا مقبلون خلال سنوات قليلة على وضعية مشابهة لما عاشته البرازيل سنوات التسعينات، بسبب كارثة أطفال الشوارع. فلدينا في شوارع الدار البيضاء وحدها عشرة آلاف أم عازبة تجر أبناءها معها، رغم وجود 1400 حالة إجهاض سري يوميا في المغرب، أغلبها ناتج عن حمل غير شرعي.
إذا لم تضع الدولة مخططا عاجلا لإعادة الأطفال إلى مقاعد المدارس، وخلق بنيات لاستقبال أطفال الشوارع والأطفال المتخلى عنهم، وإعادة إدماج أمهاتهن عوض تركهن في الشوارع يفرخن قنابل الغد، فإن المغرب سيجد نفسه بعد سنوات قليلة وجها لوجه أمام كارثة إنسانية حقيقية.
هذه هي القنبلة الموقوتة التي على رئيس الحكومة أن يتحلى بالجرأة السياسية لنزع فتيلها، حتى لا يأتي يوم تنفجر فيه في وجوهنا جميعا.
ساحة النقاش