فلاش بريس= رشيد نيني
الشاب الداودي (2/2)
«الخبير الاقتصادي» الدكتور الداودي، يعرف أن عملية الخنق الممنهجة التي تعرضت لها المقاولات المتوسطة والصغرى في عهد حكومته، وعملية المحو التي تتعرض لها الطبقة الوسطى، والتي تشكل الأغلبية في قطاعه، وفرت شروطا موضوعية لفشل كل الشعارات التي سيتقدم بها. لكن ما لا يعرفه هو أن حرصه على جلب المستثمرين الأجانب في قطاع التعليم العلمي والتقني العالي لهذا البلد، وفي ظل هذه الطرفية الاقتصادية سيحول المغرب إلى «طباخ السمن» بلغة المشارقة، أي سيكون الأطر الجاهزة لأسواق دولية توفر المناخ الاقتصادي المناسب لاستقطاب خريجيه.
لقد أثبتت كل خرجات الداودي أنه يفتقر إلى رؤية إصلاحية شاملة لقطاع التعليم العالي، فهو يحاول أن يساير التوجهات الملكية حول ضرورة إيلاء الأهمية للتخصصات التقنية والعلمية، لكنه لا يملك رؤية لإصلاح وضعية الجامعات ذات الاستقطاب المفتوح، والتي تستقبل أكثر من 80 في المائة من الحاصلين على الباكلوريا. فنجده يكتفي بالحديث عن توفير القدرة الاستيعابية، وكأنه وزير تجهيز وليس وزير تعليم عالي، بينما لا يعطي جوابا لسؤال طرحته الخطابات الملكية أكثر من مرة، وهو لماذا ماتزال الجامعات ذات الاستقطاب المفتوح تخرج العاطلين؟
فالداودي يفتخر بأنه «أقنع» أكبر المعاهد العليا والجامعات العلمية بفتح فروعها في المغرب، وأقنع رئيس حكومته بكونه في حاجة لمساندة حزبه في هذا «الورش الكبير»، فعين إلى جانبه سمية بنخلدون، وهي جامعية مغمورة وحاصلة على المغادرة الطوعية بجامعة القنيطرة، متخصصة في الفيزياء ولكنها تكتب إنشاءات نسائية، ولم تكتب مقالة علمية واحدة منذ تعيينها أستاذة جامعية، اللهم إلا إذا استثنينا ثلاث مقالات، يمكن أن نقول عنها إنها علمية، نشرتها وهي طالبة لتحصل على الدكتوراه، كما يفعل أي راغب في الحصول على هذه الشهادة.
لذلك من الطبيعي أن تنضم لـ«فلسفة» الداودي في العمل، وتبدأ في «التبوريد» باللغة العربية الفصحى، حتى وهي تخاطب مانحين دوليين جاؤوا لتقديم مساعدة علمية أو منحا مالية.
وعلى سبيل المثال، ففي الجامعة الدولية التي يتواجد مقرها بضواحي الرباط، وتحديدا في طريق عكراش قرب «تكنوبوليس»، تصل نفقات التسجيل إلى 13 ألف درهم شهريا، وتتضمن مصاريف الدراسة والسكن والتغذية، ويمنع على الطلبة المسجلين فيها السكن أو التغذية خارجها، أي أن المستثمرين فيها، يربحون في كل شيء، بينما نفقات الدراسة في كبريات الجامعات الفرنسية مثلا لا تتعدى 7 آلاف درهم، والغريب هو أن عدد المسجلين في هذه الجامعة الدولية بلغ 500 طالب، أي أن الوزير الداودي وضع إمكاناته كلها في خدمة الأثرياء فقط، أما مئات الآلاف من الطلبة من أبناء الشعب فهم مضطرون للتوسل والوساطات للحصول على أسرة مهترئة في الأحياء الجامعية حيث اللوبيا والعدس تفتك بأمعائهم.
والملاحظ أن الداودي ومساعدته يركزان مجهوداتهما على خلق جامعات ومعاهد أجنبية تتطلب نفقات وواجبات تسجيل باهظة، بل وسمعنا الداودي يفتخر مرارا بذلك، بمعنى أنه يركز مجهوداته على نخبة من الطلبة الذين يملكون حلولا وليسوا في حاجة له، ونقصد الطلبة المتفوقين والميسورين، ويبذل أقصى جهوده لإحضار الجامعات الكبرى والمعاهد التقنية الكبيرة للاستثمار في المغرب، ويعتبر ذلك من حسناته، مع أن المناخ الاقتصادي المحيط بهذه الجامعات غير مؤهل إطلاقا لاستقبال هؤلاء الطلبة بعد تخرجهم، فمن يملك القدرة، المعرفية والمادية، للتسجيل في جامعة أو معهد أمريكي أو كندي أو ألماني متواجد بالمغرب لن يعدم القدرة على التسجيل في المقر المركزي لهذه المعاهد في بلده الأم، بينما عندما يتعلق الأمر بمئات الآلاف من الطلبة، والذين هم ضحايا سياسة تعليمية مدرسية، جعلت منهم معاقين في اللغات، ومنعدمي الكفاءات، فإنه فقط يفكر في «حبوب التنويم» كرفع الطاقة الاستيعابية وتوفير الأساتذة، بينما السؤال الحقيقي الذي لا يجيب عنه هو: «ومن بعد»؟
هذا السؤال،والذي يتجاوز بكل تأكيد الداودي ومساعدته،موجه للحكومة ككل، فهذه السنة تخرج فوج رافق إشراف هذه الحكومة على الجامعة، والتحق عشرات آلاف من الخريجين الجدد، برفاقهم الذين حاصروا بنكيران في الشارع العام، ففيما سيتخرج المتفوقون الميسورون ويلتحقون بالفرص التي تتيحها لهم أسواق الشغل في بلدان أخرى، سيحصد الداودي وبنكيران المزيد من الغاضبين الذين يعتبرون التوظيف المباشر حقا مقدسا، يستحق أن ينتحروا من أجله.
فما لا ينتبه له هذا الوزير المزاجي، هو أنه في غياب مشروع توافقي لا يمكن إصلاح الجامعة، وهذه حقيقة لا يحجبها إلا عماء البصيرة، سيما أن طبيعة التعليم العالي بالمغرب والأعراف الراسخة التي تراكمت عبر عقود، تحول دون أن ينجح أي مشروع لم يأخذ بعين الاعتبار المعطيات التالية:
أولا، الجبهة الموحدة للموارد البشرية، والمتمثلة في النقابة الوطنية للتعليم العالي، وهي نقابة رغم كل صراعاتها الداخلية، تشكل استثناء في مغرب نقابي وحزبي منقسم، لذلك لا يمكن إنجاح أي مشروع دون المرور عبر هذا الإطار.
ثانيا، الطبيعة غير المستقلة للساحة الطلابية، والتي يتوفر فيها حزب العدالة والتنمية على قاعدة كَمّية محترمة، وهذا يجعله غير قادر على الإجابة عن سؤال المجانية، لذلك فحزبه يوجد في موقع لا يحسد عليه، إذ لا يمكنه المغامرة بخلفيته الشبابية، أي لا يمكنه فقدان «أدواته» الانتخابية، وفي نفس الوقت لا يمكنه التقدم بمشروع حقيقي يفترض شجاعة ما، لذلك لم يجد بدا من «التطاول» على اختصاصات الأساتذة والعمداء والرؤساء لإلهاء الرأي العام.
وكل هذه المعطيات، التي يتداخل فيها الطابع الشخصي المتقلب للحسن الداودي، بطبيعة الظرفية السياسية الحزبية غير الطبيعية التي يمر منها المغرب، وخاصة منذ سيطرة إدريس لشكر على حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو الحزب المهيمن على نقابة التعليم العالي، هي معطيات لا محيد عنها لفهم العلاقة المتشنجة بين هذا الوزير، منذ مجيئه، مع هذه النقابة، إذ دخل الطرفان في حرب حقيقية، آخر معاركها، قرار مكتبها خوض إضراب طويل يصل إلى أربعة أيام كاملة، وذلك مباشرة بعد تنفيذ إضراب لثلاثة أيام، وهي مدة غير مسبوقة في سنة واحد تنفذها هذه النقابة في هذه المدة القصيرة.
ومنذ قرار حزب إدريس لشكر الخروج للمعارضة، تحولت هذه النقابة إلى أرض معركة حقيقية بين حزب «المصباح» وحزب «الوردة»، وما وقع في المؤتمر الأخير للنقابة الوطنية للتعليم العالي، خير دليل على ذلك، إذ انسحب تيار بنكيران من المؤتمر ضدا على ما يسميه «التيار الأبوي»، أي تيار الاتحاد الاشتراكي، لذلك فقد انخرط الداودي سريعا في توجه جديد منذ هذا الانسحاب في 2012، وهو شق هذه النقابة والإعلان عن نقابة للتعليم العالي تابعة للحزب، على غرار ما وقع في تركيا، وهو توجه لم يعد مجرد تهديد كما كان إبان المؤتمر، بل تم الإعداد لكل الترتيبات لإعلان هذا الانشقاق. لذلك فالحسن الداودي، بالإضافة إلى مزاجيته، يقوم بواجب حزبي عندما يدفع علاقته بهذه النقابة نحو الباب المسدود، وللمزيد من التشنج، لدفعها لارتكاب الأخطاء، وإظهارها أمام الرأي العام بمظهر النقابة الحزبية التي لا تهتم بمصلحة الطلبة، وذلك لتبرير الانشقاق، وهي مسألة وقت فقط.
وفي انتظار ما ستسفر عنه هذه الحرب، يمكن تلخيص مشكلة الجامعة المغربية في كونها ساحة تتصارع فيها رؤيتان متناقضتان، ولا مجال للتوفيق بينهما، رؤية تتبناها الدولة وهي ربط الجامعة بالعولمة، لكن دون أن توفر لهذه الرؤية الحد الأدنى من الشروط المادية واللوجسيتيكة والبشرية المناسبة، في مقابل رؤية تقليدية تعتبر الجامعة مختبرا للتفكير الحر، بعيدا عن كل أجندات الدولة «الرجعية» عند البعض، و«الكبحية» عند البعض الآخر، لكن دون أن تكون لديهم هم أيضا أجوبة حول أسئلة التحديث والتنمية. وهذا يعد في حد ذاته مشكلة تمس مدى قابلية كل مشاريع إصلاح الجامعة للتنفيذ. ففيما يستمر الداودي في ممارسة هواية الكلام والتنطع، وتستمر النقابة في ممارسة هواية الإضراب، تستمر الجامعات في المقابل في إنجاز وظيفتها التقليدية، أي تخريج العاطلين.
ساحة النقاش