فلاش بريس= رشيد نيني
شوف وسكت
عندما جاءت حكومة التناوب الأولى جاءت متحمسة لمحاربة الفساد، وعندما استوى وزراؤها فوق كراسيهم الوثيرة واكتشفوا خطورة مغامرة محاربة الفساد، اخترع عبد الرحمان اليوسفي نظرية «نحن لم نأت لمطاردة الساحرات».
وعندما جاءت حكومة عبد الإله بنكيران على صهوة شعار «محاربة الفساد والاستبداد»، واكتشفت مدى تغول الفساد، ابتدع رئيسها شعار «عفا الله عما سلف»، وهو الشعار الذي شرحه مؤخرا النائب أفتاتي عندما قال إن العدالة والتنمية ليس نباشا للقبور.
والمصيبة ليست في كون حكومة بنكيران عاجزة عن محاربة الفساد، بل إن كل من يجرؤ على فضح الفساد في عهدها يكون مصيره المحاكمة.
ولنا في الموظف فاضح علاوات مزوار وبنسودة بوزارة المالية، والمهندس فاضح الفساد بوزارة العدل، خير مثال على أن نظرية المغاربة القائلة «مادير خير ما يطرا باس» هي الرائجة. فالأول وجد نفسه في مواجهة القضاء، والثاني وجد نفسه في مواجهة الإهمال والنسيان.
بما أنه في المغرب كل من فضح الفساد داخل المؤسسة التي يشتغل فيها يكون مصيره إما الطرد وإما السجن، فإن فكرة إنشاء «جمعية ضحايا فاضحي الفساد» أصبحت ضرورية أكثر من أي وقت مضى. وأحد الأشياء المهمة التي يجب على هذه الجمعية إصدارها، هو دليل يتضمن نصائح عملية لكل موظف عمومي يفكر في فضح الفساد في المؤسسة التي يشتغل فيها..
على كل موظف قرر أن يفضح الفساد وأخذ ورقة وقلما ليدون خروقات رئيسه بالمؤسسة العمومية التي يشتغل بها، أن يعرف أنه لا يدون فقط خروقات رئيسه وإنما أيضا يدون محضر إدانته، لذلك عليه أن يحرص ما أمكن على أن تكون الجرائم التي يتهم بها رئيسه الفاسد صغيرة، ببساطة لأنها الجرائم نفسها التي سيحاكم من أجلها. الموظف طبعا وليس الرئيس الفاسد.
وأول شيء يجب أن تفعله إذا كنت موظفا نزيها عندما يتم اعتقالك، هو ألا تنخدع عندما سيطلبون منك سرد جميع الخروقات التي كنت شاهدا عليها، بدعوى أنهم سيفتحون تحقيقا نزيها ومفصلا حولها. لهذا لا يجب أن تطلق لسانك في عد الخروقات بسذاجة، فرجال الدرك والأمن لن يفتحوا حولها أي تحقيق، بل إنهم يريدون فقط على ضوء الخروقات التي فضحت، أن يقيموا درجة خطورتك وعدد سنوات السجن الكافية للحد من حماسك واندفاعك.
وطبعا قبل عرضك على المحكمة سيعينون لك محاميا فاشلا ومخادعا. سيصنع كل ما بوسعه لكي يبشرك بالفرج العاجل، دون أن ينسى مطالبتك بعدم عرض قضيتك على صفحات الجرائد، لأن ذلك من شأنه إرباك خطته الدفاعية. أول شيء يجب أن تصنعه هو عدم الثقة به، وعليك أن ترفض مساعدة كل المحامين الذين سيعرضون عليك. كما أنه لا داعي لتنصيب أي محام أصلا، لأن محاكمتك ستكون في حاجة إلى عدالة وليس إلى محام. وهذا سيوفر على عائلتك مصاريف إضافية قد تذهب إلى جيوب المحامين.
عندما ستقف أمام القاضي لا تجهد نفسك في عرض حججك، لأن حكم إدانتك مكتوب سلفا، وهذه المحاكمة في الواقع ليست سوى مسرحية يقوم فيها القاضي بدور الإخراج، بينما تلعب فيها أنت دور البطل الذي يكتشف بعد صدور الحكم، أنه لم يكن سوى ضحية، وأن تذكرة هذه المسرحية ستؤدي ثمنها سنوات من السجن تصرفها من رصيد أحلى سنوات العمر.
مباشرة بعد صدور الحكم عليك، سيتم رميك وسط زنزانة يتزاحم فيها عتاة المجرمين. لا تخف عندما سيقترب منك أبطشهم وسيخاطبك بلغة «الحباسة» التي لا تفهمها، سيسألك عن تهمتك، «واش جاي على بطانة؟»، فتذكر أن «بطانة» تعني بلغة «الحباسة» الجثة، أي القتل.
وطبعا ستحار في شرح جريمتك لهؤلاء المجرمين، فتهمتك غير متداولة بينهم، كما أن أغلب تهم السجناء مختصرة في كلمة واحدة كالقتل والاغتصاب والسرقة والمخدرات. وبما أن تهمتك الحقيقية هي «محاربة الفساد»، فما عليك سوى تلخيصها في كلمة واحدة وذلك بحذف كلمة «محاربة» وقل لهم فقط «الفساد». هكذا سيظنون أنهم ضبطوك متلبسا بين أحضان عاهرة. وعليك ألا تخجل من هذه التهمة، فالسجناء يتداولون بينهم صفة جرائمهم بافتخار، لأن طبيعة الجريمة هي التي تحدد المكانة الاجتماعية للسجين بين باقي السجناء.
عندما سيأتي والدك ووالدتك لزيارتك أول مرة، سيشرعان في البكاء. لا تحاول منعهما من ذلك، فهما لا يبكيان على مصيرك وإنما على مصير عدالة بلادك. ولا تنسَ في نهاية الزيارة أن تحدد لهما موعدا شهريا لزيارتك. وتجنب المواعد الأسبوعية، لأن سنوات السجن طويلة ومصاريف الزيارة سترهقهما، فهما الوحيدان اللذان سيداومان على زيارتك.
حتما ستراودك وأنت في السجن فكرة عرض قضيتك أمام الرأي العام. عليك أن تتأكد أولا بأن الرأي العام شيء غير موجود في المغرب. وإذا فكرت في مراسلة الجرائد فعليك أن تحذف من ذهنك مراسلة الجرائد الحزبية، فهي لن تنشر لك كلمة واحدة حول قضيتك. راسل الجرائد المستقلة، ولا تستغرب إذا ما نشرت حولك خبرا في اليوم الأول في الصفحة الأولى، ثم بدأت مع توالي الأعداد تقذف بك نحو صفحاتها الداخلية. وبعد عشرين يوما ستمتنع هذه الجرائد عن نشر رسائلك بدعوى التقادم. هكذا ستفهم أن قضيتك تحتاج إلى عشرين سنة لكي تتقادم جنائيا، بينما لا تحتاج سوى إلى عشرين يوما لكي تتقادم إعلاميا.
وأنت تعد الأيام في سجنك لا شك أنك ستتذكر أننا في المغرب لدينا ما يزيد عن ثلاثين حزبا سياسيا بإمكانهم دعمك في محنتك. إياك ثم إياك أن تصدق هذا الوهم، وإلا سيحدث معك مثلما حدث مع أحدهم عندما طلب من أحد قادة حزب يساري «عتيد» حل بالسجن رفقة أعضاء من لجنة العدل والتشريع، مساعدته في التعريف بقضيته، فما كان من القيادي الحزبي سوى أن أشعل سيجارته الشقراء ونفث دخانها في وجه السجين وأدار ظهره وانصرف. لهذا لا تفكر في طلب دعم من أحزاب هي نفسها تطلب الدعم من الدولة.
عندما تخذلك الصحافة والأحزاب ستدير وجهك نحو المنظمات الحقوقية، وستجد أن عددها يفوق العشرة. لكن عليك أن تكون قنوعا وغير أناني، وألا تطلب منها القيام بتحركات ميدانية لإطلاق سراحك. فكل ما يمكنها أن تصنعه من أجلك هو أنها ستتذكرك مرة واحدة كل سنة بمناسبة إصدارها لتقريرها السنوي، حيث ستكتفي بإدراج اسمك ضمن لائحة معتقلي الرأي.
عليك أن تكون دائما على استعداد نفسي لسماع أخبار محزنة حول أسرتك الصغيرة، حتى تتجنب الصدمات.
إذا استطعت أن تغادر السجن بعد قضاء عقوبتك سليما في عقلك وجسدك، ستكتشف أنك غادرت سجنا أصغر إلى سجن أكبر. ستجد نفسك بلا كرامة وحيدا مشردا ومراقبا ومحاصرا في خبزك. لهذا ستراودك فكرة مغادرة هذا الوطن.
سترى نفسك وقد تحولت إلى لاجئ سياسي في إحدى الدول الغربية، لكن قبل أن تغادر الوطن للجوء في أوطان الآخرين، عليك أن تلجأ أولا إلى أقرب مغارة لكي تنحت على صخرها ملخصا لقضيتك. وكن متأكدا أن هذه الصخرة الجامدة ستبقى وفية لرسالتك إلى أن يأتي زمن آخر بعد مئات السنين سينصفك فيه علماء الأنثروبولوجيا. سينصفك التاريخ على يد هؤلاء العلماء بعد أن عجزت نخبة زمانك عن القيام بذلك.
وحتى على افتراض أنك كنت محظوظا وحصلت على لجوء اجتماعي في دولة غربية، ستحصل أخيرا على قدر من الكرامة، لكنك في المقابل ستكتشف أنك فقدت وطنك.
عندها ستطرح على نفسك سؤالا فلسفيا عميقا لن تجد له جوابا مقنعا، «أيهما أولى، الوطن أو الكرامة؟».
ساحة النقاش